«حزب الله» يحوّل «اليونيفيل» إلى «صندوق بريد»

اعتداءات متكررة على دوريات الأمم المتحدة باسم «الأهالي» في جنوب لبنان

«حزب الله» يحوّل «اليونيفيل» إلى «صندوق بريد»
TT

«حزب الله» يحوّل «اليونيفيل» إلى «صندوق بريد»

«حزب الله» يحوّل «اليونيفيل» إلى «صندوق بريد»

حوّلت الاعتداءات المتكررة على قوات حفظ السلام الدولية العاملة في جنوب لبنان (اليونيفيل) البعثة الدولية إلى «صندوق بريد سياسي»، توجه عبره رسائل سياسية إلى الأمم المتحدة والمجتمع الدولي.
اعتراض دوريات البعثة الدولية لم يكن في أي وقت سابق، بهذا الكم، إذ سجلت 3 حوادث خلال شهر واحد، في ظل تأزم محلي، ومطالب دولية بنزع سلاح «حزب الله» عبر تنفيذ القرارات الدولية، بينها 1701 و1559. بموازاة تغيّر في المزاج السياسي الداخلي نحو استيعاب الحزب كقوة عسكرية في داخل البلاد. أما اللافت في حوادث اعتراض القوات الدولية، فهو ردة فعل «اليونيفيل»، التي صعّدت اللهجة ضد المرتكبين، وطالبت السلطات اللبنانية بالتحقيق وإحالة المتورطين إلى المحاسبة. وهذا مؤشر على تبدل في خطاب البعثة التي كانت تكتفي بالإعلان عن التحقيق في الأحداث، والتنسيق مع الجيش اللبناني. وجزمت في البيانات والتصريحات التي تلت الاعتداءات الثلاثة الأخيرة، بأن ذرائع السكان غير صحيحة.

في أغسطس (آب) من العام 2006، بموجب القرار الدولي رقم 1701 الذي أنهى الحرب الإسرائيلية على لبنان، أذن المجلس لقوة «اليونيفيل» باتخاذ جميع الإجراءات الضرورية في مناطق انتشار قواتها، وحسبما يقتضيه الوضع في حدود قدراتها، لضمان ألا تُستخدَم مناطق عملياتها لأي أنشطة عدائية من أي نوع كان، ومقاومة المحاولات التي تهدف إلى منعها بالقوة من القيام بواجباتها التي نص عليها تكليف مجلس الأمن. ويضاف إلى ذلك حماية موظفي ومرافق ومنشآت ومعدات الأمم المتحدة، وكفالة أمن وحرية تنقل موظفي الأمم المتحدة والعاملين في مجال المساعدات الإنسانية، وحماية المدنيين المعرضين لخطر العنف الجسدي، دون المساس بمسؤوليات حكومة لبنان.
لقد شكّل هذا القرار توسعة لمهام البعثة الدولية عما كان الأمر عليه بعد تشكيل البعثة في المرحلة الأولى في العام 1978 لتنفيذ القرار 425. ومنذ ذلك الوقت، تسيّر البعثة الدولية يومياً ما يزيد عن 400 دورية، يشارك الجيش اللبناني بنسبة تصل إلى 35 دورية يومياً، ونادراً ما تعرضت القوات الدولية لاعتداءات أو محاولة عرقلة لمهامها، إلا في حالات نادرة كانت على الأغلب تحدث قبل فترة التمديد لولايتها في أغسطس من كل سنة.
لكن خلال الشهر الأخير وحده، سُجّلت 3 اعتداءات، وهو رقم كبير نسبة إلى حوادث التعرض السابقة، ما رسم مؤشرات على تبدل سياسي وميداني، سهل لهذه الأحداث. وخلال شهرين، منذ نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، تعرضت قوات «اليونيفيل» لـ3 اعتداءات منفصلة. الأول حصل في بلدة شقرا يوم 24 ديسمبر (كانون الأول) على خلفية اتهام الجنود بالتقاط صور، أما الثاني فحصل في بنت جبيل في 3 يناير (كانون الثاني) الحالي؛ حيث أقدم أشخاص على مهاجمة دورية للقوات الدولية. وأما الثالث فوقع في 25 ديسمبر (كانون الأول) أيضاً في بلدة رامية الحدودية، علماً بأن الاتهامات المحلية كانت توجه إلى «الأهالي».
«الأهالي» و«حزب الله»
ترفض الدكتورة منى فياض، الأكاديمية والباحثة اللبنانية في علم النفس السياسي، الاتهامات لـ«الأهالي» بالوقوف وراء الاعتداءات، معتبرة أن هذه الذرائع «لا تنطلي على أحد»، ومشيرة إلى أن «حزب الله» يختبئ وراء الأهالي فيها. وتشرح فياض في حديث لـ«الشرق الأوسط» المسار الذي يتبعه الحزب في هذا السياق، قائلة: «(حزب الله) استطاع أن يتوصل مع مرور الوقت إلى إيجاد مراكز سلطة رديفة ومستقلة عن الدولة، أمّنت له أرضية لفرض ثنائية وازدواجية في السلطة؛ حيث يوجد الحزب وتوجد الدولة». ثم تضيف أن إحدى الوسائل الأساسية التي اعتمدها للوصول إلى هذا الأمر «التحدث باسم المجتمع المقاوم، وإعطاء اسم (الأهالي) للفئات التي يحركها من الطائفة الشيعية، بشكل خاص، كلما احتاج لخدمتها للضغط على طرف معين، كي لا يكون في الواجهة... إذ يلجأ إلى الأهالي بدلاً من أن ينزل كحزب ليقوم بالضغط بنفسه».

- دوافع سياسية
في الواقع، أثارت حوادث الاعتداء الأخيرة جملة أسئلة عن الدوافع والرسائل السياسية الموجهة للبعثة الدولية. وردّت عليها «اليونيفيل» بدعوة السلطات اللبنانية للتحقيق فيهما، وتقديم المرتكبين للعدالة. وكانت البيانات لافتة بمضمونها التصعيدي لجهة رفض «حرمان اليونيفيل من حرية الحركة»، كما جاء في بيان المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك.
الدكتورة فياض تشير إلى الاعتداء الأخير على «اليونيفيل» قبل أيام؛ حيث اعتُدي على دورية روتينية كانت تقوم بدورها، ولم تكن تدخل أي مكان ممنوع عندما اعتُرض سبيل آلياتها، وهذا استكمال لمسار سابق؛ حيث «تكررت الاعتداءات بحجة أنهم يدخلون شوارع لم يكن بالوارد دخولها من دون دخول الجيش اللبناني». وتضيف فياض أن «هذه الاعتداءات تأتي بالتزامن مع شعور أهالي الجنوب أنهم في حاجة إلى اليونيفيل، بالنظر إلى أن الأمن والسلام الذي ينعمون به منذ تطبيق القرار 1701 بعد حرب 2006 لم ينعموا به في أي مرحلة سابقة». وتتابع لافتة إلى أن الجنوب تمتع بالأمان منذ ذلك الوقت، حتى في فترة التفجيرات والتوترات التي طالت بيروت ومناطق أخرى، ولم تسجل أي حادثة باستثناء اغتيال الباحث المعارض للحزب لقمان سليم في فبراير (شباط) الماضي، مع أن المنطقة مليئة بالكاميرات، ويفترض أن يكون الحزب يعرف تفاصيل فيها.
أيضاً، توضح فياض هنا أن الحزب «استخدم معادلة (جيش وشعب ومقاومة وأهالي) ليقوم بالأمور التي تمارس الضغوط من دون أن يظهر في الصورة». وحقاً «لا يظهر (حزب الله) في صورة الاعتداءات بشكل علني، ويبرز الأهالي بدلاً منه، لأنه يريد الإيحاء بالشكل أنه يطبق (القرار 1701)».

- تغيّر في لهجة «اليونيفيل»
من جهة ثانية، بعد الاعتداء الأخير في 25 يناير، قال الناطق الرسمي باسم «اليونيفيل» أندريا تيننتي، في بيان، إن «جنود حفظ السلام لم يكونوا على أملاك خاصة، ولكن على طريق عام يسلكونه في العادة، وكانوا يقومون بعملهم لتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي 1701 والحفاظ على الاستقرار في جنوب لبنان». وأكد الناطق الأممي أنه «بموجب القرار 1701، تتمتع اليونيفيل بحرية الحركة الكاملة والحق في القيام بدوريات داخل منطقة عملياتها». ورأى أن «الاعتداءات على الرجال والنساء الذين يخدمون قضية السلام تعتبر جرائم بموجب القانونين اللبناني والدولي»، داعياً «السلطات اللبنانية إلى التحقيق في هذه الجريمة ومحاكمة المسؤولين عنها».
في هذا السياق، يبدو هذا البيان تحولاً في تحرك «اليونيفيل» تجاه التعرض لجنودها. وحسب الدكتورة فياض، الذريعة القائلة إن الأهالي يقفون وراء الاعتداء، أو الادعاء أن جنود البعثة كانوا يصوّرون، وتم اعتراضهم، «لم تعد ذرائع يصدقها أو يتجاهلها جنود البعثة». وتلاحظ هنا أن «لهجة الناطقين باسم اليونيفيل تغيرت عن السابق، وبدأت المواجهة تتنامى... فهم يتلمسون طريقاً لتغيير المعادلة، وليصير لهم دور أفضل». أيضاً ترى فياض أن هذه التغيرات «ليست متعلقة بلبنان فقط، بل بإطار المباحثات في فيينا التي للولايات المتحدة دور كبير فيها»، آسفة لتغييب السلطات الشرعية في الجنوب؛ حيث يفترض أن يكون الجيش اللبناني هو المرجع الأساسي، ولا سلاح إلا سلاحه.

- رسائل دولية
من جانب آخر، يقرأ الباحث السياسي والعسكري اللبناني العميد الركن خالد حمادة أبعاداً تتخطى توجيه أنشطة «اليونيفيل» في منطقة جنوب الليطاني. ويتوقف عند التوقيت الذي يعتبره أكثر أهمية من الحدث نفسه، بصرف النظر عن تكراراته في الآونة الأخيرة.
إذ يقول العميد حمادة لـ«الشرق الأوسط» إن اعتراض «اليونيفيل» المتكرر «الذي بلا شك يقف (حزب الله) وراءه مرتبط بمجموعة تطورات إقليمية» تؤشر إلى متغيرات ميدانية مهمة في المنطقة، و«تسعى من خلالها إيران إلى استخدام أوراقها الإقليمية في رد فعل على انكساراتها وتعثرها في المنطقة». ويستطرد قائلاً إن الاعتداءات على اليونيفيل في لبنان «لا يمكن احتساب الجهة المسؤولة عنها على أنها (حزب الله)، بل إيران نفسها، كون الحزب هو ذراع إيرانية في لبنان».
ومن ثم، يشرح حمادة فيقول إن «كل الأوراق الإقليمية تسعى إيران لخلطها». وفي هذا الإطار، يشير إلى «التطورات العراقية لجهة تعثر العملية السياسية والمصاعب في تشكيل الحكومة، ومحاولة اغتيال رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي في وقت سابق، والاعتداءات المتكررة بالصواريخ على دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وغير ذلك، ما يؤشر إلى ردود فعل إيرانية في كل مكان تتمتع فيه بنفوذ». كذلك، يرى حمادة أن الهجوم الذي نفذه «داعش» على سجن غوران في شمال شرقي سوريا «هو واحد من الأوراق التي تستخدم إيرانياً للضغط في المنطقة»، وينضم إليها لبنان «المنهار سياسياً»؛ حيث «تستخدم ورقة اليونيفيل».
حسب العميد الركن حمادة، فإن إيران «تستخدم كل تلك الأوراق كردود فعل على تعثرها، وتنفّذها في المناطق التي تتمتع فيها بنفوذ، وهي العواصم التي زعمت في وقت سابق أنها تسيطر عليها». وبناءً عليه، فالتعرض لليونيفيل ضمن هذه السياسة الإيرانية «بالنظر إلى أن (حزب الله) هو فصيل إيراني ينفذ سياسة طهران، وليس له أي قرار خاص بمعزل عن طهران».
كذلك، إذ يشير الباحث العسكري والاستراتيجي اللبناني إلى أن الرسالة الإيرانية تفيد بأنها قادرة على تعطيل مفاعيل القرار 1701 ووضعه خارج الاستعمال «إلا حيث يريد (حزب الله)». ويرى أن لبنان «عاجز عن الرد على هذا الانتهاك أو إيقافه، ولذا يتصرف معه كما تجري العادة وفق سياسة تمييع تشبه المواقف التي يتخذها في ملفات أخرى متصلة بالحزب، مثل ردّ الدولة (وليس الحكومة) على المبادرة الخليجية التي حملها وزير خارجية الكويت إلى بيروت في الأسبوع الماضي».

- مظلة أممية
في هذه الأثناء، تتصاعد المخاوف في الجنوب من أن تؤدي تلك التعديات إلى رفع المظلة الدولية وانسحاب قوات «اليونيفيل» من لبنان، ما يفقد لبنان غطاء دولياً هو من أواخر المظلات الدولية في البلاد. ولكن حمادة، يخالف هنا هذا التقدير، إذ يرى أن القوات الدولية «ستبقى، ولن تفرض الاعتداءات انسحاب اليونيفيل»، ويضيف أن تكرار التعرض للبعثة الدولية «ستنتج عنه ردات فعل دولية، وربما اجتماعات في مجلس الأمن، وتحويل الملف إلى الفصل السابع، ما يعني مزيداً من العقوبات والتصعيد». ثم يؤكد أن مجلس الأمن «لن يرضخ لتعطيل قرار دولي ولن يسمح بابتزازه»، وفي المقابل «لا يريد الحزب أن تخرج القوات الدولية، وبالتالي يفقد ورقة ابتزاز ثمينة بين يديه»، متسائلاً: «إذا غادرت القوات الدولية، فما هي السيناريوهات؟ هل سيزيد الحزب عسكرة المنطقة التي عسكرها منذ العام 2000؟»
على هذا التساؤل يجيب العميد حمادة بأن هناك خطاً دولياً أحمر يتمثل في «إبقاء اليونيفيل»؛ حيث «تلتقي المصلحة الإسرائيلية بأن تُعهد المنطقة إلى القوة الدولية كونها ضرورة أمنية لإسرائيل، مع مصلحة إيرانية بأن تبقى القوات الدولية كورقة يجري لعبها والتفاوض على أساسها». أما عن موقف (حزب الله)، فيرى حمادة أنه «يريد الإبقاء على القوات الدولية والقرار 1701 كي يتفرغ في المقابل للداخل اللبناني، ويدفع إلى تنفيذ القرار بالنكهة الإيرانية وبما يتناسب معها، بمعنى إفراغ القرار الدولي من مضمونه وتنفيذه بما يتناسب مع أهوائه».

- مهام أمنية وإنسانية
يمنح قرار مجلس الأمن 1701 المؤرخ في 11 أغسطس 2006 قوات «اليونيفيل» مهام «رصد وقف الأعمال العدائية»، و«مرافقة ودعم القوات المسلحة اللبنانية خلال انتشارها في جميع أنحاء جنوب لبنان، بما في ذلك على طول الخط الأزرق، بينما تسحب إسرائيل قواتها المسلحة من لبنان».
كذلك، يمنح القرار هذه القوات المهام التالي...
- تنسيق الأنشطة المشار إليها في الفقرة السابقة (أعلاه) مع حكومة لبنان وحكومة إسرائيل.
- ضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى السكان المدنيين والعودة الطوعية والآمنة للنازحين.
- مساعدة القوات المسلحة اللبنانية في اتخاذ خطوات ترمي إلى إنشاء منطقة، بين الخط الأزرق ونهر الليطاني، خالية من أي عناصر مسلّحة، أو موجودات وأسلحة غير تلك التابعة لحكومة لبنان وقوة اليونيفيل المنتشرة في هذه المنطقة.
- مساعدة حكومة لبنان، بناء على طلبها، في تأمين حدودها ونقاط الدخول لمنع دخول الأسلحة أو الأعتدة ذات الصلة إلى لبنان من دون موافقة الحكومة.
وتظهر سجلات البعثة الدولية أنه خلال العام 2021، نفّذ عناصر «اليونيفيل» أكثر من 180 ألف نشاط عملياتي، وأكثر من 400 مشروع، كما قدّمت اليونيفيل الدعم للجيش اللبناني «الذي يعتبر الأساس للوصول إلى هدفنا في توفير سلام مستدام في جنوب لبنان».



ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.