التسرب المدرسي يجعل مستقبل لبنان قاتماً

آلاف الأطفال اللبنانيين والسوريين خارج المدارس

تنكب المنظمات الدولية في لبنان على ضمان تأمين حق التعلم للأطفال والحيلولة دون تسرب مزيد منهم خارج النظام التعليمي (موقع يونيسف)
تنكب المنظمات الدولية في لبنان على ضمان تأمين حق التعلم للأطفال والحيلولة دون تسرب مزيد منهم خارج النظام التعليمي (موقع يونيسف)
TT

التسرب المدرسي يجعل مستقبل لبنان قاتماً

تنكب المنظمات الدولية في لبنان على ضمان تأمين حق التعلم للأطفال والحيلولة دون تسرب مزيد منهم خارج النظام التعليمي (موقع يونيسف)
تنكب المنظمات الدولية في لبنان على ضمان تأمين حق التعلم للأطفال والحيلولة دون تسرب مزيد منهم خارج النظام التعليمي (موقع يونيسف)

يسهم التعليم، بحسب منظمة الأمم المتحدة للأطفال (يونيسف)، في العديد من أهداف التنمية المستدامة، فهو يقلل من الفقر، ويدفع النمو الاقتصادي المستدام، ويمنع عدم المساواة والظلم، ويؤدي إلى صحة أفضل؛ خصوصاً لدى الأطفال والنساء، ويساعد على حماية الكوكب. بناء على ما سبق، في مجتمعات كالمجتمعين اللبناني والسوري حيث معدلات الفقر والظلم وعدم المساواة تسلك منحىً تصاعدياً، يسلك التعليم تلقائياً مساراً انحدارياً؛ فبدل الانكباب، كما في باقي المجتمعات والدول، على تحسين التعلم، وتطوير المناهج، وتنمية المهارات، تنكب المنظمات الدولية في لبنان على ضمان تأمين حق التعلم للأطفال والحيلولة دون تسرب مزيد منهم خارج النظام التعليمي مما يهدد مستقبلهم ومستقبل هذين البلدين.

أرقام مقلقة
وبلغة الأرقام؛ فإن نصف الأطفال السوريين، بحسب «يونيسف»، خارج المدارس؛ سواء أكانوا في الداخل السوري أم في بلدان اللجوء. وبحسب ليزا أبو خالد، المتحدثة باسم «مفوضية اللاجئين» في لبنان، فإن 30 في المائة من الأطفال السوريين الموجودين في لبنان لم يذهبوا إلى المدرسة مطلقاً، وانخفض الالتحاق بالمدارس الابتدائية بنسبة 21 في المائة على الأقل هذا العام وحده.
ويستضيف لبنان 660 ألف طفل سوري لاجئ في سن المدرسة، ما يعني أن 200 ألف منهم لم يذهبوا إلى المدرسة قط، علماً بأن 60 في المائة لم يسجلوا في المدارس خلال السنوات الأخيرة.
أما ما يتعلق بالأطفال اللبنانيين، فلا وجود لأرقام رسمية؛ سواء لدى وزارة التربية اللبنانية، وحتى لدى «يونيسف»، لكن الطرفين يؤكدان وجود تسرب مدرسي نتيجة الأزمة الاقتصادية والمالية العاصفة بالبلد.
وبحسب معلومات «الشرق الأوسط»، كان «مكتب البحوث التربوية» التابع لوزارة التربية اللبنانية قد بدأ في عام 2020 دراسة حول التسرب والرسوب المدرسي، وأنهى وضع الإطار العام للدراسة والأدوات المرافقة لها، ولكن بسبب وباء «كورونا» لم يتمكن من استكمال العمل الميداني؛ أي الدخول إلى المدارس لتعبئة الاستمارات، مما أدى لتوقف العمل بهذه الدراسة وبكل الدراسات التي كانت قيد الإنجاز في «مكتب البحوث التربوية».
وارتأى قرض البنك الدولي المخصص لتمويل برنامج دعم الأسر الأكثر فقراً بقيمة 246 مليون دولار، والذي يفترض أن يستفيد منه لبنان، بتقديم مساعدات مادية لـ87 ألف طالب في المدارس الرسمية للتصدي لظاهرة التسرب المدرسي التي حذر منها التقرير التقييمي للبنك، بحيث نبه إلى أن «الأزمات المالية والاقتصادية الحالية في لبنان، والتي تصاعدت بسبب وباء (كوفيد19)، باتت تشكل تهديداً خطيراً لاستمرار تعليم الأطفال». وشدد البنك الدولي على أن ظاهرة التسرب المدرسي ليست جديدة لبنانياً، بحيث كان معدل التسرب في العام الدراسي 2011 – 2012 «مرتفعاً للغاية بالنسبة للطلاب في الفئات الاجتماعية والاقتصادية الأدنى»، بحسبان أنه بحلول سن الـ18؛ كان 50 في المائة فقط من الطلاب الذين ينتمون لعائلات هي الأكثر فقراً لا يزالون في المدرسة. ويشير التقرير إلى أن «الوضع خطير بشكل خاص بالنسبة للبنين الذين يبدأ تسربهم من المدرسة في سن 12 و13 عاماً». ومن بين أفراد الأسر المسجلة في قاعدة بيانات «البرنامج الوطني لاستهداف الفقر (NPTP)»، لم يلتحق نحو 15 في المائة منهم بالمدارس، وذكر نحو 50 في المائة منهم أن أسباباً مالية مقنعة هي السبب الرئيسي لعدم التسجيل. وبحسب معلومات «الشرق الأوسط»، تابع وفد من البنك الدولي مؤخراً مع وزير التربية اللبناني موضوع استفادة التلامذة الأكثر فقراً من جزء من هذا القرض، وأُبلغ الوفد بأنه يجري التدقيق في الأشخاص الذين سيستفيدون من القرض، خصوصاً أن جزءاً كبيراً من عائلات هؤلاء التلامذة تسجلوا على المنصة التي تتابعها وزارة الشؤون الاجتماعية للاستفادة من المساعدات المادية.
وفي تقرير لـ«يونيسف» حمل عنوان: «البقاء على قيد الحياة دون أساسيات العيش: تفاقم تأثيرات الأزمة اللبنانية على الأطفال» الصادر في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أشارت المنظمة إلى أن «كثيراً من الأسر وجدت نفسها مجبرة على اللجوء إلى آليات التكيف السلبية التي غالباً ما تعرض الأطفال للخطر. وأرسلت نحو 12 في المائة من الأسر، التي شاركت في استطلاع (اليونيسف) السريع، أطفالها إلى العمل في سبتمبر (أيلول) الماضي، مقارنة بنحو 9 في المائة في أبريل (نيسان)».
وتؤكد رئيسة «اللجنة الفاعلة للأساتذة المتعاقدين في التعليم الرسمي الأساسي»، نسرين شاهين، أن «هناك كثيراً من الأطفال اللبنانيين الذين باتوا خارج المدارس في العامين الماضيين، لكن للأسف لا أرقام دقيقة»، موضحة أن هناك «من بدأوا العام الدراسي، لكنهم إما لا يداومون بشكل يومي، وإما توقفوا عن الحضور بالمطلق لارتفاع تكلفة المواصلات وعدم القدرة على التنقل سيراً على الاقدام بسبب الظروف المناخية».
وتشير شاهين في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه «بعدما كان جهل بعض الأهالي يدفع بهم لإخراج أطفالهم من المدارس لإعانتهم في المصاريف بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة، باتوا اليوم يعبرون عن حسرتهم وغضبهم لعدم قدرتهم على إرسال أولادهم إلى المدارس»، لافتة إلى أن «الأوضاع تتطور من سيئ إلى أسوأ، فبعد النزوح من التعليم الخاص إلى الرسمي، بتنا اليوم في أزمة تسرب مدرسي تتفاقم كل عام».

وضع كارثي
وتتحدث «يونيسف» عن حلقة مفرغة تضم التعليم، وعدم المساواة، والصراع العنيف. يرتبط عدم المساواة في أبعاد عدة بزيادة احتمال نشوب صراع عنيف. بدوره؛ يرتبط الصراع العنيف بفقدان التعليم وعدم المساواة في التعليم. وهذه كلها عوامل متوفرة عندما نتحدث عن أطفال سوريا؛ سواء اللاجئون وأولئك الذين يعيشون داخل سوريا.
وتشير «المديرة الإقليمية للإعلام في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» في منظمة «اليونيسف»، جولييت توما، إلى أن «ظاهرة التسرب المدرسي ظاهرة إقليمية تعاني منها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، لافتة إلى «وجود 15 مليون طفل خارج المدارس في هذه المنطقة».
أما فيما يتعلق بسوريا ولبنان، ففيما تصف الوضع التعليمي في صفوف الأطفال السوريين بـ«الكارثي» بحسبان أن نصفهم خارج المدارس، تشير إلى «احتمال أن تكون ظاهرة التسرب المدرسي بدأت بين الأطفال اللبنانيين مع تفاقم الأزمة المالية - الاقتصادية... إلا إنه لا إحصاءات تدعم هذه الترجيحات، كما لا يمكن الحديث لا شك عن تسرب هائل».
وتوضح توما في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «هذه الظاهرة مرتبطة في الأساس بفقر العائلات، والنزاعات المسلحة، وجودة التعليم، والعنف المدرسي (سواء بين الأطفال، ومن قبل المدرسين)»، لافتة إلى أن «هذه الأزمة تتفاقم عادة بين اللاجئين السوريين في لبنان لأكثر من سبب؛ سواء نتيجة الفقر الذي تعاني منه العائلات فتضطر إلى أن ترسل الأطفال إلى العمل، وبسبب عدم قدرتها على دفع ثمن المواصلات. كما أن مساحة الصفوف في المدارس في لبنان غير مهيأة لتستقبل الكم الهائل من التلامذة رغم الجهود التي تبذلها السلطات اللبنانية لاستقبال أكبر عدد من الأطفال السوريين».
وتشير توما إلى أنه «بسبب طول الأزمة، خسر أطفال سوريا 10 أعوام من التعليم؛ أي بمعنى آخر خسروا مستقبلهم نتيجة خسارتهم عقداً كاملاً من التعليم، مما يجعل من الصعب جداً تعويض الدراسة، من هنا أهمية تركيز الجهود حالياً على كيفية مساعدتهم بالانخراط في سوق العمل وتهيئتهم ليصبحوا أصحاب مهن من خلال تأمين التدريب الصحيح لهم والمساعدة في الحصول على الكفاءات والمهارات».
وتوضح توما أنه «في لبنان، أثرت أزمة (كورونا) كثيراً على الوضع التعليمي؛ لأنه رغم المحاولات الجدية لـ(التعليم أونلاين)، فإن الوضع الكارثي للطاقة والإنترنت جعل هذا الأمر تحدياً كبيراً، ونحن نعتقد أنه في بعض الدول؛ من بينها لبنان، ما بين 30 في المائة؜ و40 في المائة من التلامذة غير قادرين على الاستفادة من خدمة (التعليم من بُعد) بسبب الفقر الرقمي».
وتشدد توما على وجوب «وضع التعليم أولوية رغم الأزمات والحروب، فتماماً كما أن تأمين الغذاء والاستشفاء أمر أساسي في الظروف الصعبة، كذلك يجب أن يكون تأمين التعليم والذهاب إلى المدرسة بوصفه يساهم في تعزيز الصحة النفسية للطفل؛ لأنه يؤمن له الأمان ومكاناً للترفيه»، عادّةً أن «ذلك لا يحصل فقط من خلال تأمين أموال إضافية؛ إنما من خلال زيادة عدد المدرسين وانخراط عدد أكبر من ذوي الكفاءات في المسيرة التعليمية، والتشديد على اكتساب المهارات وتهيئة الطلاب للدخول في سوق العمل؛ لأن المناهج القائمة حالياً في كثير من البلدان مسبب رئيسي للبطالة».

سياسات متشددة لتعليم السوريين
ومطلع شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، انتقدت منظمة «هيومن رايتس ووتش» بشدة ما قالت إنها سياسات معتمدة في لبنان تمنع أطفال اللاجئين السوريين من الوصول إلى التعليم، لافتة إلى أن وزارة التربية تشترط حصولهم على سجلات تعليمية مُصدقة، وإقامة قانونية في لبنان، وغيرها من الوثائق الرسمية التي لا يستطيع معظم السوريين الحصول عليها.
وتوضح ليزا أبو خالد، المتحدثة باسم «مفوضية اللاجئين» في لبنان، لـ«الشرق الأوسط» حقيقة ما يجري، لافتة إلى أن «المدارس الرسمية الابتدائية للأطفال اللاجئين مجانية، وأنه يتوجب الإبلاغ فوراً عن أي مدرسة تطلب رسوم تسجيل». مضيفة: «هناك تكاليف مرتبطة بالتعليم، مثل الزي المدرسي والكتب والملابس الشتوية والقرطاسية، والتكلفة الأهم هي لوسائل النقل التي تشكل حاجزاً أمام اللاجئين ليكونوا قادرين على تحمل تكاليف الذهاب إلى المدرسة والإياب منها، لا سيما في وقت يعيش فيه 9 من أصل 10 لاجئين سوريين تحت الفقر المدقع».
وتشير أبو خالد إلى أن البيانات الأولية من التقرير السنوي لتقييم جوانب الضعف لدى اللاجئين السوريين في لبنان لهذا العام، أظهرت أن تكلفة المواد، وتكلفة النقل، كما الخوف من «كوفيد19»، تليها الحاجة إلى العمل، أكبر العوائق أمام التعليم ضمن الفئة العمرية من 6 أعوام إلى 14 عاماً. وتقول: «النقل يمثل بالفعل عائقاً كبيراً؛ حيث يمكن أن تصل تكلفته إلى 25 ألف ليرة لبنانية لكل طفل يومياً في مناطق معينة».
وتؤكد أبو خالد أنه «ليس هناك أي شرط للحصول على تصريح إقامة للالتحاق بالمدارس الابتدائية، وبالتالي ومن حيث المبدأ، على جميع الأطفال اللاجئين أن يتمكنوا من الالتحاق بها. ومع ذلك، هناك تقارير تفيد بأن بعض المدارس تفرض متطلبات أو مستندات إضافية، مثل تصريح إقامة جديد، وهو أمر يصعب للغاية الحصول عليه وينبغي ألا تطلبه المدارس. وعند كشفنا لمثل هذه المواقف، تستخدم المفوضية وشركاؤها آلية تقديم الشكاوى في قطاع التعليم، والتي تذهب إلى وزارة التربية والتعليم العالي، والتي يمكنها بعد ذلك أن توضح مباشرة لمدير المدرسة أن الإقامة ليست شرطاً للتسجيل الابتدائي. أما في التعليم الثانوي، فتصريح الإقامة شرط بالفعل، وتساعد المفوضية اللاجئين في معالجة الموضوع من خلال تسليم شهادة سكن في الوقت المناسب في جميع مراكز التسجيل لدينا، وكذلك من خلال تقديم المشورة القانونية». وتضيف: «بالنسبة للحالات المؤهلة التي يمكن أن تستفيد من ورقة التنازل من الأمن العام اللبناني والحصول على تصريح إقامة قانوني، فإننا ندعمهم ونرافقهم إلى مراكز الأمن العام اللبناني. غير أننا في الوقت نفسه، نواصل الدعوة إلى ألا تكون الإقامة عائقاً أمام التعليم الثانوي، كي نضمن للأطفال اللاجئين مواصلة تعليمهم والحصول على مستقبل أفضل».
وبحسب «هيومن رايتس ووتش»، ينتظر الأطفال السوريون الذين يسعون إلى حضور الصفوف العادية حتى انتهاء تسجيل الأطفال اللبنانيين ليتسجلوا في الأماكن المتاحة. وقد انخفض عدد الأماكن المتاحة بسبب انتقال 54 ألف تلميذ لبناني من المدارس الخاصة إلى المدارس الرسمية خلال العام الدراسي 2020 – 2021 مع تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد.
ويعدّ بيل فان إسفلد، المدير المشارك في «قسم حقوق الطفل» لدى «هيومن رايتس ووتش»، أنه «إذا أرادت حكومة لبنان الجديدة تدارك خسارة جيل؛ فعليها أن تتوقف عن وضع عقبات وطلب وثائق لا يمكن الحصول عليها من أطفال اللاجئين الذين يريدون الذهاب إلى المدرسة. لنكن واضحين؛ إذا لم تتخل الحكومة عن هذه السياسات، فستكون مسؤولة عن انتهاكات جسيمة للحق في التعليم».

مخاطر التسرب
وتشير الدكتورة باسكال مراد، الاختصاصية في علم النفس والاجتماع، إلى أن «الطفل خارج المدرسة مهدد بالدرجة الأولى؛ لأنه في معظم الأوقات على الطريق حيث يكون معرضاً لسوء معاملة معنوية وجسدية؛ كما في بعض الأحيان لتحرش جنسي واغتصاب، أضف أنه على الصعيد النفسي يعيش يأساً من المستقبل، خصوصاً في حالة المراهق؛ حيث يشعر أن أحلامه تنهار». وتنبه مراد في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى «أننا بذلك نؤسس لجيل ضائع معرض لكل أنواع الآفات؛ من المخدرات إلى العنف وجرائم السرقة والقتل، مما يجعله مهدداً وفي الوقت عينه يهدد مجتمعه».
وتعدّ مراد أن «الأخطر من كل ما سبق أن ظاهرة التسرب المدرسي تتزامن مع خلل في النظام التربوي والمدرسي في لبنان، فبعدما كنا نتميز عن دول المنطقة في نظامنا التعليمي المتطور، بتنا اليوم نشهد تراجعاً كبيراً فاقمه التعليم من بُعد الذي أدى إلى كثير من المشكلات النفسية نتيجة العزلة التي عاشها الأطفال في منازلهم بسبب (كورونا)»، مضيفة: «نحن إذن بصدد أجيال ضعيفة غير متمكنة وغير متعلمة تعيش في دولة تشهد تفككاً غير مسبوق على المستويات كافة... وهنا الخطر الكبير».



جولة في «دماغ نتنياهو»: كيف سخّر رجل واحد العالم لخدمة أهدافه الشخصية

صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)
صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)
TT

جولة في «دماغ نتنياهو»: كيف سخّر رجل واحد العالم لخدمة أهدافه الشخصية

صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)
صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)

قبل 15 عاماً، سُئل بنتسي نتنياهو، والد رئيس الوزراء الإسرائيلي، عن رأيه، في نجله. فأجاب: «إنه ليس بأهبل».

الصحافي الذي سأله يُدعى عميت سيجال، وهو من سلالة يمينية، يعمل مراسلاً سياسياً في «القناة 12»، التي كانت تُدعى «القناة الثانية». وسيجال يتفاخر بأنه من المعجبين برئيس حكومته نتنياهو. والغرض من سؤال الوالد، لم يكن المساس بشخص الابن بل بالعكس، فقد وجّه سيجال السؤال، لكي يفهم ما وراء التصريح الذي أدلى به نتنياهو الابن في جامعة «بار إيلان»، في سنة 2009، وأعرب فيه عن تأييده حل الدولتين.

وعليه، أجاب الوالد: «بيبي لا يؤيد حل الدولتين. لقد وضع شروطاً لا يمكن للعرب قبولها. وهذه بلاد اليهود ولا مكان للعرب فيها». وكانت الشروط أن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل دولةً للشعب اليهودي، وتكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، وأن تحل قضية اللاجئين خارج تخوم إسرائيل.

الخطاب جاء في ظروف معينة، تُذكّر بهذه الأيام. ففي حينه، باشر الرئيس باراك أوباما دورته الرئاسية الأولى، في 20 يناير (كانون الثاني)، وبعد شهرين، في نهاية مارس (آذار)، باشر نتنياهو رئاسة الحكومة الإسرائيلية. وفي 18 مايو (أيار) استقبل أوباما نتنياهو في البيت الأبيض، وطلب منه وقف المستوطنات وتأييد حل الدولتين، «الذي لا حل سواه لإنهاء الصراع». وفي 4 يونيو (حزيران)، ألقى الرئيس الأميركي خطاباً في القاهرة، متوجهاً للعالم العربي والإسلامي، وفاتحاً صفحة جديدة في العلاقات الأميركية معهما. وبعد 10 أيام ألقى نتنياهو خطاب «بار إيلان».

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

قبل هذا الموعد بست سنوات، كان نتنياهو قد عُيّن وزيراً للمالية في حكومة أرئيل شارون، وقد سُئل والده عن مستقبل ابنه، وإن كان يصلح ليصبح رئيس وزراء؟ فأجاب: «كلا، إنه يصلح وزيراً للخارجية». ففي مفهومه، منصب وزير الخارجية يُلائم مَن يحب الكلام، ويجيد الخطابة، ويتمتع بحفلات الكوكتيل، ولا يحب العمل. ومن يعرف الابن أكثر من الوالد.

التسويق في البضائع والسياسة

المشكلة اليوم أن هذا الابن يقود دولة في مركز الأحداث في الشرق الأوسط والعالم، وأولئك الذين يتعاملون مع هذا الابن، هم رؤساء دول وملوك وقادة جيشه ومخابراته وبشر يتحكم بمصائرهم، وكلهم ذاقوا على جلودهم مرارة التجربة.

ومن الصعب أن تجد فيهم مَن يستطيع فك رموز شخصية بنيامين نتنياهو. فهو دائماً مفاجئ، وفي كثير من الأحيان صادم، لكن هناك شيئاً يتقنه جيداً. هو وضع مصالحه الشخصية فوق أي اعتبار؛ إذا أراد أمراً فلن يعيقه شيء عن الوصول إليه. وأهم أدواته في تحقيق أهدافه، إدارة التسويق.

كان نتنياهو قد بدأ حياته موظفاً في تسويق البضاعة بمحل لتجارة الأثاث في الولايات المتحدة، وأبدع في التقاط أسرار هذه المهنة. كان يعرض بضاعة أخشاب السويد على أنها أخشاب زان، ويبيع أشياء تصلح وأشياء لا تصلح.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو متحدّثاً لأعضاء في الكونغرس الأميركي في يوليو 2024 (غيتي)

وإذا ما قرر صاحب المحل التخلُّص من بضاعة كاسدة، كلّف نتنياهو بالمهمة، فيروِّج لها الأخير كما لو أنها أفضل المنتجات. كان يكذب بتلقائية، ومن دون أن تظهر على وجهه أي علامة. كان يقبض ولا يدفع. المراوغة والاحتيال وخيانة الأمانة، كلها تمر على الزبائن بفضل قدرته العالية على الكلام، وقبل أن يُكتشف أمره، انتقل إلى العمل السياسي. عُين ممثلاً لإسرائيل في الأمم المتحدة، ثم نائباً لوزير الخارجية، ووزيراً للخارجية، ثم وزيراً للمالية، ثم رئيساً للوزراء، لفترة أطول من أي رئيس وزراء سابق له.

لقد حمل نتنياهو معه إلى السياسة كل صفاته في التسويق. المثل الصارخ على ذلك، هو ما يفعله اليوم في اختراعه معضلة «محور فيلادلفيا» لعرقلة صفقة تبادل الأسرى. قبل هذه المعضلة بواحد وثلاثين سنة، اخترع نتنياهو قصة أخرى بفضلها انتخب لرئاسة «الليكود»، ليُمهّد الطريق لرئاسة الحكومة. ففي الرابع عشر من يناير من سنة 1993، وعلى أثر هزيمة «الليكود»، بقيادة إسحق شامير، خاض نتنياهو انتخابات داخلية على منصب رئيس الحزب ومرشحه لرئاسة الحكومة، في مواجهة 3 مرشحين: دافيد ليفي، وبيني بيغن، وموشيه قصاب.

رجل يضع ملصقاً انتخابياً لإيهود باراك فوق صورة المرشح بنيامين نتنياهو في انتخابات 1999 (غيتي)

قبل 10 أيام من الانتخابات، طلب نتنياهو الوصول إلى استوديوهات القناة الرسمية الوحيدة للتلفزيون للكشف عن فضيحة كبرى، وهناك أعلن أنه كان على علاقة بامرأة أخرى خارج الزواج، وأن شخصية كبيرة في «الليكود»، محاطة بعصابة مجرمين، هددت بكشف شريط يوثق علاقته بها بشكل فاضح، إذا لم ينسحب من المنافسة. وألمح إلى أن هذه الشخصية هي المنافس الأساسي دافيد ليفي. وانقلبت المعركة الانتخابية وفقاً للأجندة التي فرضها. وبالنتيجة فاز على منافسيه الثلاثة بنسبة 52 في المائة.

وبالطريقة نفسها، لكن بمستوى أخطر، فاز برئاسة الحكومة، فقد أدار حملة تحريض دموية على إسحاق رابين، واتهمه بخيانة مصالح إسرائيل الأمنية عندما وقع على اتفاقيات «أوسلو»، فقرر شاب يميني متطرف اغتيال رابين. ورغم أن الاغتيال أحدث زلزالاً في السياسة الإسرائيلية، نجح نتنياهو في رئاسة الحكومة بعد أقل من سنة.

الناس زبائن تُحركهم نقاط ضعفهم

التسويق إذن هو الحمض النووي (DNA) في شخصية نتنياهو. يضع لنفسه هدفاً، ويبتدع أنجع الطرق لتسويقه. يقرأ خريطة الناس بصفتهم زبائن، يكتشف نقاط الضعف، وينفذ من خلالها كالسهم. قد تكون هذه الطرق قذرة، وقد تكون طافحة بالأكاذيب، وفائضة بالخدع، وقد تُكلف بلاده وشعبه وحتى حزبه ثمناً باهظاً، لكن المهم أنه يجد مَن يصفق له. وكيف يصفقون له: بنوعية الرسائل التي يبثها.

بنيامين نتنياهو معلناً عودته للحياة السياسية في 2000 بعد فوز إيهود باراك في 1999 (غيتي)

داني فيدوسلافسكي، المتخصص في سلوك الفرد، ويدير كلية لتعليم السياسيين كيف ينجحون في الوصول إلى قلوب الجماهير، أصدر كتاباً بعنوان: «أسرار التسويق عند بيبي». وهو يُعدّ أهم عنصر في نجاحه معرفته صياغة رسائل قصيرة وبسيطة للناس. ويقول: «ليس مهمّاً إن كانت هذه الرسائل صحيحة أو صادقة، بل المهم أن يعرف كيف تُصيب وجدان الجماهير، وتخترق دماغهم». يخاطب الناس بلغة نحن وهم، وعندما يقول نحن يقصد هو وهم. يتحدث عن خصومه: «يسار». وبعدما جعل من كلمة يسار لعنة، راح يلصقها بكل خصومه حتى داخل «الليكود».

ولكن، من كثرة ما بنى له من خصوم، أصبح واضحاً أنه لا يهتم بشيء بمقدار مصلحته الشخصية، فصار فناناً في تصفية كل مَن يعترض طريقه، وليس فقط من الخصوم. وبنى لنفسه قاعدة جماهيرية محدودة من اليمين، ذات تركيبة عجيبة. غالبيتهم من الفقراء، مع أن سياسته رأسمالية راديكالية. شرقيون مع أنه إشكنازي متعجرف. على طول طريقه السياسي، نجح في تحطيم الأحزاب التي تنافسه. في سنة 2009، كان ينافسه إيهود باراك. وباراك كان قائد نتنياهو في الجيش، وفي سنة 1999 هزمه في الانتخابات، وفاز برئاسة الحكومة. لكن نتنياهو أقنعه بدخول حكومته وزيراً للدفاع، وتسبب بذلك في تفسخ حزب «العمل» وانهياره، إلى أن اعتزل باراك السياسة. وفعل الأمر نفسه مع يائير لبيد، ومع بيني غانتس، ومع موشيه كحلون.

ومن كثرة نجاحاته هذه، اقتنع بأنه يتمتع بقدرات عالية فوق طبيعية.

ويُحكى أنه ذات مرة قال أمام مقربين منه: «احمدوا الله على أنه حباكم قائداً مثلي». وزوجته سارة تردد هذه الجملة باستمرار. وإذا أراد أن يكون متواضعاً، يُشبه نفسه بالقائد البريطاني ونستون تشرشل.

ولا يكتفي نتنياهو بأن يرى نفسه أو يراه أفراد عائلته والمقربون والمنافقون بهذا الشكل، بل يطالب العالم بأن يراه بهذا الشكل أيضاً، فهو يُعدّ نفسه قائداً عالمياً، تاريخياً، أرسله الله ليقود معركة الغرب كله بشكل صحيح، ولديه نصائح لجميع القادة الكبار في العالم. ذات مرة التقاه الرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض، وبعد انتهاء اللقاء قال أوباما لمساعديه: «من منا رئيس الدولة العظمى؟». ولكن الرئيس التالي بعد أوباما، دونالد ترمب، ورغم غروره ونبرته، اقتنع من نتنياهو بضرورة الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران. وتباهى نتنياهو بذلك، وبأن إسرائيل تحت قيادته وجهت ضربات لإيران، أكثر من أي قائد غربي آخر.

حب المال وتلقي الهدايا

مشكلة نتنياهو أنه على طريقه الطويل، وقع في حادث أليم، فقد كُشفت إحدى نقاط ضعفه الخطيرة، وهي المال. رأس ماله يقدر بثلاثة وعشرين مليون دولار. راتبه الشهري 20 ألف دولار. أمواله جمعت من الرواتب العالية، وكذلك من المحاضرات، إذ يُعدّ محاضراً مطلوباً في العالم، خصوصاً في الولايات المتحدة.

بنيامين نتنياهو وزوجته سارة في زيارة رسمية لباريس (أرشيفية - غيتي)

لكن الأهم من دخله، الذي جمعه من عرق الجبين بغالبيته، هو مصروفه. نتنياهو معروف بأنه لا يصرف مطلقاً. كل مصاريفه على حساب الدولة، على عكس كل سابقيه، الذين حرصوا على الدفع من جيوبهم. لا يوجد له أصدقاء، ولكنه يحرص على علاقات جيدة مع عدد كبير من أصحاب الرساميل في العالم، الذين يُحدد مستوى القرب معهم بمستوى صرفهم هم عليه. وهو محب للهدايا السخية بشكل خاص، فإذا أهدى أحد المعارف عقداً من الذهب الخالص لزوجته سارة، لا يتردد نتنياهو بالاتصال بمقدم الهدية، مظهراً الزعل ومعاتباً: لماذا لم تشترِ لها الخاتم والحلق الملائمين للعقد؟

هذه العادات قادت نتنياهو إلى قفص الاتهام بتهمة تلقي الرشى وخيانة الأمانة، لأن هناك اشتباهاً بأنه استغل منصبه بصفته رئيس حكومة ليوفي الهدايا بخدمات يحتاج إليها أصحابها. وهناك شبهات نشرها اليعاد شارغا، رئيس حركة «طهارة الحكم»، الذي يقود منذ عشرات السنين معارك قضائية كبيرة ضد الفساد وضد المساس بالديمقراطية. وقال خلال مؤتمر «هرتسليا 2024»: «نتنياهو ارتكب أكبر وأخطر قضية فساد في تاريخ إسرائيل، جرى فيها هدر مليارات الدولارات عبثاً، على أسلحة لسنا بحاجة إليها، وبصفقة تمت من وراء ظهر وزير الأمن ورئيس أركان الجيش وقائد سلاح البحرية. وبلغ فيها الفساد فحشاً في قدس أقداسنا، الأسلحة الاستراتيجية. نتنياهو أدخل إلى جيبه 25 مليون شيقل عمولة في هذه القضية، وهذا عدا عمولات أخرى لشركائه في الجريمة. غابي إشكنازي، قال يومها إنه في اللحظة التي نشتري فيها الغواصة السادسة، لن يبقى لدينا مال للمجنزرات والمدرعات التي نحتاج إليها لاجتياح الشجاعية. وهذا ما حصل فعلاً، واليوم نذوق هذا النقص على جلود أبنائنا الجنود في قطاع غزة».

هذه القضية هي أيضاً مطروحة على بساط البحث في المحكمة، ولم يتقرر بعد تحويلها إلى لائحة اتهام. وتلميح شارغا إلى غزة يتعلق بالتهمة الموجهة إلى نتنياهو بأنه كان مسؤولاً عن إخفاق 7 أكتوبر (تشرين الأول) بشكل شخصي، إذ إنه قام بتقوية «حماس»، وتباهى بأنه يُحول لها الأموال لكي يعمق الانقسام الفلسطيني، وتم تحذيره بأن سياسة حكومته ستفجر حرباً، ولم يكترث.

الفساد... قضية حياة أو موت سياسي

نتنياهو يعرف جيداً خطورة هذه القضايا الثلاث، ويدرك أنه يواجه خطر الحبس بسببها. مسألة حياة أو موت، سياسياً، فإذا تخلّى عن منصبه بصفته رئيس حكومة، سيسهل على الجهاز القضائي الحكم عليه بالسجن، وإذا بقي رئيس حكومة، ستسير محاكمته ببطء شديد كما هي الحال اليوم؛ حيث إنها بدأت قبل 4 سنوات وما زالت في مرحلة سماع الشهود، وسيتمكن من منع إقامة لجنة تحقيق رسمية في قضية 7 أكتوبر، وسيمارس الضغط لتغيير القضاة في المحكمة العليا والنيابة، فلا يقدم إلى المحاكمة بسبب قضية الغواصات.

وقد وجد نتنياهو ائتلافاً قوياً لحكومته، من 64 نائباً من مجموع 120، يتألف من حزبه «الليكود» والأحزاب الدينية والاستيطانية. لهم مصلحة مشتركة في البقاء معاً. الأحزاب الدينية تحصد أموالاً طائلة لمدارسها ومؤسساتها وحاخاماتها، والأحزاب الاستيطانية تكسب توسيع الاستيطان وإجهاض حل الدولتين وتصفية القضية الفلسطينية، و«الليكود» تمت تصفية المعارضة فيه وقادته ينافقون نتنياهو، لدرجة الحضور معه إلى المحكمة تضامناً في قضايا الفساد.

قاعدة توفر إكسير الحياة

هذا الائتلاف، ومعه نحو 20 بالمائة من الناخبين في إسرائيل يشكلان قاعدة جماهيرية ثابتة لا تتزعزع، حتى الآن، ويعتمد عليها نتنياهو اعتماداً أساسياً. عندما يخطب يأخذ هذه القاعدة في الاعتبار، وعندما يتخذ قراراته يضعها فوق كل اعتبار. هي أهم بالنسبة له من الأسرى الإسرائيليين في أنفاق «حماس»، وأهم من عائلات هؤلاء الأسرى الذين لا يصدقون أن حياة أبنائهم أهدرت على هذا النحو. وأهم من الجنود الذين يُحاربون هباءً في غزة، ومن قادة الجيش وبقية الأجهزة الأمنية، الذين يؤكدون أن سياسة نتنياهو تلحق ضرراً استراتيجياً بأمن إسرائيل، فيهاجمهم علناً ويؤنبهم باللغة الإنجليزية -حتى يسمع الغرب كله- «إسرائيل دولة يوجد لها جيش وليس جيشاً توجد له دولة». وهي أهم من الإدارة الأميركية، التي وقفت إلى جانبه بوصفها شريكة في الحرب رغم الخلافات العميقة معه، وتمكّن من جرّها إلى كثير من الورطات، ولا يزال يحاول جرها إلى حرب إقليمية. لا بل إنه يحاربها في بيتها، ويقف مع انتخاب ترمب للرئاسة، نكاية بها، لأنها باتت معنية بوقف الحرب.

فهذه القاعدة هي التي توفر له إكسير الحياة. ولأجلها يكرس كل مواهبه وطاقاته ولديه كثير منها. لها يكرس البضاعة التي يسوقها. لا يهمه أحد غيرها، فإذا كان الأمر يحتاج إلى إجهاض الصفقة، يدير سياسة منهجية تجهض الصفقة، وإذا كان الأمر يحتاج إلى حرب يذهب إلى الحرب. في نظره، أميركا مجبورة على مساندة إسرائيل؛ لأنه يخدم مصلحتها، وأعداؤه هم أعداؤها. فإذا خسر في المعارك، يتهم الجيش والمخابرات والشرطة وكل العالم ما عدا الاعتراف بمسؤوليته. وإذا حقق الجيش إنجازات، يتقدم نتنياهو إلى الشاشات يتباهى. والجيش يلهث في اللحاق وراءه، ويدافع عن نفسه أمام هجماته، ويحاول أن يثبت أن اتهامات اليمين له بالجبن غير صحيحة، ويثبت ذلك في حرب عبثية يقاتل فيها الفلسطينيين من بعيد، بالغارات والقصف المدفعي وقتل المدنيين.

متظاهر بالقرب من فندق ووترغيت بواشنطن ضمن احتجاجات تستبق كلمة بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس الأربعاء (أ.ب)

اليسار... تهمة

إذا كانت هناك معارضة سياسية، يتهمها بأنها يسارية، وهذا يكفي لقاعدته الشعبية. وإذا وقف الإعلام ضده، فإنه يهاجم الإعلام، ويقيم مؤسسات إعلامية كبيرة لمواجهته، وهذا إضافة إلى حسابه في «تويتر» (إكس) الذي يوجد له فيه 1.4 مليون متابع، أو «فيس بوك» (2.3 مليون متابع).

فقط قبل سنة كادت الجماهير، التي نزلت إلى الشوارع بمئات الألوف مدعومة من الدولة العميقة، تُسقط نتنياهو. وراح يسعى لحرب تحرف الأنظار، إلا أن الجيش رفض شن حرب. فجاء هجوم «حماس» في 7 أكتوبر. فخرج الجيش إلى الحرب، ويمكن القول إنه «علّق نفسه بهذه الحرب»، ولا يعرف كيف يُخرج منها. ونتنياهو بالمقابل يزدهر. العرق يتصبب من كل خلايا جسده، لكنه من حيث تحقيق الأهداف يزدهر.

هذا هو نتنياهو اليوم، وهذه هي حساباته. بعيد عن المنطق؟ نعم، يجعل من إسرائيل دولة هشّة؟ نعم، ألا يوجد مَن يتصدى له في إسرائيل؟ يوجد لكن صوتهم ضعيف مخنوق، على المستوى الشعبي، وأداؤهم هزيل على مستوى المعارضة السياسية. ففي وضع طبيعي تُعدّ حالة نتنياهو فريسة سهلة لأي معارض سياسي له. بهذا الفشل وهذا الفساد وبهذه الأخطار التي يجلبها، يمكن إلحاق هزيمة شديدة به. أي قائد سياسي قوي وحكيم كان سينقض على هذه الفرصة لإسقاط حكومة نتنياهو، لكن قادة المعارضة في إسرائيل لا يتمتعون بهذه الصفات بعد. وحتى الجمهور الذي يثبت في الاستطلاعات، باستمرار أنه عاف نتنياهو ويريد تغييره، لا يرى في أي من قادة المعارضة الحالية عنواناً له. وقوة نتنياهو مستمدة تحديداً من هذا الضعف.