في الحلقة الثالثة والأخيرة من كتابه «في قلب الأحداث»، يتناول وزير الخارجية المصري السابق نبيل فهمي، حكاية العلاقة بين مصر والنيل التؤامين منذ القدم بعدما طرأ عليها «سد النهضة الإثيوبي الكبير»، الذي هدّد حقوق مصر التاريخية واحتياجاتها الوجودية لمياه هذا النهر.
أصبح سد النهضة واقعاً منذ عام 2010. فيما كان اهتمام الرئيس حسني مبارك بأفريقيا تراجع بشدة في سنوات حكمه الأخيرة. كما أن الأوضاع التي مرت بها البلاد بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 أدت إلى تشتيت الانتباه عن هذا الملف.
ويؤكد فهمي أن التعاون مع دول حوض النيل، بشأن تقاسم مياه النهر، كان على رأس أولويات السياسة الخارجية لمصر خلال العام الذي قضاه وزيراً للخارجية.
يقول فهمي إن قضية السد صارت محل اهتمام شعبي متنام لدى المصريين، مما زاد من حساسيتها السياسية. وكان التوصل إلى اتفاق مع إثيوبيا والسودان بشأن كل عناصر مشروع سد النهضة، أولوية قصوى تحتاج إلى التفكير فيها بشكل فوري. لكنه يشير إلى أن السودان كان أقرب إلى إثيوبيا من مصر لأن السد يفيده في تجنيبه خطر فيضانات النيل عنده.
وبموازاة قضية السد، يستعرض فهمي مشكلة ثانية مع أفريقيا وتمثلت بتعليق عضوية مصر في الاتحاد الأفريقي بعد الإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسي. ويتحدث عن الجهود التي بذلها لحل هذه المشكلة، مشيراً إلى أن ذكريات فترة التحرر الوطني ما زالت توفر أساساً قوياً لإقامة علاقات جيدة بين القاهرة والعواصم الأفريقية.
كان التعاون مع دول حوض النيل، بشأن تقاسم مياه النهر، على رأس أولويات السياسة الخارجية لمصر خلال العام الذي قضيته وزيراً للخارجية. وكانت علاقات مصر بدول حوض النيل لها أولوية أكبر، وأعطى الرئيس المؤقت عدلي منصور وفريق الأمن القومي المصري اهتماماً كبيراً لزيادة التركيز على الشؤون الإقليمية.
على مدى قرون، كانت مصر تعيش على نحو 4 في المائة فقط من مساحتها الشاسعة، على ضفاف وادي ودلتا نهر النيل. مصر هبة النيل لأنه مصدر نحو 97 في المائة من احتياجاتها المائية، لذلك وقعت على العديد من الاتفاقات الدولية التي تنظم حقوقها في مياه النيل مثل اتفاقي 1929 و1959.
بمرور السنوات، استقلت الدول الأفريقية عن الاحتلال الأوروبي، وشهدت تغييرات ديموغرافية كبيرة، مع تزايد عدد السكان وارتفاع الأصوات المطالبة بتحقيق التنمية الاقتصادية، وهو ما يعني تزايد الحاجة إلى المياه. خلقت هذه التغيرات تحديات صعبة بشأن كيفية المواءمة بين الاحتياجات التنموية لدول منابع النيل واحترام حقوق مصر التاريخية واحتياجاتها الوجودية لمياه النيل.
لذلك أصبح تفكير دول حوض النيل في إقامة مشاريع مياه على النهر من دون التشاور مع دول الحوض الأخرى مشكلة متكررة. وكانت المشكلة الأكبر مع إثيوبيا، التي ينبع منها النيل الأزرق الذي يمثل مصدرا لنحو 80 في المائة من مياه النيل. وأدت الحساسيات التاريخية وغياب الفكر التعاوني الاستراتيجي عن دول حوض النيل إلى إهدار فرص عديدة للوصول إلى حلول تحترم الحقوق التاريخية لدول المصب والاحتياجات التنموية لدول المنبع.
وفي مايو (أيار) 2010، أعلنت أديس أبابا عزمها بناء «سد النهضة الإثيوبي الكبير» على النيل الأزرق بطاقة تخزينية تصل إلى 74 مليار متر مكعب وبارتفاع 155 متراً وطول يبلغ نحو كيلومترين. وهذه السعة التخزينية هي خمسة أمثال السعة الأصلية التي أعلنتها إثيوبيا عند الكشف عن مشروع السد للمرة الأولى قبل عشر سنوات. ويمثل هذا المشروع مشكلة كبيرة، وبخاصة بالنسبة لمصر التي تعاني بالفعل من الندرة المائية، وليس لديها مصادر كبرى أخرى للمياه.
كان اهتمام الرئيس مبارك بأفريقيا تراجع بشدة في سنوات حكمه الأخيرة. كما أن الأوضاع التي مرت بها البلاد بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 أدت إلى تشتيت الانتباه عن هذا الملف. وتدهورت الأوضاع بصورة أشد عام 2012 عندما عقد الرئيس السابق محمد مرسي مؤتمراً بمشاركة العديد من الأطياف السياسية في البلاد لمناقشة أزمة السد الإثيوبي. كان المؤتمر مذاعاً على الهواء مباشرة، وتحدث بعض المشاركين بطريقة عنصرية كارثية عن إثيوبيا، مثل اقتراح قصفها بالطائرات أو إثارة الفوضى فيها أو حتى الحديث بطريقة عنصرية عن الشعب الإثيوبي. وأثار هذا الاجتماع بالفعل غضباً قوياً في إثيوبيا وبقية دول شرقي أفريقيا. وشعرتُ بخجل شديد من هذه الإساءات واعتذرت بصفتي مواطناً مصرياً لعدد من الأصدقاء الأفارقة مع أني لم أكن في الحكومة أو مشاركاً في المؤتمر.
في ذلك الوقت، أمر وزير الخارجية محمد كامل عمرو السفارات المصرية في مختلف دول أفريقيا بإطلاق حملة علاقات عامة، وإجراء اتصالات مكثفة لاحتواء الموقف. كما أرسل مبعوثين شخصيين إلى دول شرقي أفريقيا بشكل خاص وحاول التوصل إلى اتفاق ثلاثي بين مصر وإثيوبيا والسودان بعد سلسلة من الاجتماعات الفنية والسياسية، لكن لم يتم التوصل إلى شيء. فلم تكن إثيوبيا تثق في مصر، وفي الوقت نفسه ترى أن لديها فرصة قوية للمضي قدماً في تنفيذ مشروعها القومي الطموح من دون خوف شديد من رد الفعل المصري غير المدعوم أفريقياً والمشتت داخلياً.
كانت الاحتياجات الاستراتيجية لمصر من المياه وتداعيات استمرار بناء السد الإثيوبي، موضوعاً لعدد كبير من اجتماعات الأمن القومي المصري على المستويات الفنية والسياسية بمجرد تشكيل الحكومة المصرية الجديدة بعد الإطاحة بحكومة «الإخوان» في يوليو (تموز) 2013. وفي حين كانت مصر تحتاج إلى إعادة النظر في سياساتها المائية لوقف إهدار المياه، فإنه لم يكن هناك أي شك في أنها ستظل تعتمد بشكل كبير على نهر النيل، ولذلك فإن أي نقص أو اضطراب في تدفق مياه النهر، حتى لو بشكل مؤقت، سيلحق بها أضراراً فادحة. كما كانت هناك مخاوف فنية وبيئية تتعلق بتصميم السد الذي قد يؤثر على جودة المياه وخصائص الطمي في النهر.
تدريجياً، أصبحت قضية السد محل اهتمام شعبي متنام لدى المصريين، مما زاد من حساسيتها السياسية. وكان التوصل إلى اتفاق مع إثيوبيا والسودان بشأن كل عناصر مشروع سد النهضة، سواءً بالنسبة إلى حجم السد أو طاقته التخزينية أو تأثيراته البيئية أو اعتبارات الأمان والسلامة الإنشائية أو مدة التخزين، أولوية قصوى تحتاج إلى التفكير فيها بشكل فوري.
وكنت أثير موضوع سد النهضة في أغلب لقاءاتي مع نظيري السوداني علي كيرتي، الذي كان يحاول تهدئة مخاوفي بأن السودان سيحاول تضييق الفجوة بين مصر وإثيوبيا، وهو قال: «لا أتوقع أبداً أن يختار السودان حدوث أزمة بين مصر وأي دولة أخرى»، فقلت إنها لم تكن مصادفة أنني اخترت الخرطوم لتكون أول وجهة خارجية لي بعد تولي الوزارة.
مع ذلك، أدركت أن السودان يميل إلى إثيوبيا بدرجة كبيرة، فيما يتعلق بمشروع سد النهضة. فالسودان لا يعاني كثيراً من نقص المياه، لكنه يواجه مشكلات متكررة من الفيضانات، وبناء سد النهضة لن يؤثر عليه، بل سيحل مشكلة الفيضانات لديه. وهذا في تقديري سبب الموقف السوداني تجاه المشروع، وهو الموقف الذي كان بدأ قبل ذلك بسنوات واستمر خلال حكم جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، رغم وجود التيار الإسلامي أيضاً في حكم السودان.
المشكلة وحلولها كانت ثلاثية: مصر تريد المزيد من المياه؛ والسودان يحتاج إلى المزيد من السيطرة على تدفق المياه؛ وإثيوبيا تحتاج إلى المزيد من التنمية. ولم تكن الأطراف الثلاثة مستعدة لتحمل استمرار الأوضاع الاقتصادية والمائية والتنموية القائمة، والتي كانت منعدمة الكفاءة وتنطوي على عمليات هدر واسعة، ولم يكن إصلاح أخطاء الماضي كافياً. ففي هذا السياق واجهنا موقفاً: إما تحقيق المصلحة للجميع أو إلحاق الضرر بالجميع. وهذا لن يتوقف على جانبين فقط، وإنما يحتاج إلى مفاوضات فورية وشاقة وتفصيلية والوصول إلى اتفاق جماعي. في الوقت نفسه، فإن الخطابات التهديدية الحماسية من أي طرف تجاه الأطراف الأخرى أو المبالغة في تقدير احتياجات أي طرف لن يحقق الغرض المنشود. كما أن خلق انطباعات كاذبة بشأن الاتفاقات أو الترويج لتحقيق تقدم مهم لم يتحقق هو خطأ كبير أيضاً، فمثل هذه التحركات الخطأ ستضعف مواقف المعتدلين في مواجهة المتشددين لدى الأطراف الثلاثة. ومع أنّ من الصعب دائماً محاولة تحقيق نجاح ثلاثي، فإن هذه هي الطريقة الصحيحة للتعامل مع مفاوضات سد النهضة الثلاثية.
كررت الإشارة إلى هذه النقاط خلال مناقشاتي العديدة مع نظيري الإثيوبي تيدروس أدهانوم ومع علي كيرتي. وأوضحت لهما أن مصر على عكس السودان وإثيوبيا ليس لديها أي مصدر آخر كبير للمياه غير النيل، لذلك فمياه النيل قضية أمن قومي بالنسبة لنا، ولا توجد لدينا مساحة كبيرة للحركة عند التعامل معها. وأوضحت أننا نحتاج إلى ما هو أكثر من حقوقنا التاريخية في مياه النيل، تماماً كما تحتاج إثيوبيا إلى المزيد من التنمية والسودان إلى المزيد من السيطرة على تدفق المياه. وأكدت حرص مصر على الوصول إلى حل يرضي كل الأطراف ويحقق مصالحها، مع استعدادها لتوفير الموارد المالية لكل من السودان وإثيوبيا لتحقيق أهدافهما إذا ما تم تحقيق مصالح مصر والاستجابة لمخاوفها. كما أوضحت أنني لا أتحرك مدفوعاً بالمشاعر العامة ولا ضغوط السياسات الداخلية، لكنني أيضاً أكدت أنني شخصياً سأضغط من أجل منع أي دعم دولي لمشاريع المياه في إثيوبيا والسودان على النيل إذا لم نصل إلى توافق بشأن كيفية التعامل مع المواضيع المتعلقة بمشروع سد النهضة.
وهذا بالضبط ما فعلته في ضوء خطورة الموضوع. وعرضت الموقف المصري تجاه استمرار البناء في سد النهضة، خلال أي لقاء عقدته مع الأطراف الدولية المؤثرة، بما في ذلك البنك الدولي وبعض الدول العربية، وطالبت هذه الأطراف بعدم تمويل المشروع أو مشاريع ترتبط به بشكل مباشر أو غير مباشر، حتى تتوصل الدول الثلاث إلى اتفاق بشأنه. وأوضحت ذلك لنظيري الإثيوبي وأكدت أنني سأواصل التحرك لمنع أي تمويل دولي عن المشروع حتى نتوصل إلى اتفاق. وقد أغضب هذا الإثيوبيين وإن كانوا احترموا كثيراً عدم تأثري بضغوط السياسيين والشعبويين المعنيين باسترضاء الرأي العام.
في 9 يونيو (حزيران) 2014. استقبل الرئيس السيسي المنتخب حديثاً الوزير الإثيوبي تيدروس أدهانوم. وقبل ذلك بيوم واحد، ألقى السيسي خطاباً في حفل تنصيبه تحدث فيه عن مستقبل مصر بما في ذلك سياستها الخارجية، مشدداً على الحاجة إلى التعاون مع الدول الأفريقية بما في ملف النيل. وهنأ أدهانوم الرئيس السيسي بانتخابه، ثم أشاد برؤيته بشأن ملف حوض النيل التي عكسها خطابه. ثم أشار أدهانوم ناحيتي وشكرني لأنني لم أشارك في الجدل الساخن والتصريحات الحماسية بشأن سد النهضة، قبل أن يقول إنه يشكو من نجاحي في تعليق الدعم الدولي لمشروع بناء السد طوال العام الماضي، وضحكت أنا والرئيس. واعترفت بالفعل بأنني فعلت ذلك، لكنني أعربت عن أملي في المشاركة بحملة لجمع التمويل لصالح السد الإثيوبي بما في ذلك توفير دعم مالي من مصر له، شريطة أن يكون هناك اتفاق بين مصر وإثيوبيا والسودان بشأن تفاصيل المشروع، بما يضمن الحفاظ على الحقوق المصرية. واستمرت ابتسامة الرئيس السيسي قبل أن يقول مخاطباً الوزير الإثيوبي: «كما ترى نحن متعاونون ونريد العمل معاً». ودعا أدهانوم الرئيس السيسي إلى زيارة إثيوبيا وإلقاء خطاب أمام البرلمان هناك، وهي الدعوة التي قبلها السيسي، مع التأكيد على الحاجة إلى حل مشكلة السد.
قادة مصر وإثيوبيا والسودان وقّعوا فيما بعد على إعلان مبادئ في مارس (آذار) 2015. في العاصمة السودانية، لكن لم يحدث أي تقدم ملموس خلال السنوات الثلاث التالية، من المفاوضات الفنية والتي كانت تتعلق بشكل أساسي بآليات تشغيل السد وإدارة تدفق المياه منه. ورغم الإشارات إلى حسن النوايا التي كانت وراء إعلان المبادئ، فإنه لم يكن ملزماً وفتح الباب أمام التفسيرات المتضاربة وسوء الفهم، كما شهدنا بعد ذلك. والأهم، أنه أعطى انطباعاً للمجتمع الدولي بأن هناك تقدماً تحقق على صعيد المفاوضات بين الدول الثلاث، مما فتح الباب أمام وصول التمويل الدولي للمشروع. والحقيقة أنّ هناك عدداً محدوداً للغاية من القضايا الوجودية، التي لا يجب التعامل معها بلغة غامضة ولا بافتراض حسن نوايا الأطراف الأخرى. ومن هذه القضايا الحرب والسلام وضمان الحد الأدنى من الموارد الطبيعية، على رأسها المياه.
ومع الأولوية القصوى لملف مياه نهر النيل والعلاقات بدول حوض النهر، كانت العلاقات مع دول القارة الأفريقية ككل على رأس أولوياتي كوزير للخارجية، بعدما تم تجميد عضوية مصر في الاتحاد الأفريقي في يوليو (تموز) 2013 بعد الإطاحة بالرئيس مرسي.
وفور تسلمي منصب وزير الخارجية، أجريت سلسلة اتصالات هاتفية مع وزراء الخارجية في مختلف دول القارة وأمانة الاتحاد الأفريقي، بهدف إعادة تفعيل عضوية مصر في الاتحاد ووضع سياستنا الخارجية على المسار الصحيح. ولتحقيق هذا الهدف، وضعت خطة عمل وقمت بزيارات مكثفة لدول شرق وغرب ووسط وشمال أفريقيا، وكنت أبدأ دائماً بالحديث عن التنمية ومستقبل القارة، ثم أتجه للحديث عن عودة مصر إلى الاتحاد الأفريقي. وكانت محادثاتي مع دول شرق أفريقيا تتضمن أيضاً موضوع حصة مصر السنوية من مياه النيل وعزم إثيوبيا بناء سد ضخم جديد على النيل.
ولوحظ فوراً أن أغلب المسؤولين الأفارقة، الذين التقيتهم، أعربوا عن تقديرهم بأنني أتحدث عن المستقبل وليس عن الماضي. وأتذكر لقائي مع الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني في حديقة منزله الريفي. بدأ موسيفيني المقابلة الممتدة بحديث الذكريات عن علاقاته بقادة مصر السابقين، ثم سألني بشكل مفاجئ، عما إذا كنت أود الحديث عن قضايا المياه، ولماذا لم يصحبني وزير الري كما جرت العادة؟، وقد ابتسم بود عندما قلت له إن وزيري الإسكان إبراهيم محلب والزراعة أيمن أبو حديد حضرا معي ويجتمعان الآن مع رئيس وزراء بلاده، وإنني أود التحدث معه حول التعاون التنموي المشترك، وأدى هذا إلى ذوبان الجليد.
وعند زيارتي السنغال عام 2014، رتبت الحكومة السنغالية كل الاجتماعات المناسبة لي، بما في ذلك اجتماع مع رئيس البرلمان ورئيس الدولة. ورغم أن السلطات السنغالية علقت الأعلام المصرية في عدد من الشوارع الرئيسية كما جرت العادة عند استقبال مسؤولين بارزين، فإن الاجتماعات بدأت في أول الأمر شكلية وتقليدية، حيث تحدث المضيفون السنغاليون باحترام، لكن بطريقة رسمية عن العلاقات التاريخية بين البلدين، قبل الانتقال إلى طرح الأسئلة عن تطورات الأوضاع في مصر.
بعد ذلك اتسم لقائي مع رئيس البرلمان السنغالي مصطفى نياسي بالدفء عندما علم أنني ابن إسماعيل فهمي؛ حيث كان مساعداً شاباً لمسؤولين سنغاليين كبار في السبعينات، وزار القاهرة في ذلك الوقت والتقى والدي في منزلنا. وعندما التقيت مع الرئيس السنغالي ماكي سال، بدأ الحديث بالذكريات أيضاً قبل أن يسألني بشكل عارض عن الدول الأفريقية التي زرتها في طريقي إلى السنغال، وعن الدول التي سأزورها في طريق عودتي إلى القاهرة. وفوجئ الرئيس السنغالي عندما قلت له إنني آتٍ من القاهرة إلى داكار وأعود منها إلى القاهرة مباشرة، وإنني أريد أن تكون السنغال هي نقطة بداية إعادة تواصل مصر مع دول غرب أفريقيا. وأصبح اللقاء مع الرئيس سال أكثر تفاعلاً ومرحاً وحماسة عندما قلت له إن رجل الأعمال المصري سميح ساويرس يعتزم إقامة مشروع سياحي جديد في السنغال.
وبالمثل جاء لقائي مع الرئيس التنزاني جاكايا كيكويتي ووزير الخارجية برنارد ميمبي دافئاً بشكل استثنائي، وفوجئا عندما قلت لهما إن القطاع الخاص المصري مهتم بالاستثمار في بلدهما، وزادت المفاجأة عندما قلت لهما إن هناك رجال أعمال مصريين يرافقونني بالفعل في هذه الزيارة.
وكان القاسم المشترك بين لقاءاتي مع رؤساء أوغندا وتنزانيا والسنغال، أنّ كلهم أنهوا اللقاء بالسؤال عما إذا كنت سأعود إلى زيارة بلادهم مرة أخرى، وأعربوا عن أملهم في ألا تكون هي الزيارة الأولى والأخيرة كما كان يحدث مع المسؤولين المصريين من قبل. والحقيقة أنني بصفتي وزيراً للخارجية كنت أركز باستمرار على قارة أفريقيا، وزرت دول القارة أكثر من أي منطقة أخرى في العالم.
ومن المواضيع التي شكلت أولوية خلال المحادثات الأفريقية، كان رفع تعليق عضوية مصر في الاتحاد الأفريقي. فقد أرسل الاتحاد لجنة رفيعة المستوى إلى مصر في أعقاب الإطاحة بمرسي، برئاسة الرئيس المالي الأسبق ألفا عمر كوناري، وحث الوفد الأفريقي السلطات المصرية على تطبيق خريطة الطريق التي أعلنت يوم 3 يوليو (تموز) 2013 وتشكيل السلطات التنفيذية والتشريعية، من أجل استئناف عضوية مصر في الاتحاد. وبات واضحاً أن جنوب أفريقيا تلعب دوراً مهماً في تعطيل العدول عن هذا القرار، وتردّد أن التيار السياسي الإسلامي كان له نفوذ قوي هناك.
وخلال رحلاتي إلى الدول الأفريقية، لمست أن أغلب القادة الأفارقة يشعرون بالمأزق الذي وجدوا أنفسهم فيه بتعليق عضوية مصر في الاتحاد الأفريقي، وهم أكدوا أن هذا التعليق خسارة للاتحاد بقدر ما هو خسارة لمصر، واتفقوا على أن هذا الموقف يحتاج إلى المعالجة السريعة، في الوقت نفسه كانوا يشعرون بضرورة الالتزام بقرار الاتحاد الأفريقي تعليق عضوية أي دولة أفريقية تطيح برئيس منتخب. وأكد عدد كبير من القادة الأفارقة أنهم سيلعبون دوراً نشطاً لرفع تعليق عضوية مصر، مع المطالبة بضرورة تطبيق خطة المرحلة الانتقالية، وخصوصاً إجراء الانتخابات الرئاسية.
وقبيل تولي إبراهيم محلب رئاسة الوزراء، كنت أشارك في احتفالات نيجيريا بذكرى مرور مائة عام على تأسيسها، واستقبلني الرئيس النيجيري جودلك جوناثان في جناحه بالفندق. وفي البداية شكرني على الحضور للمشاركة في الاحتفالات، كما شكرني بطريقة مرحة لحضوري لمقابلته في الواحدة صباحاً، وأكد أن بلاده ستلعب دوراً نشطاً من أجل إلغاء تجميد عضوية مصر في الاتحاد الأفريقي بمجرد انتهاء الانتخابات الرئاسية.
وبعد ذلك بفترة وجيزة، أكد لي الرئيسان الأوغندي يوري موسيفيني والجزائري عبد العزيز بوتفليقة في مناسبات أخرى ضرورة إنهاء التجميد بمجرد انتخاب رئيس لمصر. وكان بوتفليقة بصورة خاصة قوياً للغاية في الحديث عن هذا الموضوع خلال زيارتي للجزائر في يناير (كانون الثاني) 2014؛ حيث أصدر تعليماته لوزير خارجيته رمطان العمامرة، خلال اللقاء، بضرورة العدول عن القرار السابق في مجلس السلم والأمن في الاتحاد الأفريقي. وكان كل شيء معدّاً لعودة مصر إلى الاتحاد، لذلك جهزت مسودة الخطاب الذي سيلقيه الرئيس السيسي بعد انتخابه خلال القمة الأفريقية التي كانت ستعقد بعد انتخابات الرئاسة المصرية مباشرة. وفي 17 يونيو (حزيران) 2014 وبعد يومين من تركي الوزارة، تم إلغاء تجميد عضوية مصر في الاتحاد الأفريقي، وزار الرئيس السيسي الجزائر، كما كنت اقترحت عليه في طريق عودته من مؤتمر قمة الاتحاد التي استضافتها مدينة مالابو عاصمة غينيا الاستوائية؛ لكي يعبر عن تقدير مصر لموقف الرئيس بوتفليقة.
- باتفاق خاص مع «دار الشروق»
- كتاب «في قلب الأحداث» (1 ـ 3): بحث الأميركيون عن خليفة لمبارك يضمن «المصالح» و{الاستقرار»
- كتاب «في قلب الأحداث» (2 ـ 3): فهمي: مصر هدأت عقوداً ثم صحت على ثورتين