لأول مرة منذ انطلاق المفاوضات النووية في فيينا في أبريل (نيسان) ومعاودتها نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) بعد انقطاع خمسة أشهر، يتوافر إجماع بين جميع الأطراف المشاركة على أن المفاوضات دخلت مرحلتها الأخيرة وأن اتفاقاً يَلوح في الأفق. وهذا التوصيف بدا واضحاً يوم الجمعة الماضي عندما قرر المتفاوضون العودة إلى عواصمهم من أجل التشاور بسبب الحاجة لـ«اتخاذ قرارات سياسية» تمكّن من اجتياز المائة متر المتبقية قبل بلوغ نقطة النهاية. وفي باريس، أعلن مصدر رئاسي أن «ثمة عدة مؤشرات تدل على أن المفاوضات يمكن أن تتكلل بالنجاح».
وفي هذا السياق يندرج الاتصال الذي قام به الرئيس إيمانويل ماكرون بنظيره الإيراني إبراهيم رئيسي، يوم السبت، والذي وصفه بيان الإليزيه الصادر أمس (الأحد)، بأنه كان «محادثة مطولة» شكّل الملف النووي صلبها، لكنها تناولت، إلى جانب ذلك، مواضيع إقليمية كالوضع في الخليج وفي لبنان واليمن ووضع الرهينتين الفرنسيتين في إيران.
حقيقة الأمر أن ماكرون يريد أن يكون له دور في اجتياز العقبات الأخيرة، ويأمل هذه المرة أن يحالفه الحظ بعكس ما حصل له في خريف عام 2019 عندما سعى للجمع بين الرئيسين السابقين دونالد ترمب وحسن روحاني في نيويورك، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة أو في مدينة بياريتز (جنوب غربي فرنسا)، على هامش قمة مجموعة السبع التي ترأستها باريس ذاك العام. وما يسعى إليه ماكرون هو المساعدة على تخطي العقبات الأخيرة. وسبق لإيران أن اتهمت باريس بأنها تلعب دور «الشرطي السيئ» بالنظر إلى المواقف المتصلبة التي كانت تعبّر عنها ومنها التمسك بأن يأتي الاتفاق الذي يتم التفاوض بشأنه على موضوعي البرنامج الصاروخي - الباليستي الإيراني وسياسة طهران الإقليمية التي تصفها باريس بأنها «مزعزِعة للاستقرار». كذلك، فإن ماكرون طالب خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها لثلاث دول خليجية «قطر والإمارات والسعودية» بأن تكون هذه الدول جزءاً من المفاوضات أو أن تؤخذ مصالحها بعين الاعتبار. وتجدر الإشارة إلى أن باريس كانت الأكثر تشدداً في عام 2015 إزاء شروط الاتفاق، وأن لوران فابيوس، وزير الخارجية وقتها، أطاح مسودة اتفاق كان يريدها الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما لأنه وجد أن شروطها متساهلة للغاية مع نووي إيران.
وفي البيان الذي أصدره قصر الإليزيه، أمس، عن الاتصال الهاتفي بإبراهيم رئيسي، جاء أن ماكرون «أكد قناعته أن حلاً دبلوماسياً يبقى ممكناً وواجباً»، وأنه شدد على أن أي اتفاق «سيتطلب التزامات واضحة وكافية من جميع الأطراف، تعمل فرنسا من أجلها مع شركائها كافة». وجاء في البيان أيضاً أن الرئيس الفرنسي «أصر على ضرورة تسريع (جهود التفاوض) من أجل تحقيق تقدم ملموس بسرعة في هذا الإطار»، داعياً طهران إلى «ضرورة أن تبرهن على أنها تعتمد نهجاً بنّاءً وتعود إلى التنفيذ الكامل لالتزاماتها».
لا يحمل بيان الإليزيه، من حيث المضمون بشكل عام، أي جديد لأنه يستعيد الأدبيات المعروفة حول ضرورة التوصل سريعاً لاتفاق جديد بالنظر لسرعة تقدم وتطور البرنامج النووي الإيراني على المستويات كافة. كذلك، فإنه يصر على تنفيذ إيران لالتزاماتها، وهو أمر درج عليه الغربيون منذ بدء المفاوضات. ويصح الأمر عينه على «قناعته» بإمكانية التوصل إلى اتفاق، وهو ما أكدته الأطراف كافة، فضلاً عن اعتباره «واجباً». بيد أن جديد ماكرون أنه سعى للالتزام بموقف وسطي في تأكيده أن الاتفاق العتيد «سيتطلب التزامات واضحة وكافية من جميع الأطراف»، ما يعني عملياً أنه يرى أن طهران مصيبة في مطالبتها بضمانات تمنع الطرف الأميركي من الخروج مجدداً من الاتفاق أو على الأقل من فرض عقوبات عابرة للحدود. وحتى اليوم، كانت هذه الإشكالية المعضلة الرئيسية التي حالت دون الوصول إلى توافق بعد أن عادت طهران لقبول مبدأ «التماثلية» و«التزامن» والرفع التدريجي للعقوبات الأميركية لا بل إن إيران تراجعت أيضاً بخصوص رفض التفاوض المباشر مع الجانب الأميركي بعد أن جعلت ذلك موقفاً «مبدئياً».
هكذا، فإن إشارة البيان الفرنسي إلى أن باريس «تعمل مع جميع شركائها» بشأن الالتزامات «الواضحة والكافية» لجميع الأطراف، تدلّ على أن الجانب الفرنسي يمسك العصا من وسطها، ولا يحمّل إيران مسؤولية التأخير، لا بل إنه بصدد طرح «أفكار» للتغلب على العقبات المتبقية التي وصفها بيان الرئاسة الإيرانية بـ«مواضيع أساسية عالقة».
وحسب طهران، فإنها تتناول الضمانات ورفع العقوبات والتحقق من ذلك. وحتى اليوم، لم تتسرب معلومات وافية عن الطروحات التي تتناول موضوع الضمانات التي كانت تبدو عصية على الحل بالنظر لعجز واشنطن عن التجاوب مع العروض الإيرانية التي ربطت تباعاً أي تخلٍّ عن الاتفاق بقرار من مجلس الأمن الدولي أو بوثيقة أميركية تُلزم واشنطن بالبقاء داخل الاتفاق مهما تغيرت الإدارات.
كذلك، طرحت طهران أن تقدم الدول الأوروبية ضمانات بأن تواصل شركاتها العمل مع طهران، وألا تخضع للعقوبات كما فعلت بعد ربيع عام 2018، من هنا تبرز الحاجة إلى تدخل المستوى السياسي لاتخاذ القرارات الضرورية بشأن هذه المسألة وغيرها. وفي أي حال، يبدو واضحاً اليوم أن التوقعات المتفائلة بتحفظ لم تعد فقط حكراً على المندوبين الإيراني والروسي والوسيط الأوروبي، بل تمددت إلى الأطراف المشاركة كافة بما فيها الأميركي. وقال مبعوث واشنطن إلى الشرق الأوسط بريت ماكغورك، يوم الجمعة الماضي، ما حرفيته: «إننا نقترب (من التوصل) إلى اتفاق محتمل ولكن لا أستطيع أن أحدد نسبة احتمال حدوثه».
كما تبدو اليوم بعيدةً التهديدات الأميركية بأن زمن التفاوض يقترب من نهايته أو باللجوء إلى «خيارات أخرى» بديلاً عن المفاوضات التي تراوح مكانها. والسيناريو المرجح على المستوى الأوروبي هو ما سبق أن أشار إليه المندوب الروسي، ميخائيل أوليانوف الذي توقع التوصل إلى اتفاق جديد منتصف أو أواخر فبراير (شباط). لكنّ مفاجآت غير منتظرة يمكن أن تحصل. وتحقُّق السيناريو المتفائل يفترض أن الطرفين الأميركي والإيراني قبلا أخيراً «أو على وشك قبول» تسويات كانا يرفضانها سابقة لأنها صعبة التسويق في الداخل ولدى الحلفاء والشركاء. وفي أي حال، يتعين انتظار ردود فعل الكونغرس ومجموعات الضغط الأميركية، بالتوازي مع المقاربات الإقليمية. والأمر عينه، يصح على الداخل الإيراني.
ماكرون يحث أطراف المفاوضات النووية على «التزامات واضحة وكافية»
باريس تلتزم موقفاً «وسطياً» وتحمّل الطرفين الإيراني والأميركي مسؤولية التوصل إلى اتفاق

ماكرون خلال مؤتمر صحافي مع المستشار الألماني أولاف شولتس في برلين الأسبوع الماضي (أ.ب)
ماكرون يحث أطراف المفاوضات النووية على «التزامات واضحة وكافية»

ماكرون خلال مؤتمر صحافي مع المستشار الألماني أولاف شولتس في برلين الأسبوع الماضي (أ.ب)
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة