«أصحاب… ولا أعز» دراما بديعة عن شخصيات تعيش حياتين

نال هجوماً لا يستحقه واتُهم بما لم يطرحه

فيلم {أصحاب... ولا أعز}
فيلم {أصحاب... ولا أعز}
TT

«أصحاب… ولا أعز» دراما بديعة عن شخصيات تعيش حياتين

فيلم {أصحاب... ولا أعز}
فيلم {أصحاب... ولا أعز}

بعد زوبعة فيلم «ريش» ثم عاصفة في «أميرة» ها هو إعصار جديد يضرب أوساط المتابعين ذوي المصادر المختلفة والاتجاهات المتعددة اسمه «أصحاب... ولا أعز».‬
بالنسبة لفيلم «ريش» كان الاتهام الموجه إليه أنه ليس واقعياً. مصر أفضل من الصورة الماثلة فيه. هي بالفعل أفضل، لكن هذا لا يعني أن الفيلم بحد ذاته جيد أو رديء، والنقد الفعلي هو من ينطلق من تحديد مستواه الفني قبل أي اعتبار آخر.‬
بالنسبة لفيلم «أميرة» كانت التهمة الموجهة إليه، أنه يُهين الفلسطينيين «بوضوح»، كما ذكر البعض، بسبب حكايته التي تروي كيف يهرّب السجناء الفلسطينيون نطفهم إلى زوجاتهم. من دون مشاهدة الفيلم بعد ليس هناك من معرفة لكيف يمكن أن يكون ذلك موضوعا إيجابيا أو سلبياً، لكن الفيلم تعرّض لهجوم حاد أدّى إلى منعه وسحب ترشيح الأردن له في سجالات الأوسكار الأولى (كما لو كان من المؤكد أنه سيفوز بالترشيحات الرسمية أساساً). بعض الكتّاب ذهب إلى حد التجريح الشخصي واصفاً محمد دياب بـ«الحقير»!‬
الآن، هناك فيلم ثالث، فيما يبدو أنه أصبح تياراً يتبناه المتشددون والرافضون الذين رأوا فيه عملاً مخلاً بالآداب يستورد ثقافة أجنبية ليزرعها في عقول مشاهديه العرب. يتبنى مفاهيم غربية موجهة صوب الجيل الجديد فتنشُر وتنتشِر. من يقرأ ذلك قد يعتقد أن السماء أمطرت بذوراً تسطو على البشر حين ينامون وتحوّلهم في اليوم التالي إلى أشرار، كما كان الحال في فيلم دون سيغال Invasion of the Body Snatchers سنة 1956.‬
طبعاً هناك أصوات عديدة أيّدت هذا الفيلم تحديداً وعارضت ما قيل بشأنه؛ وهذا ما زاد من حرارة النقاش الذي لم يستحق أن يقع على غير أسسه. هو فيلم ترفيهي ذو قيمة فنية جيدة، وهذا كل ما علينا البحث فيه. ‬

‬أسرار وخفايا
هناك صِنف درامي يقوم على الحبكة التالية: أفراد عائلة واحدة، أو مجموعة من عائلات أو من أصدقاء، يلتقون في مناسبة غداء أو عشاء في جو منشرح وسعيد وتبقى الكاميرا معهم في داخل البيت ترقب سلوكياتهم وتفاعلاتهم عندما ‪تنفك العقد من معاقلها‬ فينكشف المستور وتبرز الخلافات وينقلب الجو المرح إلى أزمات شخصية عاصفة.
ما زلت أحتفظ بذكريات جميلة عن فيلم «الدعوة» للسويسري كلود غوريتا (1973)، وهناك بالطبع فيلم لوي بونييل «السحر الخفي للبرجوازية» (Le Charme discret de la Bourgeoisie) قبل فيلم غوريتا بعام واحد. بعد ذلك هناك «الاحتفال» (The Celebration) للدنماركي توماس ڤنتربيرغ (1993)، والكثير من الأفلام التي تأسست على هذه الثيمة بعضها - بطبيعة الحال - أنجح وأفضل من بعضها الآخر. وكان المخرج اللبناني لوسيان بورجيلي حقق فيلمه الأول (والأخير للآن) «غداء العيد» على هذا النحو سنة 2017.
في سنة 2016 قام المخرج الإيطالي باولو جينوڤيزي بتحقيق فيلم بعنوان Perfetti Sconoscuuti تضمّن حكاية بسيطة القوام حول مجموعة من الأصدقاء وزوجاتهم بقبول حفل عشاء، ودلفوا إلى لعبة مفادها فتح الهواتف على أي اتصال بحيث يسمع الجميع من اتصل بمن ولماذا. فكرة سخيفة لفيلم وسخيفة كلعبة داخل الفيلم، لكن العمل كان جيداً فيما أحب أن يكون عليه ويهتم بطرحه. صوّره فابريزيو لوتشي الذي صوّر بعد عام فيلماً آخر لجينوڤيزي عنوانه «المكان» (The Place) كان تحويراً للموضوع السابق إلى حد ملحوظ.
نال «غرباء مثاليون» رواجاً من نوع فريد: اشترت حقوق تنفيذه شركات فرنسية ويونانية وإسبانية وبولندية وتركية (ونحو عشرة سواها)، وكل منها حققته بلغتها ولجمهورها. النسخة العربية هي إنتاج لبناني - مصري قامت «نتفيلكس» بشرائه وانقسم حوله، كما هو معروف، الجمهور العربي ما بين معجب ومُهاجم.
هناك سبعة أشخاص في البيت: صاحبا البيت مي (نادين لبكي) وزوجها وليد (جورج خبّاز) والزوجان المصريان مريم (منى زكي) وزوجها شريف (إياد نصّار) والزوجان جانا (دايامان أبو عبّود) وزياد (عادل كرم) والصديق ربيع (فؤاد يمّين) منفرداً. جو البداية بطبيعته دافئ وأنيس يتوتّر بعد قليل مع بدء العشاء وقرار ممارسة لعبة في جوهرها سخيفة، لكن الجميع موافق عليها، ولو بدرجات. هذا ما سيكشف للجميع أسراراً تنسف الاستقرار البادي وتهز الثقة بين كل زوجين مع تبادل فضائح كانت خافية عن الجميع. كل واحد منهم كان يخفي سرّاً اضطر إلى البوح به، لكن شريف يقع في معضلة أكبر شأناً من الآخرين عندما يحاول أن يتحاشى تسلم صور خليعة يعلم أنها ستصله على هاتفه في الساعة العاشرة؛ ما يجعله يستبدل هاتفه بهاتف ربيع (الشبيه بهاتفه) دون أن يتوقع شريف أن لربيع صديقاً يرتبط معه بعلاقة مثلية سيتصل به. جزء كبير من الفيلم يتمحور حول هذا الإشكال بعدما اتصل الصديق وباح بحبه ما جعل شريف يواجه إحراجاً كبيراً لأن زوجته مريم وباقي الموجودين (باستثناء ربيع) اعتقدوا أن شريف مُثلي وهو بريء من التهمة، وأن صعب عليه الإدلاء بالحقيقة.

قلباً وقالباً
الفيلم يقول كل شيء بخصوص شخصياته التي لديها ما تخفيه وحول مجتمع يؤمن بإخفاء الحقائق أو مزاولة حياتين معاً، لكن الكتابة لا تدعو لأي شيء. بالتأكيد ليس للانحراف والخيانة والمُثلية ولا تذهب لتبني رأي أخلاقي مع أو ضد أحد. ليس هناك رسالة واحدة في هذا الفيلم تحبّذ توجّهاً غير أخلاقي. ما يقوله لا يُنظر إليه من هذه الزاوية لأنه غير موجود في هذا الإطار. إن كان هناك ثمة رسالة فيه فهي عن واقع نعيشه وهي تغليف حياة الشخص الواحد منّا بما يناسبه من ادعاءات ليبدو نزيهاً ونظيفاً وخالياً من العثرات والشوائب.
الفيلم لبناني اللهجة يتحدّث عن لبنانيين، لكن هذه الرسالة لها صدى عربي كما كان للنسخة الإيطالية صدى غربي.
ما توقف عنده كثيرون أن الفيلم يدعو للخيانة الزوجية وللمثلية. لا هذا صحيح ولا ذاك، لكن الصحيح أن الخيانات من قِبل الطرفين موجودة بطبيعة التكوين الإنساني والمُثلية كذلك. من المضحك أن نعتبر أن هناك دعوة لوضع موجود. الرأي الشخصي هنا لا علاقة له بالمسألة المطروحة في الفيلم.
كذلك قال المنتقدون إن الفيلم نسخة كاملة من الفيلم السابق. البعض وصفه بأنه Cut and Paste. ولنا أن نتصوّر المخرج وسيم سْميره وهو يجلس كل يوم وليلة على الكومبيوتر يفحص كل لقطة ليصوّر في اليوم التالي مثلها. ربما معه في الغرفة الممثلون وهم يمعنون في كيف قام جيسيبي باتستن وآنا فوغلييتا وماركو جيالي وباقي الطاقم الإيطالي من الممثلين بتحريك أيديهم وأبدانهم والتعبير بوجوههم وأصواتهم لتكون نسخاً أمينة للأصل.
الشيء الوحيد الذي أبقاه المخرج حاضراً هو أن لحى بعض شخصياته الرجالية تشبه لحى بعض شخصيات الفيلم الإيطالي. بطبيعة الحال، المكان في الفيلمين مغلق والحكاية واحدة، لكن تحريك الكاميرا، على سبيل المثال، مختلف تماماً ووراء ذلك كيفية معالجة كل من المخرجين (سْميرَة و جينوڤيزي) للعلاقة بين الصورة والموضوع.
تمثيل الجميع، بلا أي استثناء، كان رائعاً في ارتداء الشخصية قلباً وقالباً. كل واحد من الممثلين تعايش مع شخصيته بطريقة طبيعية وباحتراف رائع. لم يكن هناك داعٍ للتمثيل بوتيرة درامية عالية تنضوي تحت سطح المتوقع لفيلم يريد كل شيء على مستوى طبيعي من التصرفات والسلوكيات.
في هذا الإطار، يا له من دور مختلف للممثلة المصرية منى زكي. كانت هناك خشية من ألا تتأقلم مع ممثلين معظمهم لبناني. لكن قبضة المخرج على الجميع كانت متساوية. لم يسمح بأي خلل من أي نوع في هذا الشأن.
الأمر ذاته منسحب على عنصري التصوير (لسفيان الفاني) والتوليف (لشيرين دبس) حيويان بلا هفوات. هذا ليس فيلماً للفن لكي نتوقع لقطات ذات بؤرة عميقة أو لعب على الإضاءة والظلال، ولا لنتوقع مشاهد ذات إيقاع يختلف عما اختاره المخرج بعناية.
النهاية وحدها هي التي تمر في أزمة. حال خروج الجميع مغادرين المنزل يعود إليهم صفاء سريع غير واضح السبب. هناك اعتقاد بأن النهاية رمزية وأن اللعبة لم تقع أو ربما كانت لعبة محسوبة (لعبة داخل لعبة). الواضح أن اللعبة وقعت بأزماتها لأن هذا هو جوهر الفيلم بأسره. لكن الالتباس الحاصل نتيجة مشكلة لم ينجح المخرج وكاتبه (غبريال يمّين) في تفاديها: أكثر من مرّة يركض الجميع لمراقبة القمر وهو في حالة خسوف. الرغبة هنا هي تأكيد دور الخسوف في الحكاية. حال يقع تنطلق الأزمات. حال ينتهي تنتهي الأزمات.
«أصحاب... ولا أعز» إضافة جيدة لتجارب شبابية مبهرة. الحكم ليس على ما نريده نحن من الفيلم بل على ما أراده المخرج وإذا ما نجح فيه أو لا. الباقي آراء شخصية ووجهات نظر تُحترم لحق أصحابها في إبداء الرأي، لكنها ليست نقداً، خصوصاً إذا ما كان المنتقد لم يشاهد النسخة الأصلية وربما لم يشاهد النسخة العربية أيضاً.


مقالات ذات صلة

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق محمد سعد في العرض الخاص لفيلم «الدشاش» (الشركة المنتجة للفيلم)

هل استعاد محمد سعد «توازنه» بفضل «الدشاش»؟

حقق فيلم «الدشاش» للفنان المصري محمد سعد الإيرادات اليومية لشباك التذاكر المصري منذ طرحه بدور العرض.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق تماثيل وقوالب من الفخار مصنوعة قبل الميلاد (مكتبة الإسكندرية)

«صناعة الفخار»... وثائقي مصري يستدعي حرفة من زمن الفراعنة

يستدعي الفيلم الوثائقي «حرفة الفخار» تاريخ هذه الصناعة التي تحمل طابعاً فنياً في بعض جوانبها، على مدى التاريخ المصري القديم، منذ أيام الفراعنة.

محمد الكفراوي (القاهرة)
يوميات الشرق لقطة من الفيلم تجمع «شاهيناز» وأولادها (الشركة المنتجة)

«المستريحة»... فيلم مصري يتناول النصّابين يمزج الكوميديا بالإثارة

تصدَّرت مجسّمات دعائية للأبطال دار العرض عبر لقطات من الفيلم تُعبّر عنهم، فظهرت ليلى علوي في مجسّم خشبيّ جالسةً على حافة حوض استحمام مليء بالدولارات.

انتصار دردير (القاهرة )

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)