«مركز الشيخ إبراهيم»... حكاية وفاء الحفيدة مي آل خليفة لجدّها

كتاب «بدايات ـ حكايات وتقاطعات» بمناسبة العيد العشرين للتأسيس

واجهة «مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث»
واجهة «مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث»
TT

«مركز الشيخ إبراهيم»... حكاية وفاء الحفيدة مي آل خليفة لجدّها

واجهة «مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث»
واجهة «مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث»

هي «السيدة الدينامو» التي لا تهدأ، والتي أخذت على عاتقها، ترميم البيوت التراثية في البحرين، ليس فقط لإنقاذها، وإنما لتحويلها متعة للنظر، والسكنى. مشغولة دائماً بمشاريع ثقافية مقبلة. أحد إنجازاتها الكبيرة، هو «مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث» الذي يصح أن يطلق عليه مسمى «مراكز ثقافية»، وهي لا تزال تتوسع. 28 بيتاً لغاية الآن، أمكن للشيخة مي محمد آل خليفة، على مدار عقدين، أن تصنع منها أماكن نموذجية للتفاعل ولاستقبال الإبداعات والبحوث، والكتاب والفنانين. بمناسبة مرور عشرين سنة على تأسيس هذا المركز، الذي يحمل اسم الجدّ، الشاعر، المثقف والملهم، احتفلت الشيخة مي مع جمع من المثقفين العرب والأجانب، على مدى ثلاثة أيام. ومن بين الأنشطة العديدة، كان إطلاق كتابها «بدايات - حكايات وتقاطعات»، تروي فيه فصول حكايتها مع المركز الذي أعطته جزءاً من روحها. الكتاب جاء متزامناً مع فيلم قصير بعنوان «شيخ التنوير» يختصر عقدين من مسيرة المركز والبيوت المتفرعة عنه، من إخراج المخرجة إيفا داود، ويوثق، لخطوات ترميم البيوت، وإنقاذها من يد العبث.
أما الكتاب، فإضافة إلى اللغة الوجدانية التي كتب بها، يؤرشف لهذه التجربة الثقافية بالرسائل والصور والمستندات، ويحكي قصة كل بيت والعراقيل التي كان لا بد من تذليلها، للوصول إلى النهايات السعيدة. من الصفحة الأولى، يبدو أن الأرق الأكبر هو «من سيكمل ما بدأت؟» تقول الكاتبة في إهدائها. فالتأسيس أمر، وصمود المشروع أمر آخر. «لن أذيع سراً إن قلت، إن كل شهر، يمر من عمر المركز وبيوته، هو تحدٍ للاستدامة».

البدايات
الشرارة التي أشعلت مشروع المركز، هو ولع الحفيدة مي باقتفاء أثر الجد الشاعر والأديب إبراهيم بن محمد آل خليفة. «حين نشرت كتابي الأول عنه لم أكن أعرف أنه سيقودني إلى كتب أخرى. وحين رممت موقع مجلسه ليحيي الدور الذي أداه، في بداية قرن مضى، لم أكن أعلم أنني سأصل إلى بيت تلميذه، وأنتقل إلى بيوت من عاصروه، أو جاءوا بعده». بعد وفاة والد الشيخة مي عام 1986، انتقلت مكتبته إلى منزلها، وافترشت المساحة الفارغة وسط الصالون. فتحت هذه المكتبة نوافذ فضول الحفيدة وهي تعثر داخل بعض الكتب على وثائق ورسائل وأوراق للجد، وتبدأ رحلة البحث. «أين بيت جدي؟» علمت أنه «هدم، وتغيرت ملامح المدينة، ولا نعرف الوصول إليه». لم يتم العثور على المكان قبل عام 2001. «بقعة أرض خالية، تجمعت فيها الأوراق ومخلفات من يمرون بالشارع... ولم أكتشف الجزء الوحيد المتبقي من البيت إلا بعد عشرة أعوام، وكأن حقب الاكتشاف لا بد أن تأخذ عقداً». لم تكن الأمور مذللة لإعادة إعمار المكان، ووضع اللبنة الأولى للمشروع الثقافي، الذي سيكبر ويتمدد. بعد المبنى الأول في المحرق، ستكرّ السبحة، ليستتبعه مراكز، وترميم بيوت قديمة أخرى. لكن يبقى للمبنى الأول رمزيته. هنا كان مجلس الجد الأدبي والثقافي، حيث يأتيه الكتّاب من سوريا ولبنان والشمال الأفريقي، وبداية للتعليم الأهلي. كتب أمين الريحاني عن الشيخ إبراهيم «إنه مع الأدب أكثر من السياسة، وهو شيخ الأدباء والشعراء في البحرين والرجل الثاني في مجلس التعليم فيها».
يوم افتتاح المبنى التأسيسي الذي منه ستكون الانطلاقة، علمت الشيخة مي أن بيتاً قريباً منه، يريد صاحبه هدمه، كما يحدث لغالبية البيوت التراثية، حيث تستبدل بعمارات جديدة. تبين بعد ذلك أنه بيت الشاعر والصحافي عبد الله الزايد، تلميذ الجد، وأول من نشر صحيفة في البحرين. «وفي بيتي رسائل بخط اليد متبادلة بينه، وبين جدي، فكيف أفرّط في البيت الذي سكنه». كان لا بد من فعل اللازم.
تحكي الكاتبة حكاية البيوت القديمة التي أتت على بعضها المعاول وأخذت تهدد ما تبقى. وكيف هجر أهل المحرق إرثهم، وتاريخهم، وذهبوا ليسكنوا أماكن أكثر حداثة، فيما يشبه الهجر لماضيهم، وأخذت ملامح الأماكن تزول وتؤول إلى الاندثار. أما هي فقد أخذها الخوف من أن تكون يد الخراب أسرع منها، فأطلقت رحلة البحث عن تمويل لتنقذ البيت تلو الآخر، متمنية، لو أن لها القدرة على النجاة بها جميعاً. بلغ الحماس، أن تمنت افتتاح كل سنة بيتاً مرمماً جديداً، وكان الثالث هو بيت محمد بن فارس، أشهر من غنى الصوت الخليجي، ليحتضن التراث الغنائي، تلاه الانتقال إلى المنامة وتجديد البيت الأول للشاعر إبراهيم العريض الذي شيد في أربعينات القرن الماضي، لينضم إلى بيوت المركز، وكان مالكوه على وشك هدمه لإقامة عمارة سكنية. وهو اليوم وبعد أن عاد له زهوه، أصبح بيتاً للشعر، يضم بين جنباته مكتبة الشاعر، أوراقه الخاصة، ووثائق وأشياء شخصية ثمينة أخرى. هناك أيضاً «بيت الكورار»، «مركز المعلومات»، «عمارة بن مطر»، «بيت محمد خلف»، «بيت التراث المعماري»، «نزل السلام»، «الركن الأخضر»، «ابحث»، وبيوت أخرى، كان آخرها «منامة القصيبي» الشاعر الذي أوصى هو نفسه أن يكون له بيت يحمل اسمه في البحرين، ويضم حاجياته الشخصية الحميمة.
تقول الكاتبة «كانت هذه البيوت في معظمها مصنّفة آيلة للسقوط، وهي تسمية أكرهها. لا توجد بيوت آيلة للسقوط، وإنما بيوت تخلى أبناؤها عن حبها». تحسرت باستمرار على تدمير المباني القديمة في الخليج كله، وفي البحرين بشكل خاص، أخذت على عاتقها إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وفاءً لجدها «شيخ التنوير» الذي تعنى بمخطوطاته ورسائله، وأقامت لأعماله معرضاً، حمل عنوان «مع شيخ التنوير» للفنان جمال عبد الرحيم وصدر كتاب فني يحمل أشعاراً ورسائل للشيخ إبراهيم مع لوحات. ومع بدء ولعها بالعمل مباشرة على الأرض، لتكون أكثر فاعلية وسرعة، تعددت اهتمامات الشيخة مي، وذهبت إلى السعي في أكثر من اتجاه.
الكتاب هو أقرب إلى أرشفة هذا المسار الثقافي بتفاصيله، التي يمكن أن تجرفها الأيام، فيه وثائق ومراسلات، مع شخصيات، ومهندسين عملوا على المباني والمشاريع التراثية، بينهم زها حديد. هناك فصل مخصص للمشاريع المستقبلة. وهي ثمانية أصبحت رسوماتها ومخططاتها جاهزة تنتظر الإنجاز، اثنان منها في المحرق، وستة في المنامة. من بينها بيت حجازي المعمار، من المؤمل أن يتحول إلى بيت للصوفية، كما كان الشيخ أحمد حجازي، شيخ الطريقة الصوفية المحرقية. وبيت آخر سيحمل اسم الشاعر عيسى بن راشد، وسيكون مقابل بيت عبد الله الزايد.
وفي المنامة سينضم إلى المركز بيت للفنان عبد الله المحرقي، والدكتور أحمد باقر، وآخر لحسن كمال، وبيت آخر للمعلم نصيف. وثمة بيت للفنان التشكيلي يعقوب يوسف الذي رحل باكراً. وهناك مشروع مؤجل هو «سينما اللؤلؤ» أو «سينما القصيبي» بعمرانها المميز المراد تحويلها مقرّاً لتعليم اللغة العربية للصغار، تحت مسمى «العربي الصغير».
صاحبة الكتاب هي حالياً، رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار، والمركز هو مشروعها الذي منه تنطلق في حلمها المعماري، راغبة في رؤية البحرين أصيلة بقدر ما هي حديثة، وأمينة على ماضيها، بالحرص نفسه على التطلع المستقبل.


مقالات ذات صلة

هل بات الكاتب مجرد «مفبرك بيانات»؟

كتب الذكاء الاصطناعي يقلب المقاييس

هل بات الكاتب مجرد «مفبرك بيانات»؟

كتب بعشرات الآلاف، باتت في متناول القراء، هي كلياً من إنتاج الذكاء الاصطناعي. عدد كبير آخر هجين، كتب بتعاون بشري وآلي، وما تبقى لا يزال بشرياً.

سوسن الأبطح (بيروت)
كتب عمر خالد... وكتابه

عمر العقاد: ما جدوى فن لا يدين الإبادة الجماعية؟

فيما يشيح العالم بوجهه عن المذبحة الرهيبة التي ينفذها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، وتجاهد حكومات الغرب لقمع الأصوات المؤيدة لفلسطين

ندى حطيط
ثقافة وفنون شاكر الناصري

«مجرد وقت وسيمضي»... سردية السرطان و«سرد الذاكرة»

كيف لنا أن نكتب عن أمراضنا؟ المتنبي المتفرد، دائماً، ترك لنا ما لم يتركه غيره في هذا المقام؛ فكانت قصيدته في وصف الحمى درساً مختلفاً

حمزة عليوي
ثقافة وفنون الإريتري أبو بكر كهال يسرد وجع الهجرة والشتات

الإريتري أبو بكر كهال يسرد وجع الهجرة والشتات

تسرد رواية «مراكب الكريستال» للكاتب الإرتيري أبو بكر حامد كهال، الصادرة حديثاً عن «الآن ناشرون وموزعون» في الأردن في 66 صفحة من القطع المتوسط

«الشرق الأوسط» (عمَّان)
كتب إيريس مردوك

في الحبّ... وفلسفته

الحب! ليس بيننا على الأغلب من لم يعِشْه فيما مضى، أو يعيشه اليوم. نراه في كل مكان يُحتفى به على أساس أنه «التجربة الأكثر أهمية في الحياة الإنسانية».

لطفية الدليمي

هل بات الكاتب مجرد «مفبرك بيانات»؟

الذكاء الاصطناعي يقلب المقاييس
الذكاء الاصطناعي يقلب المقاييس
TT

هل بات الكاتب مجرد «مفبرك بيانات»؟

الذكاء الاصطناعي يقلب المقاييس
الذكاء الاصطناعي يقلب المقاييس

كتب بعشرات الآلاف، باتت في متناول القراء، هي كلياً من إنتاج الذكاء الاصطناعي. عدد كبير آخر هجين، كتب بتعاون بشري وآلي، وما تبقى لا يزال بشرياً. مؤلفو الصنف الأخير يحاربون لإثبات أن مؤلفاتهم، هي من بنات أفكارهم وحدهم، ولا علاقة للآلة فيها، ويحاولون الدفاع عن حقوقهم وسط غابة من الفوضى العارمة، التي لم يشهد التاريخ لها مثيلاً، منذ عرفت الكتابة. وهو ما يثير في أميركا الكثير من الأخذ والرد، ويطرح أسئلة حول مستقبل الكاتب والكتابة بالشكل الذي نعرفه اليوم.

كتب الذكاء الاصطناعي مطروحة للقراء تحت أسماء مستعارة، وهي في الغالب رديئة. لكن القارئ قد لا يميز بين الغث والسمين، ثم إنه لا قانون يمنع أي أحد من أن يولّد كتاباً آلياً، ويكتب عليه الاسم الذي يختار وينشره. فعالم الكتب مليء بالأسماء المستعارة التي لم يوجد قانون يمنعها أو يجرّمها. والسرعة الهائلة التي يتم فيها توليد الكتب اصطناعياً، جعلت منصّات بيع الكتب في حالة ازدحام، والغلبة للعنوان الأكثر جذباً، والمؤلّف الأفضل ترويجاً. الأظرف أن ثمة كتباً كثيرة، تباع على أنها من صناعة آلية خالصة، ومع ذلك تجد رواجاً بين القراء، الذين لا يرون غضاضة في قراءتها. ولو سألت «غوغل» عن هذا الصنف من الكتب لاقترح عليك ما لا يحصى من العناوين المعروضة للبيع، وبمقدورك أن تكتشف أسماءها بكبسة زر.

غلاف كتاب من تأليف الذكاء الاصطاعي

كل 6 ساعات كتاب

الأسوأ هو استغلال كتب المؤلفين، والعمل على إعادة صياغة أفكارها بأسلوب مختلف، عبر الذكاء الاصطناعي، في عملية انتحال آلي، تصعّب على صاحب الكتاب ملاحقة اللصوص أو إثبات جريمتهم.

يباهي تيم بوشيه، الأميركي الذي لا نعرف إن كان يستحق صفة روائي أم لا، أنه ألف سبعة وتسعين كتاباً خلال تسعة أشهر، تحوي قصصاً كتبها متسلحاً بخياله (حسب قوله) وأدوات الذكاء الاصطناعي. وهي تجمع بين الخيال العلمي وعالم الديستوبيا. ويشرح في مقالة نشرها في «نيوزويك» تفاصيل تجربته الشخصية، قائلاً: «عادةً، ما يستغرق كل كتاب مني ما بين 6 إلى 8 ساعات تقريباً لإنشائه ونشره. في بعض الحالات، تمكنت من إنتاج مجلد كامل في ثلاث ساعات فقط، شاملةً كل شيء». كل ذلك يعيده بوشية إلى مهارته في الجمع بين التكنولوجيا وأفكاره الشخصية، التي يباهي بأنها جلبت له ربحاً بلغ آلاف الدولارات. هذا تحول كبير، كانت الاستعانة بالتأليف الآلي غايتها الربح، وتدريجياً قد يصبح الهدف تحقيق الشهرة والحصول على جوائز.

قراء يقبلون على الرداءة

هذه الكتب القصصية الصغيرة، شبه المتسلسلة ويجمعها عالم واحد، تمكن قراءتها منفصلة أو كأنها مترابطة، تغري القراء بالفعل. فقد اشترى كثيرون أكثر من اثني عشر عنواناً، وفي بعض الحالات ثمة من اشترى أكثر من ثلاثين عنواناً. وهو ما يصيب أي روائي مجتهد يكدّ ليكتب مقطعاً أو يرسم شخصية روائية، بكثير من الإحباط، حين يصبح جمهور القراء متقبلاً، لا بل ومقبلاً على كتب يفاخر صاحبها بأنه لم يفعل شيئاً تقريباً، وأنه يتفوق على الكتّاب الحقيقيين بقدرته على إدارة هذه الأداة الجديدة.

في خطوة أثارت الجدل في عالم النشر الأدبي الأميركي، تحدثت تقارير صحافية عن عرض تقدّمت به دار النشر الأميركية الكبرى «هاربر كولينز» لبعض مؤلفيها، يتضمّن السماح لإحدى شركات الذكاء الاصطناعي – مجهولة الاسم – باستخدام أعمالهم المنشورة لتغذية نماذجها اللغوية التوليدية، مقابل 2500 دولار لكل كتاب، على أن يستخدم لمدة ثلاث سنوات.

مؤلفون أمام الأمر الواقع

العرض، الذي أتى بالتنسيق مع شركة تكنولوجيا ناشئة، الغاية منه تدريب نماذج ذكاء اصطناعي قادرة على توليد محتوى بأنماط وأساليب متنوعة. وقد أكدت «هاربر كولينز» إبرامها بالفعل عقداً يسمح بالاستخدام «المحدود» لمحتوى بعض الكتب، مع تأكيدها أنّ الاتفاق «ينظم بشكل واضح استخدام هذه الأعمال مع احترام حقوق النشر». وهذه الجملة الأخيرة، بات لها على ما يبدو معنى غير الذي كنا نعرفه.

لكنّ مؤلفين كثر عبّروا عن رفضهم القاطع، وفي مقدّمتهم الكاتب الأميركي دانييل كيبلسميث الذي كتب عبر منصة «بلوسكاي»: «ربما أوافق فقط مقابل مليار دولار، وهو مبلغ يتيح لي التوقف عن العمل نهائياً، لأن هذا هو الهدف الحقيقي من وراء هذه التكنولوجيا». وهو ما يعبر عن الإحساس بالخطر الذي يشعر به كتّاب في مواجهة هذه الهجمة.

دار نشر «هاربر كولينز» ليست الأولى التي تقترح على كتّابها هذا النوع من الاتفاقات، فقد سبقتها دار «ويلي» المتخصصة بالكتب العلمية، حين أتاحت لشركة تكنولوجية استخدام محتوى أكاديمي ومهني من كتبها كنماذج تدريبية، مقابل 23 مليون دولار، بحسب ما كشف عنه.

غلاف كتاب آخر من تأليف الذكاء الاصطناعي

هل صار الكاتب «بائع بيانات»؟

وسواء حصلت الشركات التكنولوجية على موافقة الكتاب ودور النشر، أم لم تحصل، فإنها في النهاية ستجد السبيل ولن تعدم الحيلة للالتفاف على القوانين، للحصول على تلك الكميات الهائلة من النصوص لتدرب نماذج الذكاء الاصطناعي التي تعدّها، وهو ما يجعل الكتّاب أمام خيارين كلاهما مرّ: إما بيع الجهد الذي بذلوه بأبخس الأثمان، أو المكابرة والرفض، وترك هذه الشركات تنهش في نصوصهم من دون إذن أو مقابل.

لكن الحقيقة أيضاً أن الشركات التي تعمل على تطوير الذكاء الاصطناعي استنفدت أو تكاد كل النصوص المتاحة لاستخدامها مجاناً مع ضمان عدم الملاحقة، وباتت تجد نفسها مضطرة للجوء إلى مصادر جديدة مدفوعة الثمن. في هذه الحالة، هل تحوّل الكاتب إلى مجرّد «بائع بيانات»؟

ثمة من يعدّ قيام بعض الشركات بمحاولة إرضاء المؤلفين، تقدماً ملحوظاً يفسح المجال أمام أصحاب المؤلفات البشرية، من حيث الإفادة المادية، ولو كانت غير مجزية. وليست كل الكتب سواء، ولا هي بمستوى واحد، كي تعامل بعدّها مجرد كلمات صالحة للالتهام الآلي.

الصحافة مستهدفة أيضاً

الصحافة أيضاً مستهدفة، بعد أن نضبت النصوص أو تكاد، ويبدو أن نصوصها تستغل أيضاً مما دفع صحيفة «نيويورك تايمز» إلى رفع دعوى ضد شركتي «أوبن إيه آي» و«مايكروسوفت» بتهمة انتهاك حقوق النشر، بينما اتجهت مؤسسات إعلامية أخرى نحو توقيع اتفاقات ترخيص مع شركات التكنولوجيا، شبيهة بتلك التي تعرض على دور النشر، كي تستفيد من تخزين موادها بمقابل، بدل أن تسرق.

سواء حصلت الشركات التكنولوجية على موافقة الكاتب ودور النشر، أم لم تحصل، فإنها في النهاية لن تعدم الحيلة للالتفاف على القوانين

حيرة أصحاب المكتبات

والحيرة كبيرة، عند بعض أصحاب المكتبات الذين بدأت تصلهم كتب غير مصرح عليها بأنها مكتوبة بواسطة الذكاء الاصطناعي، وثمة من قرر ألا يقبلها حين يكتشف أمرها، ويعيدها من حيث أتت، لكن هؤلاء أنفسهم يتساءلون كم من الوقت بمقدورهم أن يقاوموا الموجة، فهذه التقنيات تزداد مهارة، ثم إذا تحول أحد هذه الكتب إلى «بست سيلر»، وجاء الطلب عليه جارفاً، هل بنقدورهم الاستمرار في رفض بيعه؟ وهل الرفض في هذه الحالة يبقى ممكناً؟

كتّاب أميركيون يرفعون الصوت بعد أن خذلتهم المحاكم

وجّه أكثر من 70 كاتباً أميركياً بارزاً، بينهم دينيس ليهان وغريغوري ماغواير ولورين غروف، رسالة مفتوحة نُشرت على منصة «ليت هب»، دعوا فيها دور النشر الكبرى إلى التوقف عن نشر أي كتاب من تأليف الذكاء الاصطناعي، لأن «الإبداع الإنساني لا يُستبدل». وطالب الكتاب في بيانهم، بمنع استخدام الذكاء الاصطناعي وتطبيق القوانين التي تمنع النشر دون إذن، أو تعويض، واستبدال الآلات بالبشر في دور النشر كما في تسجيل الكتب الصوتية. ووجهت الرسالة والمطالب إلى دور نشر كبيرة، بدل اللجوء إلى المحاكم، نظراً للخذلان من الأحكام التي تصدر غالباً لصالح الشركات التكنولوجية. وهو أمر يصيب الكتاب والفنانين بإحباط كبير، وبإحساس بالغبن في مواجهة قوة تزداد نفوذاً.

«أتلانتيك» تتساءل بمرارة

ومؤخراً نشرت «أتلانتيك» مقالة عنوانها «القضاة لا يعرفون ماذا تعني قرصنة الذكاء الاصطناعي للكتب؟» وذلك بعد صدور حكمين جديدين في قضيتين رفعتا ضد شركات الذكاء الاصطناعي، إحداهما على «أنثروبيك» والثانية على «ميتا». وعدّ القاضيان في حكمهما أن استخدام الشركات للكتب كان «عادلاً»، لأنه جاء بطريقة «تحويلية» أدت إلى منتج مختلف تماماً عن الأصل. وهو بذلك (أي المنتج الجديد) لا ينافس الكتب التي أخذ عنها، ولا يشكل أذى لها، وشبه القاضيان ذلك باستخدام الاستشهادات في الأبحاث. وهو ما حدا بمجلة «أتلانتيك» لأن تعدّ القضاة غير مدركين بعد لما هو الذكاء الاصطناعي، فكيف لهم أن يصدروا أحكاماً بخصوصه.