«خطف الحبيب»... رواية موقف سياسي بنكهة بوليسية

الروائي الكويتي طالب الرفاعي يكتب عن العنف والإرهاب والتطرف الديني

«خطف الحبيب»... رواية موقف سياسي بنكهة بوليسية
TT

«خطف الحبيب»... رواية موقف سياسي بنكهة بوليسية

«خطف الحبيب»... رواية موقف سياسي بنكهة بوليسية

في كتاب الروائي الكويتي طالب الرفاعي «مبادئ الكتابة الإبداعية»، خلاصة واعية لفهمه وإدراكه الجيد، وإحاطته بمبادئ كتابة الرواية، من وجهة نظره الخاصة، والتي تتفق أحياناً مع المألوف من القواعد العامة، وتفترق في أحيان أخرى؛ لأن «كل رواية هي عالم مستقل بنفسه، ولكن في الثابت الآيديولوجي الذي يحكم مسارها».
ها هي بعض سمات وعي طالب الرفاعي لنظرية الرواية، كما شرحها في كتابه المشار إليه، وأنقلها بتصرف:
«تُكتب الأعمال السردية للتأثير على وعي القارئ ومشاعره وقناعاته وسلوكه» (ص47). و«الخيال هو الحاضر الخفي، والمحرك الأساسي لتوصيل الأفكار للقارئ» (ص47). و«التشويق عبر وضع البطل أمام موقف مأزوم أو مشكلة، وبحث البطل عن مخرج» (ص63). و«صيغة ضمير المتكلم تولد حميمية بين القارئ والنص المقروء» (ص95). و«الرواية بوصفها كتابة نثرية أدبية لحكاية، لا بد لها من أن تحمل رؤية، وتنطوي على موقف المؤلف حيال قضايا الإنسان العادلة وقضايا العالم» (ص 102 و103). و«الشخصيات هي محور المعاني الإنسانية، ومدار الأفكار العامة للعمل الروائي» (ص 120).
يستمد حدث الرواية جذره الأساس من واقع الحياة؛ لكنه يأتي محمولاً على وعي وموهبة وخيال الكاتب، ولغته وخبرته وصنعته. وكل عمل روائي يمكن تلخيص حكايته بكلمات قليلة مهما كان حجم العمل. رائعة هيرمان ملفل الملحمية الخالدة «موبي ديك»، ما هي سوى رحلة صيد بحرية للحوت الأبيض، وهي رواية كبيرة كما هو معروف!
والناقد الذي يحلل ويفسر ويكشف عن أبعاد ومضامين عمل روائي أمام قارئ محتمل، مطالب بفضح الجانب الأساس من حكاية العمل، كي يبدو المقال النقدي مفهوماً، ولربما يصادر هذا الأمر من إقبال القراء على قراءة العمل، ولكن لا خيار من ارتكاب هذا الإثم. رواية «خطف الحبيب»، تنبني في مجملها على حادثة خطف الشاب الكويتي «أحمد الشراع» من قبل فصيل إسلامي متطرف، بعد أن التحق الشاب بمجموعة مقاتلة في سوريا بذريعة الجهاد ووازع الإيمان بالحق، وخصوصاً أنه صار أميراً للجماعة بلقب كبير، هو «أبو الفتح الكويتي»، وعناء الوالد «يعقوب الشراع» الفاحش الثراء، ومكابدته المرهقة وضنكه وحلمه الأبوي في استعادة ولده، ولو بدفع فدية مالية هائلة، وهواجسه الثقيلة من احتمال فقد ابنه وضياعه.
لماذا إذن يقضي الروائي السنوات الطوال منعزلاً ومنكَباً على كتابة رواية من مئات الصفحات المحشوة بنبض حيوات الشخصيات، وتشريح دوافعهم وأفكارهم ومشاعرهم وتناقضاتهم، وحشد الأسرار والتفصيلات، ووصف البيئات والظروف، وما تفعله المصادفات والأقدار، ما دمنا نستطيع تلخيصها بكلمات قليلة؟ الجواب الوحيد هو: لعبة الفن والسرد والغواية والإدهاش والإمتاع، وقبل ذلك وبعد، من أجل كل تلك السمات والغايات والأهداف التي استعرتها من وعي «طالب الرفاعي» لنظرية الرواية، والتي نوهنا عنها أعلاه.
بواكير الفن الحكائي تعزى للعبد اليوناني «إيسوب» الذي عاش بين عامي 620 و560 ق.م، وسيبقى أصلها ضارباً في تربة الحياة في سكونها وصخبها، وما بقيت مخيلة البشر تلاحق عودة «أوليس» إلى دياره، ولعل ذلك هو الذي جعل «وليم فوكنر» يقول حين سُئل عن مستقبل الرواية: «أتصور أنه ما دام الناس يقرأون الروايات، فإن الناس سيظلون يؤلفون الروايات».
متن الرواية
عملتُ في الصحافة الثقافية الكويتية لأكثر من ربع قرن، وتسنى لي قراءة معظم أعمال القاص والروائي «طالب الرفاعي» وغيره من أدباء الكويت، وأستطيع وصف مغزى مجمل أعماله الأدبية، والروائية على وجه الخصوص، بأنها «أدب موقف»، وأعني بذلك أنه يتكئ على رسالة سياسية واجتماعية تقدمية حضارية لأدبه، حتى في قصصه القصيرة المبكرة، حين اشتغل على منظومة الحب، والتي حرص على ربطها بإطار محلي اجتماعي وإنساني.
ورواية «خطف الحبيب» لا تخرج عن هذا الهم الإنساني والاجتماعي والثابت الآيديولوجي المتشابك مع الذاتي كما ذكر إلياس خوري، وكما ارتأى «طالب الرفاعي» لأدبه المكتوب أن يكون وفقاً للسمات التي حددها لأعماله السردية، ولا تعني الآيديولوجيا التموضع والانتماء لحزب أو تيار، والتمترس وراء شعارات؛ بل تعني «المفكورات»، حسب ترجمة الدكتور علي زيعور.
فرواية «خطف الحبيب» كُتبت لإقناع القارئ الكويتي والعربي وصوغ وعيه، بعيداً عن العنف والسلاح والتقاتل، وفق تركيبة واقعية حقيقية معجونة بجماليات التخييل، وبأسلوب وسياق فيه الكثير من التشويق الذي يمسك بدهشة القارئ، ومحبوكة بشكل اتفق النقاد على تسميته برواية تعدد الأصوات، عبر بوح الشخصيات بضمير المتكلم. ويتطرق النص إلى قيم ومفاهيم ومفكورات جليَّة حول ما يدور حولنا من آراء وقضايا ومشكلات وأحداث إنسانية، وتمس ذاكرة إنسان من لحم ودم، يتمثل عند الروائي بشخصية كيانية، يكاد يكون وجودها ملموساً وحياً ومألوفاً، وكل هذه الخلطة مروية بلغة مأنوسة وسهلة ومعبرة لا تستعلي على القارئ؛ بل تجعله شريكاً ورائياً ومتورطاً في أحداث ووقائع الرواية مثل أبطالها تماماً. ولأن القضية الأكثر سخونة في عالمنا العربي هي الصراعات المسلحة والإرهاب والمذهبية والتناقضات القائمة بين الفكر العقلاني الإنساني والتطرف الديني الشديد، فقد جازف «طالب الرفاعي» للخوض في هذه المسألة الشائكة؛ لأنه ابن الحاضر، ويكتب رواية حداثية، قلت عنها إنها رواية موقف، ورواية سياسية بنكهة بوليسية.
الثيمة الرئيسية
«أحمد الشراع» المخطوف من حضانة أبيه، كان ضحية لفكر أستاذه «عمر» في المدرسة، ولتربية خاله «عثيمان» الدينية المتزمتة، والذي يدير أعمال أبيه، والذي كان يمول الجماعة المسلحة ويرعاها سراً، وقد تعاون الاثنان على إقناعه برفض حياة أسرته الباذخة، ومقاطعة المال الحرام السحت الذي في حوزة والده «يعقوب الشراع» والمخزنة في البنوك الربوية، وعدم قبول مظهر أخته غير المحجبة وسلوكها المديني الزائف، والتوقف عن مشاهدة التلفزيون لأنه منكر، واستهجان توظيف طباخة نصرانية في البيت، وكلاهما زيَّنا له فضيلة التقشف، وفيما بعد دفعاه للهجرة لمناكفة الكفر والوقوف حيث وقف السلف الصالح، والثالث كان إمام المسجد «عبد الشافي محمد»، وكان قرار اليافع والمراهق «أحمد» بالانضمام إلى جماعة أصولية مسلحة سبب شقاء أسرته، وعذابه الجسدي والنفسي عند خاطفيه، وهي الثيمة الرئيسة للرواية. فهل كانت هذه الثيمة كل ما في جعبة الروائي «طالب الرفاعي»؟ لا، فقد كان في الجعبة الكثير من المسائل والمظاهر والمشاعر والنقائض والتوترات والتفاصيل المسكوت عنها في المجتمعات العربية.
أصوات هامشية ومشكلات مجتمعية
يتناوب على السرد صوت «يعقوب الشراع» المواظب على الصلاة، والدارس في أميركا، وله حصة الأسد في الرواية؛ لأنه الشخصية المطلقة في العمل، وصوت زوجته «شيخة» الموظفة الحكومية السابقة والمتقاعدة، وصوت «فرناز قرمزي» الإيرانية الشيعية الموظفة في إحدى شركات «يعقوب»، والتي أيقظت مشاعره بقصة عشق لاهبة، وصوت «أحمد» المطابق في لغته للغة الأسلاف، وصوت الخال «عثيمان». وهناك عديد من الشخصيات المكملة للإطار العائلي والمجتمعي، ولكنها شخصيات هامشية لا تأثير لها على مجريات الأحداث، باستثناء «رضا قرمزي» شقيق «فرناز» المولود في الكويت، وضابط الشرطة الإيراني الذي يساعد «يعقوب» في رحلته الشاقة إلى الحدود الإيرانية الأفغانية، لدفع الفدية والتفاوض مع الخاطفين. وقفات الروائي في عمله لا تكتفي بتقصي أعماق المجرى العريض للحدث الرئيس وخلفياته وأجوائه؛ بل تتجاوزه إلى حالات اختطاف نفسية وفكرية مجتمعية غير قابلة للدحض، تنساب ضفافها مع المجرى.
وتناول الكاتب أيضاً بعض المشكلات المحلية المجتمعية، وهي مشكلات عامة، منحت النص نكهة الواقع المعيش والمتعة في متابعة السرد: مسؤولية الأبوين في انحراف الأولاد بسبب الإهمال أو الدلال الزائد. وتفسخ العلاقة الزوجية التقليدية التي ترسمها الأعراف والتقاليد (علاقة يعقوب بشيخة) وغير الممهورة بعاطفة الحب. والإسراف المفرط والبذخ المادي غير المعقول: سائق وخادمة لكل فرد في الأسرة الواحدة. وشوائب العلاقات بالوافدين ومسألة الكفيل وحقوق الإنسان (مسألة مزمنة لدى الكاتب منذ نشر «أبو عجاج طال عمرك»). والعشق المتأخر والخروج من بوتقة الضجر وأوهام استعادة الشباب دوائياً (الفياغرا). وغير هذه المظاهر الكثير: معنى التدين («أحمد» يعاتب والده لغياب المُصلَّى في شركاته ومكاتبه)، والبرود الجنسي، والمذاهب وحواجزها، والحلال والحرام في الأعمال التجارية، وتعدد الزوجات، وزواج المتعة، والعذرية وهواجسها. وهذه المنمنمات الكويتية وتواتر ذكرها في السياق السردي عبر المونولوغ الداخلي أو الحوار أو الاسترجاع، والمنقولة بوساطة لغة الحياة اليومية السليمة كما يفرض الحدث، ووحده التداعي الحر في صوت «أحمد الشراع» تصبح اللغة على لسانه كما تفترض المدونات الإسلامية.
ومن هنا، فإن رواية «خطف الحبيب» هي خلاصة لعمل دؤوب ومسؤول وجاد وشجاع، وخصوصاً بقلم كاتب خليجي؛ حيث إنها تتناول بذكاء ورصانة قضية الإرهاب المعقدة التي أوهنت الأمة ومزقت حضورها وفرقت الرأي حولها، واستحضرت قضية معاصرة ساخنة تتعلق بدور الإسلام السياسي في الحراك الفكري والاجتماعي، في إطار حكائي موجه ورسالة صريحة لإدانة العنف والحرب، والذهاب بالمجتمع نحو العدالة والعقلانية، بسند ودعم من الوعي المعرفي والأخلاقي. وليس من الغريب بعد ذلك أن تصل الرواية إلى القائمة الطويلة لـ«جائزة الشيخ زايد»، وتقدير أمارة الشارقة لصاحبها بوصف «شخصية العام الثقافية». إنها رواية تؤكد تطابق الوعي النقدي لنظرية الرواية وأطروحاتها عند الكاتب، مع المثال البنيوي والشكلي لروايته.

- كاتب سوري



المترجم... شريك في الإبداع أم ظلّ مغيّب؟

المترجم... شريك في الإبداع أم ظلّ مغيّب؟
TT

المترجم... شريك في الإبداع أم ظلّ مغيّب؟

المترجم... شريك في الإبداع أم ظلّ مغيّب؟

لماذا تتكرّر ظاهرة تغييب أسماء المترجمين عن أغلفة الكتب وصفحاتها الداخلية، وهل يعكس هذا تجاهلاً لدور المترجم في إعادة صياغة النصوص؟ كيف تؤثّر هذه الممارسات على مصداقيّة النصوص المترجمة وعلى فرصها في الوصول إلى دوائر الأضواء الأدبية والمنافسة في الجوائز العالمية المرموقة؟ وهل يمكن لأدب مترجم أن يُحافظ على خصوصيته إذا عُومل كنصّ تقنيّ أو منتج صناعيّ، بعيداً عن حساسيّة الترجمة الأدبيّة وجماليّاتها؟ كيف يمكن لبعض التصرّفات الراهنة في العالم العربيّ أن تواكب التحدّيات الثقافية وتضمن أن يكون للمترجمين مكانة اعتبارية تعزّز من دورهم في المشهد الأدبيّ؟

من البديهيّ القول إنّه لا يمكن تجاهل الدور المحوريّ الذي يلعبه المترجمون في وصل الثقافات وجسر الفجوات بين الأمم عبر ترجماتهم، وإنّهم، كفاعلين ثقافيّين، يعملون في منطقة توازن دقيقة بين الحفاظ على أمانة النصّ الأصليّ وجماليّات اللغة الهدف، والحفاظ على روح النصّ وضرورات السياق الثقافيّ. ومع ذلك، تراهم يظلّون في كثير من الأحيان في الهامش، مغيّبين، سواء من خلال تهميش اسمهم أو التعامل مع جهودهم كعمل تقنيّ خالٍ من الإبداع، أو كأنّ دورهم ينتهي بمجرّد حصولهم على أجورهم الماليّة.

ومعلوم أنّ الترجمة عمل إبداعيّ يتطلّب حساسية أدبية وفنّية عالية، والمترجم في هذا الإطار ليس ظلاً للنصّ الأصليّ، بل هو شريك، و«صاحب» النصوص في اللغة المترجَمة بصيغة ما، يُسهم في تطويرها وإغناء معانيها، كما أكّد أمبرتو إيكو في كتابه عن الترجمة: «أن نقول الشيء نفسه تقريباً»؛ حيث أشار إلى أنّ الترجمة هي عملية «قول الشيء نفسه ولكن بطريقة مختلفة».

أحد أبرز مظاهر التهميش تتجلّى في عدم وضع أسماء المترجمين على أغلفة الكتب، كما هو الحال في بعض دور النشر العربية، التي تكتفي بذكر اسم المترجم داخل الصفحات. هذا الأسلوب ينزع عن المترجم حقّه في الظهور في المقدّمة، ويضيّع على القارئ فرصة اكتشاف اسمه من الغلاف؛ لأنّه يتعامل مع رؤى المترجم واجتهاده، ما يجعل حضوره الاعتباريّ ضرورياً لضمان مصداقيّة النصّ. وفي حالة الترجمة من العربية إلى الإنجليزية واللغات الأخرى، نشير هنا إلى حالة جائزة «كتارا للرواية العربية»؛ حيث يتمّ تغييب أسماء المترجمين عن الأعمال المترجمة إلى الإنجليزية أو الفرنسية، سواء على الأغلفة أو حتى داخل الصفحات، وهذه الطريقة تقدّم النصوص والروايات الفائزة بـ«كتارا» وكأنها صادرة باللغة الإنجليزية أو الفرنسيّة من دون أيّ وسيط، متجاهلةً الدور المركزيّ للمترجم في تشكيل النصّ، ما يُعتبر طمساً لجهدٍ إبداعيّ أساسيّ، وحرماناً للنصّ المترجم من حقوق البحث عن الظهور في اللغات الجديدة في المجال الذي يقدّم فيه.

الجائزة التي يفترض بها الاحتفاء بالرواية العربية الحديثة قد تعود بمفعولٍ عكسيّ في حالة ترجمة الأعمال المتوّجة بها، فتقدّم نصوصاً غفلاً من اسم المترجم لقارئ مهتمّ بأدقّ التفاصيل، يختار بعناية ما يقرأ ولماذا يقرأ.

وفي هذا السياق تبرز قضية أخرى لا تقلّ أهمّية وهي الاعتماد على شركات الترجمة بدلاً من المترجمين المستقلّين أو ذوي الخبرة الأدبية. هذه الممارسة - وإن أمكن تبريرها في مجالات محدّدة - تؤثّر على جوهر النصوص ذاتها، ممّا يؤدّي إلى فقدانها لفرادتها وجمالياتها وخصوصيتها التي تُعتبر جزءاً رئيساً من روح النصّ الأصليّ. والاستعانة بشركات ترجمة، من دون وضع أسماء المترجمين وإعلان هويّاتهم، يعني أنّ النصّ الإبداعيّ يُعامَل كمنتج قياسيّ، وليس كعمل إبداعيّ مميّز. في هذه الحالة، تُصبح الترجمة أشبه بخطّ إنتاج صناعيّ؛ حيث تُفقد النصوص خصوصيّتها بسبب التعامل معها كموادّ قابلة للنقل من دون مراعاة تفاصيلها الفريدة. هذا الفقدان للخصوصية يُحدث خللاً في تلقّي النصوص المترجمة؛ لأنّ القارئ في اللغة الهدف يتلقّى نسخة منقوصة من النصّ الأصليّ، تفقد روحها وشغفها الذي أراد المؤلّف، والمترجم المعلن عن اسمه وهويّته نقله في حال تثبيته.

ولا يخفى أنّه في عالم الأدب والترجمة، هناك جوائز أدبية كبرى تُدرك أهمّية دور المترجم كشريك إبداعيّ إلى جانب الكاتب، منها جائزة «مان بوكر الدولية البريطانية»، على سبيل المثال، تُعدّ نموذجاً رائداً في تكريم المترجمين. إذ تُمنح الجائزة مناصفةً بين المؤلّف والمترجم، ما يعكس إيماناً راسخاً بأنّ العمل الأدبيّ المترجم هو نتيجة لجهدٍ إبداعيّ مشترَك. هذه الخطوة بالإضافة إلى أنّها تكريم رمزي ومادّيّ، هي إقرار بأهمية المترجم في إبراز النصوص وتحقيقها لأقصى درجات التأثير والجمالية في اللغات الجديدة.

حين يُنشر عمل أدبيّ دون ذكر اسم المترجم، فإنه يُلحق الضرر بالنصّ نفسه، حيث يحرمه من فرص المشاركة في الجوائز الأدبية العالمية المرموقة المخصّصة للأعمال المترجمة. مثل هذه الجوائز، كجائزة BTBA (Best Translated Book Award) الأميركية، تعطي قيمة كبيرة للترجمة والمترجمين وتعتبرهم جزءاً أساسياً من الإبداع الأدبيّ. وعدم ذكر اسم المترجم يجعل النصّ مجهول الهويّة من الناحية الاعتبارية، وبالتالي يُستبعد من المنافسة في هذه الجوائز التي تُعزّز مكانة النصوص المترجمة وتضعها في دائرة الضوء العالميّ.

قسم من دور النشر يعتمد على شركات الترجمة بدلاً من المترجمين المستقلّين أو ذوي الخبرة الأدبية

ومع ظهور أدوات وتطبيقات الترجمة الآلية وتطوّر الذكاء الاصطناعيّ - وهذه أدوات مفيدة وتساعد في الترجمة - قد يتبدّى أنّ الجانب البشريّ في الترجمة مهدّد بالتهميش، لكنّ النصوص الأدبية، بما تحمله من حساسية وجماليات، لا يمكن أن تُترجم بطريقة آلية خالية من الإبداع، والمخرج النهائيّ هو الإنسان الذي يضيف بُعداً ثقافيّاً وفنّياً يعجز الذكاء الاصطناعي عن تحقيقه، ما يجعل دوره حيويّاً في الحفاظ على روح النصوص وجماليّاتها.

يُعدّ ذكر اسم المترجم على غلاف الكتاب إعلان مسؤولية أدبيّة وثقافية؛ لأنّ وجوده يعني أنّ هناك شخصاً يتحمّل مسؤولية جودة الترجمة، ويُطمئن القارئ إلى أنّ النصّ قد خضع لمعالجة جادّة تعكس قيمته. وعلى النقيض من ذلك، فإنّ غياب الاسم قد يؤدّي إلى تقويض القيمة المعنوية للنصّ المترجم نفسه. لذا من المهمّ أن يصبح ذكر اسم المترجم معياراً للأعمال المترجمة؛ لأنّه يعكس الاعتراف بالدور الثقافيّ والإبداعيّ المستحقّ، ومن المهمّ تعزيز حضور المترجم إعلامياً وثقافياً حين الاحتفاء بالكتب التي ترجمها؛ لأنّ ذلك ضرورة لإرساء قيم العدالة الثقافية وتعزيز مكانة الأدب العربيّ المترجم في الساحة العالمية.

* كاتب كردي سوري.