إشكالية الحضور العسكري الفرنسي ـ الأوروبي في مالي تعود إلى الواجهة

وزراء الخارجية الأوروبيون سيتناولونها الاثنين وباريس تحضّر لاجتماع لـ«التحالف الدولي» من أجل الساحل

شاحنات مالية تقف الجمعة على حدود ساحل العاج بعد فرض عقوبات إضافية من قبل مجموعة غرب أفريقيا على باماكو في اجتماعها الأخير (رويترز)
شاحنات مالية تقف الجمعة على حدود ساحل العاج بعد فرض عقوبات إضافية من قبل مجموعة غرب أفريقيا على باماكو في اجتماعها الأخير (رويترز)
TT

إشكالية الحضور العسكري الفرنسي ـ الأوروبي في مالي تعود إلى الواجهة

شاحنات مالية تقف الجمعة على حدود ساحل العاج بعد فرض عقوبات إضافية من قبل مجموعة غرب أفريقيا على باماكو في اجتماعها الأخير (رويترز)
شاحنات مالية تقف الجمعة على حدود ساحل العاج بعد فرض عقوبات إضافية من قبل مجموعة غرب أفريقيا على باماكو في اجتماعها الأخير (رويترز)

لا أخبار سارة تصل إلى باريس من منطقة الساحل هذه الأيام بل العكس هو الصحيح. وما يزيد الأمور تعقيداً الضبابية التي تحيط بخطط الحكومة الفرنسية بشأن مستقبل حضورها العسكري في المنطقة المذكورة خصوصاً في مالي. ففي خطاب الرئيس إيمانويل ماكرون أول من أمس أمام البرلمان الأوروبي أشار إلى التئام قمة أوروبية - أفريقية في بروكسل منتصف الشهر القادم ولكنه امتنع عن تناول الوضع العسكري والسياسي في المنطقة المذكورة. وآخر تعليق رسمي فرنسي صدر نهاية الأسبوع الماضي عن وزير الخارجية وذلك على هامش اجتماعات وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في مدينة بريست «غرب فرنسا» حيث أعلن جان إيف لو دريان أن قوات بلاده «موجودة في مالي وستبقى ولكن ليس بأي ثمن». بيد أن لو دريان لم يحدد طبيعة الظروف التي ستدفع باريس لترحيل قواتها من مالي التي أرسلت إليها في إطار قوة «برخان» قبل ثماني سنوات. وهذا الكلام قاله أيضاً «وزير» الشؤون الخارجية الأوروبي جوزيب بوريل الذي استفاد من المناسبة ليؤكد أن الاتحاد الأوروبي سيعمد إلى فرض عقوبات على السلطات المالية المنبثقة عن انقلابيين عسكريين في أقل من عام بحيث تحتذي بالعقوبات التي فرضتها مجموعة غرب أفريقيا على باماكو في اجتماعها الأخير. وكانت باريس تهدد بأن وصول ميليشيا «فاغنر» الروسية إلى مالي سيعني خروج قواتها الأمر الذي سيتبعه، بلا شك، رحيل القوات الأوروبية المشاركة إن في قوة «تاكوبا» المكونة من وحدات كوماندوس أوروبية خاصة لمواكبة القوات المالية أو تلك التي تشارك في القوة الأممية «مينوسما» مثل ألمانيا التي لديها نحو ألف رجل، لكن طلائع «فاغنر» التي فرض عليها الأوروبيون عقوبات الشهر الماضي وصلت إلى مالي وبدأت انتشارها ما عد رفضاً للتهديدات الفرنسية. وكانت النتيجة أن باريس أعادت النظر بموقفها لأنها «لا تريد أن تترك مالي لـفاغنر» التي تتهمها بارتكاب جرائم وزعزعة الاستقرار ونهب البلدان التي تنتشر فيها.
حقيقة الأمر أن باريس تبحث عن مخرج. وقالت وزيرة الدفاع فلورانس بارلي إنه «يتعين على فرنسا إيجاد الطريق، رغم الصعوبات، لمتابعة المهمة التي وضعناها لأنفسنا والتي تطلب دول غرب أفريقيا دعمنا لها وهي مكافحة الإرهاب» مضيفة:» لدينا، أكثر من أي وقت مضى، مسؤولية نتحملها تجاه هذه البلدان وتجاه جميع الشركاء الأوروبيين الذين ينخرطون معنا في منطقة الساحل». ثمة ما يمكن اعتباره «مستنقع» الساحل... الرئيس ماكرون قرر،
حقيقة الأمر أن باريس تبحث عن مخرج مما يمكن اعتباره «مستنقع» الساحل بعد قرار الرئيس ماكرون، في شهر يونيو (حزيران) الماضي، انتهاء مهمة «برخان» وخفض عديد قوات بلاده في الساحل إلى النصف بحلول عام 2023. وبالفعل، سحبت باريس قواتها من ثلاث قواعد عسكرية شمال مالي وتتأهب لترك قواعد أخرى. وأمس، قالت الخارجية الفرنسية، في إطار مؤتمرها الصحافي الإلكتروني إن مشاورات تدور في الوقت الحاضر بين الشركاء الأوروبيين والأفارقة حول مالي في إطار «التحالف الدولي من أجل الساحل» وإن وزراء خارجية الاتحاد سوف ينكبون على هذه المسألة في اجتماعهم في بروكسل يوم الاثنين القادم. والمرجح أن يعمدوا إلى فرض عقوبات جديدة على مالي فيما التعاون العسكري ما زال قائماً بين «برخان» من جهة والقوات المسلحة المالية من جهة ثانية.
وكان الوزير المفوض فرانك ريستر قد ذكر أمام مجلس الشيوخ قبل يومين أن اجتماعاً مشتركاً أوروبياً - أفريقيا سوف يحصل قريباً، والأرجح أنه كان يشير إلى الاجتماع في إطار التحالف الدولي.
تدأب قيادة الأركان الفرنسية في الحديث عن نجاحات ميدانية تحققها قوة «برخان» وهذا صحيح. وبرز نجاحها في الأشهر الماضية في القضاء على مجموعة من قادة التنظيمات الإرهابية خصوصاً تنظيم القاعدة، لكن هذه النجاحات لم تلجم الأنشطة الإرهابية واستمرار وقوع إصابات في صفوف القوة الفرنسية وآخرها إصابة أربعة من جنودها شمال بوركينا فاسو وقريباً من الحدود المالية، إصابة أحدهم خطرة، بسبب انفجار قنبلة مخبأة لدى مرور سيارة عسكرية رباعية الدفع. وتعمل «برخان» في بوركينا فاسو رغم أن أنشطتها الرئيسية تدور في مالي وأيضاً في المنطقة المسماة «الحدود المثلثة» (بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر).
قبل أيام قليلة، أعلنت وزيرة خارجية السويد أنا ليند، أن استوكهولم ستعمد خلال العام الجاري إلى سحب قوتها المشاركة في «قوة تاكوبا» الأوروبية المشتركة. وأضافت الوزيرة السويدية أن السؤال الذي سيتعين على الحكومة السويدية معالجته يتناول مصير القوة السويدية المشاركة في «مينوسما». وتسعى باريس إلى أن تكون «تاكوبا» البديل الأوروبي عن «برخان» الفرنسية. وبحسب وزارة الدفاع في باريس، فإنها تضم 14 بلداً أوروبياً. والحال أن عديدها لا يتجاوز الألف نصفهم من الفرنسيين ما يعني أن التجاوب الأوروبي ليس كافياً حتى اليوم. كذلك فإن ألمانيا تتساءل عن مستقبل حضورها العسكري في مالي حيث لها 1350 جندياً غالبيتهم «نحو الألف» في إطار القوة الدولية والآخرون في إطار «المهمة الأوروبية لتدريب القوات المالية». ولا شك أن قرار السلطات المالية أول من أمس منع طائرة عسكرية ألمانية من عبور أجوائها للوصول إلى النيجر رداً على عقوبات مجموعة دول غرب أفريقيا لن ينظر إليه على أنه عنصر مشجع للبقاء الألماني الميداني.
لا تتوقف الصعوبات الفرنسية عند هذا الحد. فإضافة إلى وصول «فاغنر» إلى مالي، ثمة عنصران آخران يسممان العلاقة مع باماكو أولهما تصاعد الشعور المعادي لفرنسا بين السكان وهو ما تؤججه الطغمة العسكرية الحاكمة. وخلال المظاهرات التي عرفتها باماكو ومدن رئيسية أخرى في مالي، سمعت هتافات تندد بفرنسا وهي تحملها مسؤولية العقوبات التي فرضها الأفارقة. وإذا نفذ الأوروبيون تهديداتهم بفرض عقوبات إضافية على مالي، فإنه ستكون لذلك ارتدادات سلبية على العلاقات بين باريس وباماكو التي هي أساساً متوترة منذ الانقلاب الأول في شهر أغسطس (آب) من عام 2020، ويتمثل العنصر الثاني بخطط العسكريين تخليهم عن وعدهم بإجراء الانتخابات العامة وتخطيطهم لتأجيلها إلى خمس أو ست سنوات ما يعني أن السلطات ستبقى بأيدي العسكريين طيلة هذه المدة وأن عودتها إلى المدنيين سوف تتأخر كثيراً وهو ما ترفضه باريس كما يرفضه الأوروبيون والأفارقة. في ظل هذا المشهد السياسي - العسكري القاتم، ينتظر الجميع في باريس ما سيقرره الرئيس ماكرون. فلا البقاء في مالي سهل نظراً إلى الصعوبات المتكاثرة ولا التخلي عنها وتركها لـ«فاغنر» حل مقبول.
وفي أي حال، فإن العسكريين يبررون تقربهم من «فاغنر» بـ«تخلي فرنسا عنهم». كذلك، فإن باريس لا تريد ترك بوركينا فاسو والنيجر لمصيرهما؛ إذ إنهما يواجهان بدورهما تنظيمات جهادية ناشطة. وحتى اليوم، لم تتم إثارة الملف في الجدل الانتخابي القائم في فرنسا القادمة على انتخابات رئاسية في شهر أبريل (نيسان) القادم، إلا أنه من المرجح طرحه ما يرتب على الرئيس ماكرون وحكومته توفير إجابات وافية ومقنعة لا يبدو أنها متوافرة في القوت الحاضر.



تبديل على رأس «الناتو»... لكن لا تغيير متوقعاً في عمل الحلف

جنود مشاركون بمناورات لـ«الناتو» في لاتفيا (أرشيفية - إ.ب.أ)
جنود مشاركون بمناورات لـ«الناتو» في لاتفيا (أرشيفية - إ.ب.أ)
TT

تبديل على رأس «الناتو»... لكن لا تغيير متوقعاً في عمل الحلف

جنود مشاركون بمناورات لـ«الناتو» في لاتفيا (أرشيفية - إ.ب.أ)
جنود مشاركون بمناورات لـ«الناتو» في لاتفيا (أرشيفية - إ.ب.أ)

يتولى رئيس الوزراء الهولندي السابق، مارك روته، الثلاثاء، قيادة «حلف شمال الأطلسي (ناتو)»، لكن التناوب على رأس أكبر حلف عسكري في العالم لا يعني أنه سيكون بالإمكان إحداث تغيير جذري في عمله.

وقال إيان ليسر، من معهد «جيرمان مارشال فاند» للدراسات في بروكسل: «في (حلف الأطلسي) يتقرر كل شيء؛ كل شيء على الإطلاق، من أتفه الأمور إلى أكثرها استراتيجية، بالإجماع... وبالطبع؛ فإن مدى الاحتمالات المتاحة للأمناء العامين لإحداث تغيير في العمق في عمل (حلف الأطلسي)، يبقى محدوداً جداً».

ويعمل الأمين العام «في الكواليس» من أجل بلورة القرارات التي يتعين لاحقاً أن توافق عليها الدول الأعضاء الـ32.

وأوضح جامي شيا، المتحدث السابق باسم «الحلف» والباحث لدى معهد «تشاتام هاوس» البريطاني للدراسات، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، أن الأمين العام «لديه سلطة تحديد الأجندة، وهو الذي يترأس (مجلس شمال الأطلسي)؛ الهيئة السياسية للقرار في (الحلف)». لكنه لا يمسك وحده بقرار الدخول في حرب، وليس بالتأكيد من يضغط على الزر النووي، فهاتان من صلاحيات الدول الأعضاء؛ على رأسها الولايات المتحدة.

وهذا لا يعني أن قائد «الحلف» لا يملك نفوذاً.

وأشار إيان ليسر في هذا الصدد إلى أن الأمين العام الأسبق، جورج روبرتسون، كان له دور مهم في تفعيل «المادة5» بعد اعتداءات «11 سبتمبر (أيلول) 2001» على الولايات المتحدة.

ستولتنبرغ مع روته بالمقر الرئيسي لـ«الناتو» في بروكسل يوم 17 أبريل 2024 (رويترز)

وتنص «المادة5» من ميثاق «الناتو» على أن أي هجوم على دولة عضو «سيعدّ هجوماً على كل الأعضاء»، تحت عنوان: «الدفاع الجماعي». وجرى تفعيلها مرة واحدة في كل تاريخ «الحلف» لمصلحة الولايات المتحدة ولو رمزياً.

كما أن شخصية الأمين العام الجديد سيكون لها دور، وهذا ما يثير ترقباً حيال مارك روته بعد 10 سنوات من قيادة رئيس الوزراء النرويجي السابق ينس ستولتنبرغ.

فهل يعمل على ترك بصماته منذ وصوله، أم ينتظر ولاية ثانية محتملة؟

وقال شيا إن الأمناء العامين «يميلون عند وصولهم إلى أن يكونوا مرشحي الاستمرارية، لكن إذا بقوا بعض الوقت، فهم بالطبع يزدادون ثقة».

قيادة المساعدات

ودفع ستولتنبرغ «الحلف» باتجاه تقديم دعم متصاعد لأوكرانيا، لا سيما بعد غزو روسيا أراضيها في فبراير (شباط) 2022. وطرح تقديم مساعدة سنوية لا تقل عن 40 مليار دولار لأوكرانيا، وحصل على التزام من الدول الحليفة في هذا الصدد. كما حصل على صلاحية أن يتولى «الحلف» القيادة الكاملة لعمليات تسليم المساعدات العسكرية الغربية.

زعماء «الناتو» خلال انعقاد قمتهم في واشنطن يوم 9 يوليو 2024 (د.ب.أ)

يبقى أنه في زمن الحرب، تكون لوحدة الصف والاستمرارية الأفضلية على كل الحسابات الأخرى؛ مما لا يشجع على أي تغيير.

وقال دبلوماسي في «حلف الأطلسي»، طالباً عدم الكشف عن اسمه: «في ظل وضع جيوسياسي بمثل هذه الصعوبة، من المهم للغاية الحفاظ على الاستمرارية وعلى التوجه ذاته في السياسة الخارجية والأمنية».

يبقى أن الجميع في أروقة مقر «الحلف» في بروكسل ينتظرون من روته أسلوباً جديداً في الإدارة يكون «جامعاً أكثر بقليل»، بعد عقد من قيادة «نرويجية» مارسها سلفه «عمودياً»، وفق ما لفت دبلوماسي آخر في «الحلف».

ومارك روته من معتادي أروقة «حلف الأطلسي» و«الاتحاد الأوروبي» بعدما قضى 14 عاماً على رأس الحكومة الهولندية.

وهذا ما يجعل الجميع يراهن عليه بصورة خاصة لتعزيز التنسيق بين «حلف الأطلسي» والتكتل الأوروبي، في وقت يؤدي فيه «الاتحاد» دوراً متصاعداً في المسائل الأمنية.

وهذا الملف معلق بسبب الخلافات بين تركيا؛ العضو في «الحلف» من غير أن تكون عضواً في «الاتحاد الأوروبي»، واليونان حول مسألة قبرص.

وفي حال عاد دونالد ترمب إلى البيت الأبيض بعد الانتخابات الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، فإن الدول الحليفة تعول على مهارات روته مفاوضاً من أجل الحفاظ على وحدة «الحلف».

ورفض ستولتنبرغ إسداء أي نصيحة إلى روته في العلن، مكتفياً بالقول إنه سيكون «ممتازاً». لكنه لخص بجملة ما يتوقعه الجميع من الأمين العام لـ«الحلف» بالقول: «ستكون مهمته الكبرى بالطبع إبقاء جميع الحلفاء الـ32 معاً».