«تل الصنم».. البطولة المضادة وتشتيت القصة المحورية

الإماراتي علي أبو الريش «يتحرش» بالتابو السياسي

«تل الصنم».. البطولة المضادة وتشتيت القصة المحورية
TT

«تل الصنم».. البطولة المضادة وتشتيت القصة المحورية

«تل الصنم».. البطولة المضادة وتشتيت القصة المحورية

لا تنتمي «تل الصنم» للروائي الإماراتي علي أبو الريش إلى نمط الروايات التقليدية، لأنها لا تنطوي على قصة محددة، فلقد عمد الروائي منذ مفتتح النص وحتى نهايته إلى تشتيت البؤرة القصصية وتوزيعها بالتساوي على مدار النص الروائي، وقد نجح في ذلك من خلال وجود الشخصيات المتنامية التي انتظمت في أنساق سردية مكثفة أوصلتنا في خاتمة المطاف إلى تحرر الشخصيات الرئيسية من عقدة الخوف التي ظلت جاثمة على صدورهم لمدة زمنية طويلة.
إنّ مَنْ يدقِّق في الشخصيات الأساسية لهذه الرواية سيكتشف من دون عناء أنها ثلاث شخصيات رئيسة يرتكز عليها الهيكل المعماري للنص الروائي، وهي المعتوه والضرير والمرأة الطيبة، لكن هذا لا يلغي دور الشخصيات الثانوية التي لعبت أدوارًا خاطفة، ثم واجهت مصائرها المحتومة أو انزوت أو تلاشت لسبب من الأسباب مثل صلّوحة المجنونة التي لفظت أنفاسها في مستشفى بائس، وحميد الخِبلة الذي فارقت روحه جسده في خرابة، وحمود البيدار الذي انفجر في لحظة غضب ورفض الانصياع لأوامر سيده ومصدر رزقه صاحب النخل.
وبما أن القصة المحورية للرواية مشتتة، فلا بد من تجميع ثيماتها الرئيسية التي تتوهج على ألسنة الشخصيات الثلاث، وإن كان الضرير أكثرهم إنتاجًا للأفكار وأقدرهم على صياغة الرؤى التي تتماوج أمام بصيرته الثاقبة التي أدهشت الناس، وجعلتهم يشكّون في عماه، خصوصًا حينما فضّ النزاع بين مشترٍ كان يظن أن السمكة التي اقتناها فاسدة، وبائع السمك الذي كان يدافع عن جودة بضاعته، فما كان من الضرير إلا فتح خيشوم السمكة وجعله يرى غلاصمها الحمراء التي تثبت سلامتها من الفساد.
لم يكن «معتوه»، الاسم الذي يشير إلى صاحبه، معتوهًا، بحق لكن إسناد هذا الاسم إليه جعله أشهر من نارٍ على علَم. لم يهبط هذا الاسم من السماء، وإنما اجترحه صاحبه اجتراحًا نتيجة لسلوكه اليومي الذي لا يخلو من شقاوة؛ فهو يضرب هذا الصبي، ويشاكس ذاك، ويسرق من هذه النبقة، ويتسلق إلى أعشاش العصافير لأنه يحبها مُحطمًا أغصان الأشجار ومستثيرًا غضب نساء الحي، لكن السؤال الأكثر أهمية هو: مَنْ يحدِّد مفهوم المجنون مِن العاقل؟ ومَنْ يضع العقل في مَنْ؟ لا بد مِن وجود قوى خفية قادرة على هذا الفعل الذي يبدو خارجًا عن المألوف وخارقًا للعادة!
يتعرّف القارئ على طفولة معتوه من خلال مشاكساته التي أصبحت جزءًا من الماضي الذي ظل يلاحقه حتى الوقت الراهن الذي استوى فيه شابًا لفت أنظار المرأة الطيبة التي لكزته في باطن قدمه واستثارت حمم البركان الثاوية في أعماقه. «فلم تمضِ سوى دقائق حتى غدت الأرض تستحم ببركة ماء تتدفق من الزوايا، شهقات أشبه بنداء الولادة لعالم جديد، ثم انطفاء لكل الأرجاء، واختفاء لعيون لمعت قبل قليل».
ولم يكن معتوه هو الشخصية الإشكالية الوحيدة في هذا النص الروائي، وإنما هناك شخصية الشيخ الضرير التي تنطوي على قدرٍ كبير من الإثارة فهو «يرى ما لا يراه الآخرون. ويبصر ما لا يبصرونه»، فحينما جاء شاب يسأل عن معتوه ورفع يده لكي يصفع الضرير تفادى هذا الأخير الضربة وأمسكه من يده الأمر الذي جعل هذا الشاب يعتقد بأن الضرير ليس أعمى مثلما اشتطّ اعتقاده بأن معتوه ليس معتوهًا أيضًا!
يمكننا القول ببساطة شديدة إن الضرير هو منبع للحكمة، ومنجمٌ للأقوال المأثورة التي ستفعل فعلها في شخصية المعتوه الذي أوشك أن يوقن تمامًا بأنه مجنون، طالمًا أن الأسرة والحي والمجتمع برمته لا يرونَ فيه الإنسان العاقل، ولا يلمسونَ فيه الشخصية السوية مع أنه في نظر الضرير قد «تجاوز الجدران ليرى ما يجري خلفها».
ولكي يكسر أبو الريش إيقاع الشخصيتين الرئيستين، معتوه والضرير، كان لا بد له أن يُعرِّج على شخصيات أخر، مثل الرجل الأعرج الذي فقد ساقه بعد رحلة غوص رهيبة، فما إن بلغ سطح البحر حتى سمع الغواصين يرددون اسم حميد الصايغ الذي ظل في قاع البحر، الأمر الذي دعا الأعرج لأن يغوص ثانية لينقذ الصايغ بعمل بطولي متفرد أثار حسد زملائه وغيظهم في آنٍ معًا. لكنه ما إن أصيب بالداء الخبيث الذي أفضى إلى بتر ساقه حتى تنكّر له الجميع وعلى رأسهم النوخذة عبيد المترف الذي طعنه في الصميم حينما أخبره بأنه لم يعد يصلح للسفر، وأن الغوص بحاجة إلى أناس أكفاء قادرين على مقارعة البحر.
إذا كان الرجل الأعرج أنموذجًا للشجاعة فإن حمود البيدار هو أنموذج للشخصية التحريضية المناضلة التي تحدّت «صاحب النخل»، ورفضت أن «تخرف» النخل لأحد زبائنه. وعلى الرغم من الضرب الشديد الذي تعرّض له البيدار، فإنه ظل ملتزمًا بموقفه الرافض الذي يشجّع الآخرين على الرفض والتمرد لكي ينتزع جميع العاملين والإجراء حريتهم. وبما أن رواية «تلّ الصنم» تتمحور على عدد من المجانين أيضا، فلا بد أن نشير إلى بعضهم مثل «صلّوحة» التي كانت تقية ورعة، لكنها فقدت عقلها بقدرة قادر إلى أن لقيت حتفها في مستشفى بائس، ومع ذلك فإنها كانت تعيش مع حفيدها الوحيد الذي أغرقته بمحبتها الفائقة. أما حميد الخبلة فقد كان يتلذذ بأكل السمك النيئ والفاسد في بعض الأحيان، وقد وُجد ميتًا في خرابة مهجورة. قد يتفرد أحمد قنوة في جنونه عن بقية المجانين؛ فحينما يحنق يتحول إلى وحش كاسر، خصوصًا حينما ينادونه بكلمة «قنوة» التي يمقتها مقتًا شديدًا لأنها تستفزه وتقلّب مواجعه. تتحرش الرواية بالتابو السياسي من خلال شخصية معتوه الذي يحب الأحلام كثيرًا، ويجد فيها تعويضًا لانكساراته وهزائمه اليومية التي تتمثل بالعزلة والنأي عن المجتمع الذي نبذه بطريقة أو بأخرى جعلته يلجأ إلى الضرير الذي لاذ هو الآخر بغرفة خربة في مواجهة تل الصنم. فالعلاقة بين المعتوه والضرير أبعد من البوح والمكاشفة والمناجاة. فمعتوه يحتاج إلى أفكار الضرير النيّرة وفلسفته العميقة التي تمنح الحياة معنى حقيقيًا يستحق أن نعيش من أجله. بينما يحتاج الضرير إلى معتوه بوصفه العينين اللتين يبصر بهما، على الرغم من أنه يرى ما لا يراه الآخرون.
يتفرّد معتوه بولعه بالأحلام وتبدو «الدنيا رائعة حينما يكون الحلم بمستوى الطموح»، لكن الضرير يحذِّر معتوهًا من مغبَّة أحلامه، ويمنعه منها لأن أحلامه سياسية! والحلم السياسي ممنوع في مضاربنا العربية، لذلك يتعوذ معتوه من السياسة التي تلاحقه حتى في أحلامه الجميلة التي تخفف عنه وطأة حياته اليومية التي لا تخلو من منغصات على الرغم من جفافها، اللهم إلا إذا استثنينا لقاءاته المتكررة والمفيدة بالضرير، ولقاءه الوحيد مع المرأة الطيبة التي مرّت في شريط خياله مثل حلم خاطف.
لقد أصبح معتوه أسطورة في أحلامه السياسية بنظر الضرير، مثلما أصبح أيقونة للفحولة في نظر المرأة الطيبة التي تماهى معها في لحظة توحّد جسدي. ترى، هل غدا هذا الصبي المعتوه رجلاً وأصبح مثل عُبيد وحُميد وزيد كما تتمنى أمه أم أنه «لا يزال أعوج مثل ذيل الكلب الذي لا يمكن إصلاحه»؟
ظل معتوه على مدار النص يشعر بأنه قد انصاع لتصورات أمه، مثلما اقتنع بمفاهيم أهل الحي الذين يرون فيه مجنونًا لا غير فالغرابة أن يحتفظ بالتعويذة المربوطة على زنده لأنها تطرد الشياطين، وتُجنّبه عيون الأشرار والحاسدين، فلقد اتفق الجميع على جنونه، ولم يبدِ معتوه أي مقاومة تُذكر، فلقد كان ضعيفًا ومنصاعًا ومُستسلمًا بعكس والده الذي كان قويًا لأنه لم يعترف بضعفه قطّ. يمثل الضرير العقل المتوقد والمستنير، لذلك فهو لا يؤمن بالشياطين، ولا يقيم وزنا للخرافات، ولا يعترف بالخزعبلات التي تُثار في أرجاء المدينة. وقد يكون الضرير هو الشخص الوحيد الذي يشعر بمعتوه ويرى فيه أملاً كبيرًا، فلا غرابة أن يشجِّعه على التخلص من عنصر الخوف «لأن الخوف مقبرة الأحياء»، وهو يعزو هذا الخوف إلى أمه التي «صنعت منه هذا الشاب الخائف دومًا حتى من الصغار». كما ستلعب المرأة الطيبة في نهاية النص دورًا مشابها لدور الضرير التحريضي الذي سوف ينقذ «معتوه» من سيكولوجية الإنسان المذعور الذي انعتق من قوانين التحريم، وتحرر من قناعات المجتمع القديمة البالية.
يشكِّل موت الضرير في خرابته المهجورة انعطافة أساسية في النص الروائي، فهو لم يمت ميتة طبيعية، وإنما بفعل فاعل، ويكفي أن يكون جحوظ العينين دليلاً على هذا الفاعل الغامض الذي سيتكشّف شيئًا فشيئًا حينما نعرف أن الضرير قد مات، لأنه تحدث عن الطموحات الكبيرة والإرادة العظيمة لحمود البيدار الذي رفض في الأقل وثار على الظلم والعسف والاستبداد.
لا شك في أن إطلالة المرأة الطيبة من جديد تدلل على أهمية الدور الذي ستلعبه في حياة معتوه، فهي تردد الجُمل نفسها التي كان يرددها الضرير عن الأحلام الكبيرة، والإرادة العظيمة، وقتل الخوف. وإذا كانت المرأة الطيبة ضد العادة، فإن «معتوه» قد اخترق هذه العادة، وعشق الدخول من النوافذ، وأحب كسر الأبواب المغلقة. تذكَّر معتوه الكثيب الرملي في المعيريض الذي شهد معارك طاحنة، فأصبح رمزًا لمقاومة المحتل على الرغم من أن البيوت قد تهدمت على رؤوس ساكنيها.
قرّر معتوه والمرأة الطيبة في نهاية المطاف أن يكتبا كلام الضرير، ويدوِّنا أفكاره المستنيرة فاتجها صوب المدينة، بعد أن خلّفا وراءهما التل، وحينما يحثّان الخطى تستقبلهما المدينة والأناشيد.
لا يمكن قراءة «تل الصنم» قراءة واقعية فقط لأنها مكتظة بالرموز والدلالات والإيحاءات التي تضطرنا لأن نزاوج في الأقل ما بين القراءة الواقعية والقراءة الرمزية، آخذين بنظر الاعتبار أن هذا النص ينتمي إلى التيار الميتا - سردي قدر تعلّق الأمر بتشتيت القصة الروائية وانضواء «معتوه» الشخصية الهامشية تحت مفهوم البطل المضاد الذي أضفى على الرواية لمسة جمالية خاصة لا تخطئها عين القارئ الحصيف.



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.