التسرب المدرسي يجعل مستقبل لبنان قاتماً

آلاف الأطفال اللبنانيين والسوريين خارج المدارس

تنكب المنظمات الدولية في لبنان على ضمان تأمين حق التعلم للأطفال والحيلولة دون تسرب مزيد منهم خارج النظام التعليمي (موقع يونيسف)
تنكب المنظمات الدولية في لبنان على ضمان تأمين حق التعلم للأطفال والحيلولة دون تسرب مزيد منهم خارج النظام التعليمي (موقع يونيسف)
TT

التسرب المدرسي يجعل مستقبل لبنان قاتماً

تنكب المنظمات الدولية في لبنان على ضمان تأمين حق التعلم للأطفال والحيلولة دون تسرب مزيد منهم خارج النظام التعليمي (موقع يونيسف)
تنكب المنظمات الدولية في لبنان على ضمان تأمين حق التعلم للأطفال والحيلولة دون تسرب مزيد منهم خارج النظام التعليمي (موقع يونيسف)

يسهم التعليم، بحسب منظمة الأمم المتحدة للأطفال (يونيسف)، في العديد من أهداف التنمية المستدامة، فهو يقلل من الفقر، ويدفع النمو الاقتصادي المستدام، ويمنع عدم المساواة والظلم، ويؤدي إلى صحة أفضل؛ خصوصاً لدى الأطفال والنساء، ويساعد على حماية الكوكب. بناء على ما سبق، في مجتمعات كالمجتمعين اللبناني والسوري حيث معدلات الفقر والظلم وعدم المساواة تسلك منحىً تصاعدياً، يسلك التعليم تلقائياً مساراً انحدارياً؛ فبدل الانكباب، كما في باقي المجتمعات والدول، على تحسين التعلم، وتطوير المناهج، وتنمية المهارات، تنكب المنظمات الدولية في لبنان على ضمان تأمين حق التعلم للأطفال والحيلولة دون تسرب مزيد منهم خارج النظام التعليمي مما يهدد مستقبلهم ومستقبل هذين البلدين.

أرقام مقلقة
وبلغة الأرقام؛ فإن نصف الأطفال السوريين، بحسب «يونيسف»، خارج المدارس؛ سواء أكانوا في الداخل السوري أم في بلدان اللجوء. وبحسب ليزا أبو خالد، المتحدثة باسم «مفوضية اللاجئين» في لبنان، فإن 30 في المائة من الأطفال السوريين الموجودين في لبنان لم يذهبوا إلى المدرسة مطلقاً، وانخفض الالتحاق بالمدارس الابتدائية بنسبة 21 في المائة على الأقل هذا العام وحده.
ويستضيف لبنان 660 ألف طفل سوري لاجئ في سن المدرسة، ما يعني أن 200 ألف منهم لم يذهبوا إلى المدرسة قط، علماً بأن 60 في المائة لم يسجلوا في المدارس خلال السنوات الأخيرة.
أما ما يتعلق بالأطفال اللبنانيين، فلا وجود لأرقام رسمية؛ سواء لدى وزارة التربية اللبنانية، وحتى لدى «يونيسف»، لكن الطرفين يؤكدان وجود تسرب مدرسي نتيجة الأزمة الاقتصادية والمالية العاصفة بالبلد.
وبحسب معلومات «الشرق الأوسط»، كان «مكتب البحوث التربوية» التابع لوزارة التربية اللبنانية قد بدأ في عام 2020 دراسة حول التسرب والرسوب المدرسي، وأنهى وضع الإطار العام للدراسة والأدوات المرافقة لها، ولكن بسبب وباء «كورونا» لم يتمكن من استكمال العمل الميداني؛ أي الدخول إلى المدارس لتعبئة الاستمارات، مما أدى لتوقف العمل بهذه الدراسة وبكل الدراسات التي كانت قيد الإنجاز في «مكتب البحوث التربوية».
وارتأى قرض البنك الدولي المخصص لتمويل برنامج دعم الأسر الأكثر فقراً بقيمة 246 مليون دولار، والذي يفترض أن يستفيد منه لبنان، بتقديم مساعدات مادية لـ87 ألف طالب في المدارس الرسمية للتصدي لظاهرة التسرب المدرسي التي حذر منها التقرير التقييمي للبنك، بحيث نبه إلى أن «الأزمات المالية والاقتصادية الحالية في لبنان، والتي تصاعدت بسبب وباء (كوفيد19)، باتت تشكل تهديداً خطيراً لاستمرار تعليم الأطفال». وشدد البنك الدولي على أن ظاهرة التسرب المدرسي ليست جديدة لبنانياً، بحيث كان معدل التسرب في العام الدراسي 2011 – 2012 «مرتفعاً للغاية بالنسبة للطلاب في الفئات الاجتماعية والاقتصادية الأدنى»، بحسبان أنه بحلول سن الـ18؛ كان 50 في المائة فقط من الطلاب الذين ينتمون لعائلات هي الأكثر فقراً لا يزالون في المدرسة. ويشير التقرير إلى أن «الوضع خطير بشكل خاص بالنسبة للبنين الذين يبدأ تسربهم من المدرسة في سن 12 و13 عاماً». ومن بين أفراد الأسر المسجلة في قاعدة بيانات «البرنامج الوطني لاستهداف الفقر (NPTP)»، لم يلتحق نحو 15 في المائة منهم بالمدارس، وذكر نحو 50 في المائة منهم أن أسباباً مالية مقنعة هي السبب الرئيسي لعدم التسجيل. وبحسب معلومات «الشرق الأوسط»، تابع وفد من البنك الدولي مؤخراً مع وزير التربية اللبناني موضوع استفادة التلامذة الأكثر فقراً من جزء من هذا القرض، وأُبلغ الوفد بأنه يجري التدقيق في الأشخاص الذين سيستفيدون من القرض، خصوصاً أن جزءاً كبيراً من عائلات هؤلاء التلامذة تسجلوا على المنصة التي تتابعها وزارة الشؤون الاجتماعية للاستفادة من المساعدات المادية.
وفي تقرير لـ«يونيسف» حمل عنوان: «البقاء على قيد الحياة دون أساسيات العيش: تفاقم تأثيرات الأزمة اللبنانية على الأطفال» الصادر في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أشارت المنظمة إلى أن «كثيراً من الأسر وجدت نفسها مجبرة على اللجوء إلى آليات التكيف السلبية التي غالباً ما تعرض الأطفال للخطر. وأرسلت نحو 12 في المائة من الأسر، التي شاركت في استطلاع (اليونيسف) السريع، أطفالها إلى العمل في سبتمبر (أيلول) الماضي، مقارنة بنحو 9 في المائة في أبريل (نيسان)».
وتؤكد رئيسة «اللجنة الفاعلة للأساتذة المتعاقدين في التعليم الرسمي الأساسي»، نسرين شاهين، أن «هناك كثيراً من الأطفال اللبنانيين الذين باتوا خارج المدارس في العامين الماضيين، لكن للأسف لا أرقام دقيقة»، موضحة أن هناك «من بدأوا العام الدراسي، لكنهم إما لا يداومون بشكل يومي، وإما توقفوا عن الحضور بالمطلق لارتفاع تكلفة المواصلات وعدم القدرة على التنقل سيراً على الاقدام بسبب الظروف المناخية».
وتشير شاهين في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه «بعدما كان جهل بعض الأهالي يدفع بهم لإخراج أطفالهم من المدارس لإعانتهم في المصاريف بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة، باتوا اليوم يعبرون عن حسرتهم وغضبهم لعدم قدرتهم على إرسال أولادهم إلى المدارس»، لافتة إلى أن «الأوضاع تتطور من سيئ إلى أسوأ، فبعد النزوح من التعليم الخاص إلى الرسمي، بتنا اليوم في أزمة تسرب مدرسي تتفاقم كل عام».

وضع كارثي
وتتحدث «يونيسف» عن حلقة مفرغة تضم التعليم، وعدم المساواة، والصراع العنيف. يرتبط عدم المساواة في أبعاد عدة بزيادة احتمال نشوب صراع عنيف. بدوره؛ يرتبط الصراع العنيف بفقدان التعليم وعدم المساواة في التعليم. وهذه كلها عوامل متوفرة عندما نتحدث عن أطفال سوريا؛ سواء اللاجئون وأولئك الذين يعيشون داخل سوريا.
وتشير «المديرة الإقليمية للإعلام في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» في منظمة «اليونيسف»، جولييت توما، إلى أن «ظاهرة التسرب المدرسي ظاهرة إقليمية تعاني منها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، لافتة إلى «وجود 15 مليون طفل خارج المدارس في هذه المنطقة».
أما فيما يتعلق بسوريا ولبنان، ففيما تصف الوضع التعليمي في صفوف الأطفال السوريين بـ«الكارثي» بحسبان أن نصفهم خارج المدارس، تشير إلى «احتمال أن تكون ظاهرة التسرب المدرسي بدأت بين الأطفال اللبنانيين مع تفاقم الأزمة المالية - الاقتصادية... إلا إنه لا إحصاءات تدعم هذه الترجيحات، كما لا يمكن الحديث لا شك عن تسرب هائل».
وتوضح توما في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «هذه الظاهرة مرتبطة في الأساس بفقر العائلات، والنزاعات المسلحة، وجودة التعليم، والعنف المدرسي (سواء بين الأطفال، ومن قبل المدرسين)»، لافتة إلى أن «هذه الأزمة تتفاقم عادة بين اللاجئين السوريين في لبنان لأكثر من سبب؛ سواء نتيجة الفقر الذي تعاني منه العائلات فتضطر إلى أن ترسل الأطفال إلى العمل، وبسبب عدم قدرتها على دفع ثمن المواصلات. كما أن مساحة الصفوف في المدارس في لبنان غير مهيأة لتستقبل الكم الهائل من التلامذة رغم الجهود التي تبذلها السلطات اللبنانية لاستقبال أكبر عدد من الأطفال السوريين».
وتشير توما إلى أنه «بسبب طول الأزمة، خسر أطفال سوريا 10 أعوام من التعليم؛ أي بمعنى آخر خسروا مستقبلهم نتيجة خسارتهم عقداً كاملاً من التعليم، مما يجعل من الصعب جداً تعويض الدراسة، من هنا أهمية تركيز الجهود حالياً على كيفية مساعدتهم بالانخراط في سوق العمل وتهيئتهم ليصبحوا أصحاب مهن من خلال تأمين التدريب الصحيح لهم والمساعدة في الحصول على الكفاءات والمهارات».
وتوضح توما أنه «في لبنان، أثرت أزمة (كورونا) كثيراً على الوضع التعليمي؛ لأنه رغم المحاولات الجدية لـ(التعليم أونلاين)، فإن الوضع الكارثي للطاقة والإنترنت جعل هذا الأمر تحدياً كبيراً، ونحن نعتقد أنه في بعض الدول؛ من بينها لبنان، ما بين 30 في المائة؜ و40 في المائة من التلامذة غير قادرين على الاستفادة من خدمة (التعليم من بُعد) بسبب الفقر الرقمي».
وتشدد توما على وجوب «وضع التعليم أولوية رغم الأزمات والحروب، فتماماً كما أن تأمين الغذاء والاستشفاء أمر أساسي في الظروف الصعبة، كذلك يجب أن يكون تأمين التعليم والذهاب إلى المدرسة بوصفه يساهم في تعزيز الصحة النفسية للطفل؛ لأنه يؤمن له الأمان ومكاناً للترفيه»، عادّةً أن «ذلك لا يحصل فقط من خلال تأمين أموال إضافية؛ إنما من خلال زيادة عدد المدرسين وانخراط عدد أكبر من ذوي الكفاءات في المسيرة التعليمية، والتشديد على اكتساب المهارات وتهيئة الطلاب للدخول في سوق العمل؛ لأن المناهج القائمة حالياً في كثير من البلدان مسبب رئيسي للبطالة».

سياسات متشددة لتعليم السوريين
ومطلع شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، انتقدت منظمة «هيومن رايتس ووتش» بشدة ما قالت إنها سياسات معتمدة في لبنان تمنع أطفال اللاجئين السوريين من الوصول إلى التعليم، لافتة إلى أن وزارة التربية تشترط حصولهم على سجلات تعليمية مُصدقة، وإقامة قانونية في لبنان، وغيرها من الوثائق الرسمية التي لا يستطيع معظم السوريين الحصول عليها.
وتوضح ليزا أبو خالد، المتحدثة باسم «مفوضية اللاجئين» في لبنان، لـ«الشرق الأوسط» حقيقة ما يجري، لافتة إلى أن «المدارس الرسمية الابتدائية للأطفال اللاجئين مجانية، وأنه يتوجب الإبلاغ فوراً عن أي مدرسة تطلب رسوم تسجيل». مضيفة: «هناك تكاليف مرتبطة بالتعليم، مثل الزي المدرسي والكتب والملابس الشتوية والقرطاسية، والتكلفة الأهم هي لوسائل النقل التي تشكل حاجزاً أمام اللاجئين ليكونوا قادرين على تحمل تكاليف الذهاب إلى المدرسة والإياب منها، لا سيما في وقت يعيش فيه 9 من أصل 10 لاجئين سوريين تحت الفقر المدقع».
وتشير أبو خالد إلى أن البيانات الأولية من التقرير السنوي لتقييم جوانب الضعف لدى اللاجئين السوريين في لبنان لهذا العام، أظهرت أن تكلفة المواد، وتكلفة النقل، كما الخوف من «كوفيد19»، تليها الحاجة إلى العمل، أكبر العوائق أمام التعليم ضمن الفئة العمرية من 6 أعوام إلى 14 عاماً. وتقول: «النقل يمثل بالفعل عائقاً كبيراً؛ حيث يمكن أن تصل تكلفته إلى 25 ألف ليرة لبنانية لكل طفل يومياً في مناطق معينة».
وتؤكد أبو خالد أنه «ليس هناك أي شرط للحصول على تصريح إقامة للالتحاق بالمدارس الابتدائية، وبالتالي ومن حيث المبدأ، على جميع الأطفال اللاجئين أن يتمكنوا من الالتحاق بها. ومع ذلك، هناك تقارير تفيد بأن بعض المدارس تفرض متطلبات أو مستندات إضافية، مثل تصريح إقامة جديد، وهو أمر يصعب للغاية الحصول عليه وينبغي ألا تطلبه المدارس. وعند كشفنا لمثل هذه المواقف، تستخدم المفوضية وشركاؤها آلية تقديم الشكاوى في قطاع التعليم، والتي تذهب إلى وزارة التربية والتعليم العالي، والتي يمكنها بعد ذلك أن توضح مباشرة لمدير المدرسة أن الإقامة ليست شرطاً للتسجيل الابتدائي. أما في التعليم الثانوي، فتصريح الإقامة شرط بالفعل، وتساعد المفوضية اللاجئين في معالجة الموضوع من خلال تسليم شهادة سكن في الوقت المناسب في جميع مراكز التسجيل لدينا، وكذلك من خلال تقديم المشورة القانونية». وتضيف: «بالنسبة للحالات المؤهلة التي يمكن أن تستفيد من ورقة التنازل من الأمن العام اللبناني والحصول على تصريح إقامة قانوني، فإننا ندعمهم ونرافقهم إلى مراكز الأمن العام اللبناني. غير أننا في الوقت نفسه، نواصل الدعوة إلى ألا تكون الإقامة عائقاً أمام التعليم الثانوي، كي نضمن للأطفال اللاجئين مواصلة تعليمهم والحصول على مستقبل أفضل».
وبحسب «هيومن رايتس ووتش»، ينتظر الأطفال السوريون الذين يسعون إلى حضور الصفوف العادية حتى انتهاء تسجيل الأطفال اللبنانيين ليتسجلوا في الأماكن المتاحة. وقد انخفض عدد الأماكن المتاحة بسبب انتقال 54 ألف تلميذ لبناني من المدارس الخاصة إلى المدارس الرسمية خلال العام الدراسي 2020 – 2021 مع تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد.
ويعدّ بيل فان إسفلد، المدير المشارك في «قسم حقوق الطفل» لدى «هيومن رايتس ووتش»، أنه «إذا أرادت حكومة لبنان الجديدة تدارك خسارة جيل؛ فعليها أن تتوقف عن وضع عقبات وطلب وثائق لا يمكن الحصول عليها من أطفال اللاجئين الذين يريدون الذهاب إلى المدرسة. لنكن واضحين؛ إذا لم تتخل الحكومة عن هذه السياسات، فستكون مسؤولة عن انتهاكات جسيمة للحق في التعليم».

مخاطر التسرب
وتشير الدكتورة باسكال مراد، الاختصاصية في علم النفس والاجتماع، إلى أن «الطفل خارج المدرسة مهدد بالدرجة الأولى؛ لأنه في معظم الأوقات على الطريق حيث يكون معرضاً لسوء معاملة معنوية وجسدية؛ كما في بعض الأحيان لتحرش جنسي واغتصاب، أضف أنه على الصعيد النفسي يعيش يأساً من المستقبل، خصوصاً في حالة المراهق؛ حيث يشعر أن أحلامه تنهار». وتنبه مراد في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى «أننا بذلك نؤسس لجيل ضائع معرض لكل أنواع الآفات؛ من المخدرات إلى العنف وجرائم السرقة والقتل، مما يجعله مهدداً وفي الوقت عينه يهدد مجتمعه».
وتعدّ مراد أن «الأخطر من كل ما سبق أن ظاهرة التسرب المدرسي تتزامن مع خلل في النظام التربوي والمدرسي في لبنان، فبعدما كنا نتميز عن دول المنطقة في نظامنا التعليمي المتطور، بتنا اليوم نشهد تراجعاً كبيراً فاقمه التعليم من بُعد الذي أدى إلى كثير من المشكلات النفسية نتيجة العزلة التي عاشها الأطفال في منازلهم بسبب (كورونا)»، مضيفة: «نحن إذن بصدد أجيال ضعيفة غير متمكنة وغير متعلمة تعيش في دولة تشهد تفككاً غير مسبوق على المستويات كافة... وهنا الخطر الكبير».



السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.