أفريقيا ليست كما تتصوّرون

الرئيس ماكي صال في مذكراته «السنغال في القلب»

أفريقيا ليست كما تتصوّرون
TT

أفريقيا ليست كما تتصوّرون

أفريقيا ليست كما تتصوّرون

«أفريقيا ليست كما تتصورون»... بهذه الجملة يرُدّ الرئيس السنغالي ماكي صال، على المتشائمين ممن كرسوا نظرة نمطية عن القارة السمراء، وذلك في مذكراته «السنغال في القلب»، التي صدرت أخيراً عن المركز الثقافي للكتاب بالدار البيضاء وترجمها من الفرنسية إلى العربية الإمام حسن سك.
الكتاب ينحو منحى السيرة الذاتية لكن بشكل مختلف عما هو معتاد، فقد حملت صفحاته رؤى فكرية خاصة بالكاتب وقدّمت إجابة للمتسائلين والباحثين عن ماهية شخصيته ممن كتبوا عنه أو سألوا أو تساءلوا.
يحاول ماكي صال أن يجيب عن أسئلة كثيرة طرحها هو وأراد أن يستبق بها آراء الآخرين: من أنا؟ ومن أين أتيت؟ وماذا أتمنى؟ وما الذي أؤمن به؟ إنها أسئلة للتاريخ وأجوبة للمستقبل... فماكي صال الكاتب والرئيس يُفضّل، كما يقول، ألا ينتظر حُكم التاريخ على الأشخاص والأحداث لأن تفاصيل التاريخ تُكتَب بصفة يومية. لهذا السبب أراد أن يقدّم في الكتاب تاريخه الشخصي ومساهمته الفكرية في بناء سنغال جديد متجذّر في القيم النبيلة بما يضمن له الازدهار والنهضة والإشعاع في ساحة الأمم. وهي نفس الأماني التي يحملها لأفريقيا الجامعة، أفريقيا الأم «أفريقيا ذلك الفضاء الشاسع حيث الانتماء والاعتزاز والأمل وحيث كل شيء ممكن».
لقد حرص المؤلف في مستهل كتابه أن يبرز الدور الذي لعبته الطفولة بظروفها الخاصة وبسياقاتها الاجتماعية والنفسية في تشكيل وعيه الخاص بالعالم وبالقارة وبالوطن السنغالي الذي أحبه كفكرة للنهضة تستحق أن تعاش.
«إنّ الطفولة تبني شخصيتنا» يقول ماكي صال في معرض حديثه عن الانتماء لشمال السنغال، فهو يتحدر من منطقة «فوتا»، وتحديداً من بلدة فاتيك من جهة «سين» حيث تنتشر قومية «سيرير».
في هذا الجانب، يشير الكاتب إلى طابع البساطة الذي ميز وسطه الاجتماعي في الطفولة، لافتاً النظر إلى منظومة القيم الأفريقية التي تلقّنها وهي صبي، فنهل منها مبادئ الإيمان ببذل الجهد والسعي إلى الاستقامة والتحلّي بالشجاعة في معارك الحياة، مع ما يقتضيه الأمر من الرزانة المطلوبة على كل حال.
يعرّج المؤلف على عوامل التنوع العرقي الذي ميّز مسقط رأسه وهد طفولته، ويسلط ثم يشير إلى ما ميز هذه المنطقة تاريخياً وجعلها في قلب الصراعات المشتعلة حول السلطة والنفوذ.
يحكي الكاتب بعد ذلك مراحل تشكل وعيه السياسي الذي تباينت عوامله بين الوراثة والانخراط الشخصي في المعترك، بين تأثره بوالده الاشتراكي وبين نزعة النقد الشخصية التي تجعل تلميذاً في الثانوية يدرك مبكراً أن وضعه الاجتماعي يحتّم عليه طرح المزيد من الأسئلة السياسية حول واقعه الفردي اقتصادياً وثقافياً.
يؤكد ماكي صال أنه بدأ كمعظم الشباب ماركسيا لكنه ما لبث أن تحول مع مرور الزمن والأحداث إلى الليبرالية الاجتماعية التي آمن بها وظل متشبثاً بها حتى اليوم، ليس الأمر متعلقاً بتغيير حدث على مستوى القناعات الشخصية بل هو تطور للفهم والتحليل.
يعرّج الكاتب بعد ذلك على تجربته في أوروبا وفي باريس تحديداً حين أوفدته شركة بترومين السنغالية للدراسة في المعهد الفرنسي للبترول.
سنة كاملة قضاها مع جنسيات مختلفة أوروبية وعربية وأفريقية وأخرى آسيوية جعلته يكتشف من خلالها بلداناً بعيدة عن وطنه الأم تسكنها شعوب تختلف عن ثقافته الأفريقية.
أسفار الدراسة امتدّت إلى خارج أوروبا حيث زار سوريا والأردن وهما بلدان كانا يشكّلان بالنسبة له أماكن مثيرة للخيال الأسطوري على حدّ وصفه... في هذا الفصل من السرد يتوسع ماكي صال في السرد من تجربته الخاصة إلى ما هو عام ومشترك، فيخلص إلى فكرة جامعة مفادها أن بلده السنغال كان دائماً حريصاً على وجود علاقات متجذرة تجمعه بالجيران الأفارقة في أفق البحث عن قارة اتحادية وسوق أفريقية مفتوحة ونشيطة. هو السنغال نفسه الحريص في الوقت ذاته على علاقات صداقة ودية تجمعه بالشركاء التقليديين كفرنسا خاصة، والمملكة العربية السعودية والمغرب والولايات المتحدة، علاقاتٌ تبقى قوية رغم تقلّب مزاج السياسة ومعطيات التداول على السلطة والتطورات التي تشهدها العلاقات الدولية... «إن مبتغى بلدي، هو أن يكون صديقاً لجميع الدول، وألا يناصب العداء لأحد» يقول ماكي صال بإيجاز.
في معرض حديثه عن الجاليات السنغالية في العالم، يصف ماكي صال السنغاليين المقيمين في بلدان المهجر بأنهم الإقليم الخامس عشر للسنغال، فهم وإن غادروا البلد منذ مدة طويلة إلا أنهم متعلقون تماماً بمعاني التضامن مع إخوتهم في البلد الأصلي وهذا الشعور يتزايد يوماً بعد يوم.
للأمر علاقة، كما يصف الكاتب، بتلك الشخصية السنغالية المميزة التي تتشكّل منذ الطفولة بناءً على معاني كلماتٍ رئيسية ثلاث، هي: الأسرة والمجتمع والأمة. ويشير في هذا الجانب إلى الأهمية الاقتصادية التي يلعبها هذا الإقليم المغترب داخل وطنه الأم، حيث تفوق التحويلات المالية التي يقوم بها السنغاليون في المهجر ثلاثة أضعاف المساعدات الإنمائية الرسمية المقدمة من الدولة، ملياران من الدولارات تُصرف في المدن والقرى من أجل بناء المدارس والمستشفيات والمنشآت الأخرى.
يصف بعد ذلك ماكي صال محاولاته الأولى في المعترك السياسي بأنها محاولة لرسم الأفق، حسب ما هو متاح من القدرات والجهود الذاتية، وفي هذا السياق يبدي شهادة إيجابية في مسار التداول السلمي على السلطة بالسنغال، ويصف سلفه عبد الله واد بأنه شخصية سياسية تركت بصمات لا تُمحى في تاريخ البلد، إنه معارض تاريخي للحقبة السابقة، وهو أيضاً رجل سياسة متألق يفرض شخصيته على الساحة بثقة الزعماء.
يحكي ماكي صال عن لقائه الأول بعبد الله واد عام 1989 حين قدّم له بحْثَ تخرُّجِه من معهد علوم الأرض في جامعة دكار، ثم قال له: «أريد أن أبدأ العمل بجانبك».
وعن رأي عبد الله واد في أداء ماكي صال خلال سِني عمله الحكومي، ينقل الأخير تقييم الرئيس السابق له: «رأيي في الوزير الأول أنه إنسان متواضع، إنه يعمل كثيراً دون ضجيج، وهو فعّال للغاية». لكن ماكي صال نفسه يقول إن ذلك لم يدم، فعبد الله واد رأى بعد ذلك في ذراعه الأيمن خصماً قادماً وطرفاً متمرداً على قواعد الولاء لرئيسه، وسرعان ما انتهت العلاقة بقطيعة قاسية تحول فيها ماكي صال من مناضل وقف بجانب زعيمه عشرين سنة إلى شخص منبوذ، بل إلى عدو لدود للنظام والرئيس.
وسينتقل ماكي صال في علاقته بعبد الله واد من ذلك الحليف الوفي إلى خصم سياسي شرس.
كانت الخطوة الأولى هي تأسيس حزب تحت اسم «التحالف من أجل الجمهورية»، ثم التفكير جديّاً في خوض الانتخابات الرئاسية مع ما يتطلّبه الأمر من ترسيخ قوي لقواعد الحزب على امتداد التراب الوطني وفي كافة الأقاليم... بدأ الأمر بزيارات ماراثونية جابت ربوع البلاد، وجعلت المعارض الجديد يلتقي بأفراد الشعب عن قرب، يستفهم عن أسباب المعضلة الاجتماعية ويستشرف أفق الحل.
في أثناء هذا الانشغال المحلي بالقضايا الداخلية خاض الحزب تجربة الانتخابات المحلية وحقق فيها المكسب المطلوب، لقد كان ماكي صال يرى أن الحملة الانتخابية في حد ذاتها هي أولى محطات الوصول إلى السلطة، ثم كان شعار «يوكوتي» أو «الطريق إلى التنمية» في الانتخابات الرئاسية عام 2012 هو الإشارة الرمزية لرغبة هذا التيار في تحقيق التغيير العميق. احتاج الأمر إلى جولة ثانية مع الرئيس عبد الله واد كي يحسم ماكي صال صراع الرئاسة بحصوله على 56.80 في المائة من أصوات الناخبين، متوجاً بذلك رحلة المعارضة هذه باعتلاء سريع ودراماتيكي لسدة الحكم، مع الكثير من الأمل في الوصول إلى سنغال آخر بمجتمع آخر يسوده الاستقرار وتحكمه قيم الاحترام والكرامة والتوزيع العادل للثروة.
«الدولة ليست لنا»، يقول ماكي صال. فالرئيس من وجهة نظره عليه أن يختار العمل الاستراتيجي المبني على الاستدامة، لا أن يهدر إمكانيات المستقبل عبر البحث عن الحلول السهلة ذات المدى القصير سعياً وراء كسب شعبية مصطنعة بطرق ديماغوجية ضيقة. الأفق الزمني لخطة ماكي صال يمتد حتى 2035 وهو تاريخ لن يكون خلاله هو في السلطة كي يجني الثمار سياسياً، لكنه كما يقول سيضمن شرط الاستدامة للأجيال المقبلة في ورش من الإصلاح المستمر. إنها خطة تسعى لتحقيق الإصلاحات في محاور ثلاثة: الأول يتم فيه تحقيق التحول النوعي على مستوى المنشآت الاقتصادية التي تخلق الثروة وفرص العمل، والثاني يرمي إلى تحسين ظروف حياة جميع السكان وضمان تكافؤ الفرص بينهم، أما المحور الثالث فيهدف في الأساس إلى ترسيخ دعائم الأمن والاستقرار وحماية الحريات ودعم دولة القانون كضمانة رئيسية للسلم الاجتماعي في البلاد.
ومن جملة ما أثاره الكاتب من مواضيع، قصة الذهب الأسود وبلدانه الكثيرة والصراعات التي لم تتوقف يوماً حول بعده الاستراتيجي، ويشير ماكي صال في هذا الخضم إلى حدث تاريخي مهم هو حرب رمضان عام 1973 بين إسرائيل وبعض الدول العربية، حين ارتفع سعر النفط أربعة أضعاف خلال الفترة الممتدة بين عامي 1973 و1974. حينها أدرك العالم مدى ارتباط البشرية بالنفط. إنه وضع هزّ العالم بأسره ومن جملته الكاتب الذي كان حينها شاباً يافعاً يتساءل عن مستقبله الخاص وعن علاقة هذا الأمر بالطاقة والعمل في مجالها الاقتصادي والهندسي التقني.
يُفصّل ماكي صال بعد ذلك في قضايا كثيرة أبرزها مشوار التنقيب عن النفط والمعادن في السنغال ويطرح مسألة الانعكاس الاقتصادي للثروات على الوضع العام في البلاد اقتصادياً واجتماعياً، ثم يشدّد في الأخير على فكرة جوهرية ترى أن الثروات الموجودة تحت الأراضي الأفريقية يجب أن يستفيد منها الأفارقة بالأساس، لتطوير بلدانهم وتحقيق الرفاهية والسعادة لشعوبهم. يحتاج الأمر لمعركة كبيرة يجب أن تخوضها أفريقيا للدفاع عن مصالحها مع احترام تام لحقوق الشركاء، وهي معركة ينبغي أن تُعزَّزَ ببذل جهد أكبر لكسب رهان الشفافية المؤسساتية والمالية.
هكذا يرسم ماكي صال ملامح تصوره الخاص عن المسألة الطاقية، رافضاً كل الدعوات التي تقترح على بلدان أفريقيا ابتكار حلول طاقية مكلّفة كإنتاج الطاقة النووية ومثيلاتها مما لا يراه بديلاً ضرورياً في الوقت الراهن.
ويختم ماكي صال كتابه بخطاب يوجهه للشعب السنغالي مخاطباً إياه بنبرة دعائية ولافتاً انتباهه إلى أهمية تجديد الثقة في مشروعه الإصلاحي عبر التصويت عليه لخوض ولاية ثانية وأخيرة، بغية إتمام ما يراه ورشاً كبيراً للبناء والتغيير يطمح أن يصل من خلاله إلى إنجاح خطة «السنغال الناهض».
* كاتب وشاعر مغربي


مقالات ذات صلة

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

ثقافة وفنون المؤرخة أود دو كيروس

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

لعل من أهم سمات الكتابات النقدية المواكبة لتحولات الفن المعاصر عبر العالم، تلك التي تقرنه دوماً بمسعى الانزياح الجذري بدلالات كلمة «فن».

شرف الدين ماجدولين
ثقافة وفنون عباس محمود العقاد

«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

رغم أن الطبعة الجديدة التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة من كتاب «جحا الضاحك المضحك»، توحي بعمل مخصص لأشهر شخصية ساخرة في التراث العربي.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

في روايته الجديدة «ولا غالب» الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة، يقدم الكاتب الكويتي عبد الوهاب الحمادي معالجة فنية ودرامية جديدة لتاريخ العرب في الأندلس.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام.

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية
TT

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام (1931- 1987) والذي يتناول التأثير اللافت لهذا المفكر النمساوي على الفلسفة المعاصرة.

وُلد فتجنشتاين في فيينا لأسرة صناعية ثرية ومثقفة، ثم اتجه إلى دراسة هندسة الطيران في مدينة «مانشستر» الإنجليزية، قبل أن يتخلى عن هذا الاتجاه ويتحول تماماً إلى المنطق والرياضيات في جامعة «كامبريدج» متأثراً بالمفكر البريطاني برتراند راسل الذي أشرف على دراسته للفلسفة. تطوع في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى وأمضى فترة معلماً في قرية نمساوية، ثم عاد لاحقاً إلى بريطانيا كأستاذ.

ويعد كتابه «رسالة فلسفية منطقية» أبرز مؤلفاته والذي نُشر لأول مرة عام 1921 ويذهب فيه إلى أن حدود اللغة هي حدود عالمنا، وما لا يمكن التعبير عنه بها يجب الصمت عنه، أما «تحقيقات فلسفية» فنشر بعد وفاته عام 1951 ويؤكد فيه على أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت، وهي الفكرة التي كان لها تأثير بالغ على مجلات أخرى كالأدب وعلم النفس.

ويشير المؤلف إلى أنه حصل على أطروحة الدكتوراه في فلسفة المفكر النمساوي لأن أفكاره كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي تبناه، وهو المنهج التحليلي المنطقي، يتناول عبارات اللغة التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، حيث أثبت أن معظم هذه المشكلات ليست بمشكلات حقيقية وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.

أصبح إسهام فتجنشتاين أشبه ما يكون بالثورة الهادئة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهومها ومجالها ووظيفتها فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها كالوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معنى منها وما لا معنى له، أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي المنطقي. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تنصب على تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة أنساق فكرية أو ميتافيزيقية جديدة. وتأثر بأفكاره بشدة عموم التيار الفكري الوضعي التحليلي.

واعتمد المؤلف في دراسته لفلسفة فتجنشتاين على مؤلفاته نفسها فضلاً عن بعض محاضراته بالجامعة، وكذلك محاضراته الخاصة التي نشرت في الكتابين «الأزرق» و«البني»، وأيضاً ملاحظاته عن المنطق والرياضيات كما رجع كذلك إلى ما نشر من رسائله إلى براترند راسل، ولم يكن ذلك بالمهمة اليسيرة نظراً لصعوبة كتاباته وتعقيداتها حتى إن كثيرين من تلامذته والباحثين عموماً كانوا يصفونه بـ«الفيلسوف المتعب للغاية».

ولد لودفيغ يوهان فتجنشتاين في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1889 وكان والده مهندساً مرموقاً يشغل منصباً قيادياً في صناعة الحديد والصلب بالنمسا، كما كان لأم فتجنشتين أثر بالغ في خلق الميل الفني القوي في الأسرة، فقد كانت هي وزوجها موسيقيين من الدرجة الأولى حتى لقد أصبح المنزل في وقت ما مركزاً لحياة موسيقية جميلة وخاصة حينما كان يتردد عليهم صديق الأسرة الحميم يوهان برامز، الموسيقار العالمي الشهير.

اهتم فتجنشتاين أثناء دراسته في «كامبريدج» بالفلسفة وبأسس الرياضيات الحديثة اهتماماً كبيراً كما استفاد من النشاط الفكري الضخم الذي كان موجوداً في الجامعة قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ كان راسل في أوج تفكيره الفلسفي والمنطقي وأخرج هو وألفريد نورث هوايتهد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي يعد أحد العلامات المميزة في تاريخ المنطق.

على الرغم من اكتساب فتجنشتاين في إنجلترا للجنسية الإنجليزية، فإنه لم يكن معجباً بأساليب الإنجليز في الحياة كما كان يكره الجو الأكاديمي في كامبريدج في ذلك الوقت وحينما انتهت مدة زمالته في كلية ترينتي عام 1930 فكر في زيارة الاتحاد السوفياتي وزاره بالفعل مع أحد أصدقائه. وحين توفي في 29 أبريل 1951 في منزل الطبيب الذي كان يعالجه في بريطانيا، كانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب: «قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة».

مال إلى البساطة في كل شيء وكان ذلك واضحاً من ملابسه ومن أثاث حجراته في الجامعة، فلم يكن يتمسك في ملابسه بالطريقة التقليدية مثل الأساتذة بل كان يرتدي دائماً بنطلوناً خفيفاً وقميصاً مفتوح الصدر بلا رباط عنق. وتكشف طريقته في إلقاء محاضراته عن أكثر من جانب من جوانب شخصيته، مثل البساطة والجدية والإخلاص للعمل والحب الشديد للحق وأحياناً الخشونة والجفاء والقسوة.

يؤكد فتجنشتاين أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت

لم تكن محاضراته تأخذ الطابع التقليدي، وإنما كانت أشبه باجتماعات برغم إصراره على تسميتها بالمحاضرات. كان يتكلم بلغة إنجليزية وبلهجة الرجل الإنجليزي المثقف وكان صوته رناناً عالي النبرة، وإن لم يكن منفراً، ولم تكن الكلمات تخرج من فمه متدفقة، بل بعد جهد كبير. وجهه كان سريع الحركة بطريقة ملحوظة كما كان معبراً جداً أثناء الحديث وكانت عيناه عميقتين، وغالباً ما كانتا تحملان شيئاً من القسوة في التعبير.

لم تكن مؤلفات فتجنشتاين كثيرة متعددة حتى إنه لم ينشر في حياته إلا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقية فلسفية» ومقالاً له بعنوان «بعض ملاحظات على الصورة المنطقية» وبقية ما نشر عدا ذلك كان كله بعد وفاته.

وأهم ما يلاحظ في كتاباته خلوها تماماً من كل زخرفة أدبية أو رطانة في الأسلوب، فنجدها بسيطة قوية تعتمد على خصوبة الخيال، وهو ما تأثر بها كثير من الأدباء لاحقاً. استخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية، فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع أو رد اللغة إلى عدة قضايا أو رد المعنى إلى طريقة استخدامنا للألفاظ، إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل زال عنها كل غموض، واتضح أنها مشكلات زائفة أو أنها ليست بمشكلات أصلاً، على حد تعبيره.

وقد عبر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بقوله: «إن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى، فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا هو أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، فهي أسئلة من نوع السؤال الذي يبحث فيما إذا كان الخير هو نفسه الشيء الجميل على وجه التقريب، وإذن فلا عجب إذا عرفنا أن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق».


«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية
TT

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل في حياة ومسيرة عدد من المبدعين والمفكرين والفنانين المؤثرين في مجالاتهم، مستخدماً الصورة القلمية في رسم ملامحهم الثقافية والشخصية، مازجاً المعلومة بالتأويل، ومطوفاً حول عدد من الرموز الثقافية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، في مجالات معرفية مختلفة، كنوع من التحية لهم ولمنجزهم وتراثهم، الذي يمثل زاداً ثقافياً مهماً لمن جاء بعدهم من أجيال لاحقة، حتى لو اختلفوا مع تلك المنجزات.

الكتاب الصادر في القاهرة عن «دار المعارف» يبتعد فيه مؤلفه عن الكتابة الأكاديمية والنقدية التي يتوقعها القارئ من ناقد وأكاديمي، مفضلاً أن يقدم أسلافه عبر لغة رشيقة ومكثفة، لا تخلو من التقدير والإعجاب والتأثر بهؤلاء الرموز، لكن دون تقديس، يقول في المقدمة: «لم يتحمس الكتاب للشخصيات وإن لم ينكر محبتها، ولم يرتد ثوب الدفاع عنها، وإن اعترف بوجود مثالب فيها، وتعامل مع العيوب والنقائص بوصفها جزءاً من طبيعتها البشرية، وركز على أبعاد الإنجاز لديها، واعتبرها مكمن التميز وسط أمواج من العاديين»، فقد حاول الجابري رسم صور لشخصيات احتلت في قلوب الأجيال وعقولها مكانة رائقة، لاستكشاف مفتاح كل شخصية.

يقدم الكتاب بورتريهات عن 16 شخصية ثقافية شهيرة، هم: أمينة السعيد، مي زيادة، جمال الدين الأفغاني، رجاء النقاش، سهير القلماوي، عبد الحميد جودة السحار، عبد الرحمن شكري، لطيفة الزيات، أحمد أمين، يحيى حقي، محمد عبده، جورجي زيدان، أسامة أنور عكاشة، سعد الله ونوس، ميخائيل نعيمة، وعاطف الطيب.

يبدأ الكتاب ببورتريه عن الصحافية المصرية الرائدة، والناشطة النسوية، أمينة السعيد، التي كانت ضمن أول دفعة جامعية تضم فتيات، والتي ترأست دار الهلال العريقة، فكانت أول امرأة تترأس مؤسسة صحافية، وتولت رئاسة تحرير مجلة «حواء»، كما كانت وكيلة نقابة الصحافيين في سابقة لا تتكرر كثيراً. وبعيداً عن الصحافة، كتبت القصة القصيرة، وكانت في أعمالها الأدبية تركز على المثالب الاجتماعية ونقد المجتمع ومشكلاته ومناقشة عاداته المتجمدة وعيوبه الداخلية. ويركز المؤلف على علاقتها بأبيها الذي أصر على أن تكمل دراستها الجامعية ولا تتزوج قبل إنهائها، وكان هذا وعدها له، ثم علاقته بزوجها بعد ذلك، ويرى الجابري أنه بسبب هذه العوامل «لا تجد عند أمينة السعيد نزق النسويين الجدد، أو كراهية مخبوءة للرجل دون داع».

وينتقل الكتاب إلى مي زيادة، وأثرها في الحياة الثقافية العربية، رغم محاولة حبسها في الرسائل المتبادلة بينها وبين العديد من المثقفين، ويرى المؤلف أن مي «لم يجن عليها شيء مثل انفتاحها على الآخرين فتعددت صورها، حتى لم يبق إلا ظلال لا تعكس شيئاً قاطعاً، فمي التي رسمها العقاد تختلف عن التي رسمها شبلي شميل، عن صورتها لدى الأب أنستاس الكرملي، عنها لدى الرافعي وطه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وولي الدين يكن وأنطون الجميل وغيرهم. لقد اقتربوا جميعاً منها، وكل منهم رآها من وجهة نظره هو، فظن أن روايته هي الزاوية الفاصلة الحقيقية الوحيدة، حتى كأن الإنسانة ليس لها وجود، وإنما هناك وجود لظلالها، وانعكاسات لرسمها، وأشكال لسطورها على الورق».

ويبدأ بورتريه جمال الدين الأفغاني بمشهد شديد الجدة، وهو مشهد أحفاده وهم يتعلقون بالطائرة الأميركية هرباً مما يخشون منه في بلادهم، ورغبة في الهرب منها فوق طائرة المستعمر، في حين كان جدهم الأفغاني يحمل على عاتقه طوال مسيرته مناهضة الاستعمار، وانتقل بين مصر والهند وعدة دول أخرى منادياً بالتحرر من الاستعمار، ويعرج المؤلف على جهوده في الصحافة والفكر والتجديد، وعلاقته بتلاميذه مثل الإمام محمد عبده وغيره، وكراهية الحكام له، وطرده من أكثر من بلد، لأنه كان مصدر خطر لكثير منهم، ويرتابون في وجوده في بلادهم.

ينتقل الكتاب بعد ذلك للناقد والصحافي المصري رجاء النقاش، المعروف عنه أنه كان مكتشف الأصوات الإبداعية الجديدة، فقد كتب عن الطيب صالح ومحمود درويش في بداياتهما، وكانت كتابته النقدية نموذجاً للتوسط بين الأكاديمية الجافة والتغطية الصحافية السريعة، وكتب عن الشعر والقصة والرواية والمسرح، وقد ترأس مجلتي الهلال والكواكب في مصر، و«الراية» و«الدوحة» في قطر، وتنقل بين صحف ومجلات روزاليوسف والأخبار، وأحيا الصحافة الثقافية بعد ركودها لفترة.

وفي بورتريه عن الأكاديمية والناقدة سهير القلماوي، يرصد الجابري مواطن رياداتها المتعددة وقتالها على جبهات لا تنتهي، فقد كانت أول فتاة تحصل على الماجستير تحت إشراف طه حسين في جامعة القاهرة، فكانت تلميذته النجيبة، وسافرت إلى فرنسا لإعداد رسالتها للدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة»، وقد كافحت للاعتراف بالأدب الشعبي إلى جوار الآداب الرسمية، كما كانت أول أستاذة في جامعة القاهرة وأول امرأة تتولى رئاسة قسم اللغة العربية، وأول رئيسة للهيئة العامة للكتاب، وهي التي أطلقت معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، كما كانت لها الريادة في أدب الأطفال، والكتابة فيه، والمطالبة بالاهتمام به، فضلاً عن حضورها الثقافي خارج جدران الجامعة، ومحاولة مواكبة أحدث المناهج النقدية التي كانت جديدة آنذاك.

ويرسم الكتاب صورة للكاتبة والمترجمة والمناضلة اليسارية الدكتورة لطيفة الزيات، التي «جسدت حياتها مرحلة من الجهد النسائي، حتى شكلت حضوراً طاغياً لوجوهها المتعددة؛ مناضلة سياسية أو مترجمة أو أستاذة جامعية أو مبدعة سرد من عيار فريد»، ويتوقف عند أهمية عدد من أعمالها الأدبية والسيرية مثل «الباب المفتوح» و«الشيخوخة» و«حملة تفتيش» و«أوراق شخصية» و«صاحبة البيت» و«الرجل الذي عرف تهمته»، وكذلك عند منهجها في النقد.

وعن يحيى حقي، الموظف ذي الأصول التركية والهوى الصعيدي، يقول إنه خرج من تجربة عمله في وزارة الخارجية برؤية أكثر اتساعاً، فزار تركيا وإيطاليا وفرنسا والسعودية، بما أتاح بعداً إنسانياً واضحاً لتجربته، تجاور فيها الغربي مع غيره من التأثيرات، هذا الخليط الذي جمع المتفرقات، فتعلم التركية والألمانية والإيطالية، مضيفاً إلى الموروث المصريٍ نظيره العربي، الذي يحل بالقوة داخل الوعي المصري وظواهره، وكلك أثر الثقافة العربية على سواها.

وتتوالى البورتريهات التي تحاول التقاط ما هو جوهري في كل شخصية من التي يتناولها الكتاب، بعناوين تحاول تلخيص روح كل شخصية، مثل «عبد الحميد جودة السحار... حتمية التقاء السينما بالأدب»، و«عبد الرحمن شكري... الرائد المنسي والمنسحب النبيل»، و«أحمد أمين يسدد الكثير من ديون التراث»، و«الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعاً»، و«جورجي زيدان أو الناهض للتحيزات»، و«أسامة أنور عكاشة... سيناريست بدرجة مناضل»، و«سعد الله ونوس... أمواج مسرحية وموسيقار كبير»، و«ميخائيل نعيمة والتمرد على النمط»، و«عاطف الطيب... العزف بالكاميرا».


صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر
TT

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض، عن الغياب والبحث عن الحكايات التي تقال، وتلك التي تظل مدفونة في الحجر والجسد والخرائط القديمة، عبر سرد يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالروح، والقرية بالميناء، في نسيج سردي نابض بالحياة، ويلامس أسئلة الإنسان الكبرى: عن العدالة والخلاص والمعنى.

في مصر أثناء القرن التاسع عشر، بين انتشار الطاعون، والصراع الخفي بين الإمبراطوريات، يصل الطبيب الإنجليزي كامبل إلى الإسكندرية، باحثاً عن رائحة الأرض الحقيقية، وحقيقة نفسه الممزقة بين الحنين والخسارة، إذ تلاحقه ذكرى ابنته «ليزا» التي اختفت مع أمها، ويقوده قدره إلى أعماق مجتمع مكلوم، تتشابك فيه خرافات الخلاص مع يقين العلم، وتلتبس فيه المعجزة بالداء. وفي قلب هذا العالم، يقف الروزنامجي، كاتب الضرائب الذي يعرف كيف تباع القرى وتوزع الأحلام، ليسجل بأمانة زائفة تقسيم البلاد والعباد.

الرواية حافلة بالشخصيات مختلفة المرجعيات الثقافية والاجتماعية والعرقية والدينية، بما يجعلها ساحة للحوار والجدل الثقافي والسياسي، خصوصاً في لحظات سياسية مأزومة، ووباء يطارد الجميع، فضلاً عن الأزمات الشخصية والوجودية لكل منهم، وتساؤلاته الروحية العميقة، وتتوزع الأحداث على خمسة فصول رئيسة، كل منها له عنوان، وهي: كامبل الإنجليزي، حياة النفوس، دلال الحبشية، المتصاحبون، الروزنامجي. وعلى مدار هذ الفصول يتنامى الصراع على السلطة والوجود والأفكار والمكتسبات، بل على الحياة، إذ تفتتح الرواية أحداثها على الوباء وانتشاره، واحتجاز الناس في محجر صحي انتظاراً للموت الذي يفتك بهم، دون العثور على دواء مناسب يعطي بعضاً من الأمل، وفي ظل هذه الأجواء يتصارع الوعي الخرافي والعقل العلمي.

يذكر أن هشام البواردي روائي مصري، من مواليد 1977 بمحافظة المنصورة، شمال القاهرة، وحاصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الأزهر عام 2000، وحصل على المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس الأدبية عن روايته «الحياة عند عتبات الموت»، كما وصلت روايته «الرجل النملة» للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية عام 2017.

من أجواء الرواية: «تحولت الأمتعة والملابس إلى كتلة من رماد أسود، يعبث به الهواء ويطير، أمرهم كامبل ألا يدخلوا الدير مرة أخرى، وألا يقربوه، وألا يقيموا حتى صلواتهم على عتباته، وأن يتفرقوا في الأرض لو أحبوا. فزعوا من طلبه، وجُنُّوا حين طالبهم بإحضار الجير والتحاريق حتى يطهر الدير. فتح حقيبته وبحث عن قلم، عن دهان، عن لون يرسم به العلامة النكدة على بابه، وأخبرهم أن المكان موبوء، ويجب فعل هذا حفاظاً على الإنسان والحياة. اندفع الرهبان، جميعهم، ناحية كامبل، وحملوه، وقذفوا به بعيداً عن باب الدير. وتسلح كل واحد منهم بكل ما استطاع من أسلحة للاعتداء عليه لو نهاهم، وقالوا في نفس واحد: من أنت حتى تحظر بيت الرب وتمنع الخراف من دخوله؟! لم تقدر على فعل شيء للخادم أيها العاجز، فلتفعل شيئاً يُذهب الطاعون، لو تقدر».