كتاب مصريون ينتقدون «جائزة ساويرس» ويصفونها بالشكلية

طالبوا بإدراج الشعر ضمن فروعها واختيار لجان تحكيم تتسم بـ«الحيادية»

كتاب مصريون ينتقدون «جائزة ساويرس» ويصفونها بالشكلية
TT

كتاب مصريون ينتقدون «جائزة ساويرس» ويصفونها بالشكلية

كتاب مصريون ينتقدون «جائزة ساويرس» ويصفونها بالشكلية

انتقد كتاب وروائيون مصريون جائزة «مؤسسة ساويرس الثقافية»، رغم تشديدهم على أهميتها، ولفتوا إلى أن جوائزها صارت شكلية، وأن هناك استئثاراً من جانب بعض دور النشر بها، كما أن لجان تحكيمها غالباً ما تفتقر إلى الحيادية، فضلاً عن تكرار الحاصلين عليها أكثر من مرة.
وحذَّر الكُتاب - ومنهم من فاز بها - من أن تفقد الجائزة جديتها وقيمتها.
هنا تحقيق حول الجائزة التي احتفلت قبل أيام بدورتها السابعة عشرة.

الروائي رشيد غمري: تدوير الفائزين ولجان التحكيم
عدد الجوائز الأدبية العربية على العموم ضئيل للغاية، إذا ما قورن مثلاً بعدد الجوائز التي تُمنح في فرنسا وحدها، وتصل لحوالي ألفي جائزة سنوياً، تمثل حافزاً كبيراً بالنسبة للأدباء. وتعد جائزة ساويرس من حيث المبدأ إضافة مهمة؛ لكن هذا بالطبع لا يمنع أن لي ملاحظات عليها. كنت أتمنى ألا تصاب بالداء الذي تعاني منه أغلب الجوائز العربية التي تقوم على حسابات خاصة بخلاف جودة العمل المرشح. وقد لاحظت مع آخرين أنه جرى خلال عمر الجائزة تدوير الفائزين ولجان التحكيم من ناحية، ومنح الجوائز لدور نشر بعينها فيما يشبه «الكوتة».
ويمكن ببساطة ملاحظة الدوائر الفاعلة في الجائزة، والمتحكمة فيها، والمستفيدة منها، بمجرد رصد الفائزين على مدى السنوات الثماني الأخيرة؛ حيث سنجد نصيب الأسد لكُتاب هم في الوقت نفسه صحافيون ثقافيون في أماكن بعينها، وعدد من دور النشر ضمن شبكة علاقات مهنية وشخصية، يجري توزيع الجوائز بينهم، بينما يتبادل بعضهم المواقع في لجان التحكيم، مما يلقي ظلالاً من الريبة، ويفقد الجائزة حضورها وقيمتها عاماً بعد عام.
ورغم ذلك فنحن لا نريد هدم الجائزة ولا تشويهها؛ بل نرغب فقط في أن تصلح مسارها، بتعيين إدارة مختلفة، واعتماد لجان تحكيم أكثر حيادية. وتطبيق معايير موضوعية دون التفات لحسابات العلاقات الشخصية، ومكاسب دور نشر بعينها، فالجائزة كان يمكن أن تكون فرصة لكتاب تنويريين، ولديهم أفكار جديدة، ورؤى فنية مغايرة.
صحيح أن بعض الفائزين بالجائزة كُتاب جيدون؛ لكن مجمل النتائج يكشف أن المعيار الأدبي ليس وحده ما يحكم لجان التحكيم.
أما فيما يتعلق بجوائز «المجلس الأعلى للثقافة» وجوائز الدولة على العموم، فلا أظن أن هناك أي تعارض، ونحن بحاجة إلى عشرات الجوائز؛ لأن لدينا أعداداً متزايدة من الكُتاب المبدعين.
أعتقد أن هناك استبعاداً متعمداً للشعر، بحجة أنه ليس زمنه، كما أن قصيدة النثر التي يُفترض أنها التعبير الملائم للعصر، لم تصل بعد إلى كثير من القراء. وأظن أن هذا أدعى لتخصيص مزيد من الجوائز للشعر.

الكاتب عبد الوهاب داود: لا دور ثقافياً لها
أظن أن جوائز عائلة ساويرس لم يعد لها أي دور ثقافي منذ دوراتها الأولى، لا سلبياً ولا إيجابياً، اللهم إلا منح بعض النقود لأشخاص يحترفون العمل الثقافي، سواء في لجان التحكيم، أو الكتابة، حتى أنه لم يعد ينتظرها أحد، ولا يعقد عليها أملاً سوى من يمرون بضائقة مالية، أو من يبحثون عن أي بارقة اعتراف بكتابتهم الباهتة.
وأذكر أنني حضرت جلسة كان يتصدرها الكاتب الراحل سعيد الكفراوي، في الدورات الأولى للجائزة، كان يتحدث عن دوره في لجنة تحكيم الرواية، وأذكر أنه قال ما معناه أن اللجنة استبعدت كل الروايات التي تقدم بها صحافيون، لا لشيء إلا لأنهم يكسبون جيداً، ولديهم مساحات للنشر، وما زلت أذكر عبارته جيداً: «ح نديها لكلاب السكك، ولا ياخودهاش صحفي»! ساعتها ضحكت، وتحسرت على بؤس الثقافة والمثقفين المصريين، وأدركت طرفاً من مأساة الجوائز في عالمنا العربي. فأغلب الظن أن أي جهة مانحة تتصدر أهدافها قيمة الجائزة المعنوية، فهي تبحث لنفسها عن مكانة ما لدى الكُتاب والقراء، ولدى المجتمع الذي تعمل فيه؛ لكن ما يحدث من لجان التحكيم في الغالب هو ما يفقد هذه الجوائز مكانتها ومصداقيتها.
ولك أن تتأمل أسماء من فازوا بهذه الجائزة على مدار سنواتها، ومنهم –مثلاً- كاتب فاز في إحدى الدورات بأفضل رواية للشباب، وبعدها بعامين فاز بأفضل سيناريو، ثم رواية كبار الكتاب، وآخر فاز بجائزة المسرح، وقبلها جائزة القصة القصيرة، وقبلهما جائزة الرواية!
عائلة ساويرس تعمل في مجال الإنتاج السينمائي، فبماذا –مثلاً- نفسر أنها لم تنتج أي سيناريو من السيناريوهات الفائزة بجوائزها طوال 16 عاماً؟ لماذا لم تحوِّل ولو رواية واحدة من روايات الفائزين إلى فيلم؟

الروائي والمترجم أشرف الصباغ: مجرد وسيلة مالية
موضوع الجوائز شائك جداً، وخصوصاً عندما يكون كل أعضاء لجان تحكيم هذه الجائزة أصدقاء. وفي الحقيقة هناك لغط كثير حول جائزة ساويرس. أنا أستشعر الحرج في الحديث. وأود ألا أسبب لهم أي إحراج. ولكنني ممتن جداً لأنهم يحصلون على مقابل مادي لجهودهم في التحكيم يعينهم على مواجهة أعباء الحياة. وهذا أمر جيد، ومن أهم فوائد هذه الجائزة.
الأمر الآخر، هو أن أجيالاً مختلفة تحصل على جوائز ساويرس. وهذا شيء مهم. وفي الواقع القيمة المالية هي أهم ما في هذه الجائزة، لتساعدهم قليلاً على مواجهة الفقر وتدني مستوى المعيشة. وعموماً: غالبية الجوائز المصرية والعربية تكمن قيمتها الحقيقية في القيمة المادية. وهذا ما يفرحني وما يجعلني أتحدث عن هذه الجوائز باهتمام شديد. لكن دعونا من مسألة الإبداع؛ لأن الإبداع وقيمته يكمنان في المادة المكتوبة وليس في الجوائز. يجب ألا نخلط الأمور حتى لا نفسد فرحة الحصول على أموال تساعدنا على مواجهة الفقر والبطالة.
جائزة ساويرس لا تنافس أي جائزة. ولا توجد جوائز في مصر ينافس بعضها البعض الآخر. إنها مجرد وسيلة للحصول على مكافأة مادية (أموال) لمواصلة الحياة، وربما الكتابة أيضاً، ومواصلة المشاركة في اللجان، وإحداث حالة حراك حتى وإن كانت شكلية.
وبالطبع، هذه الجوائز -سواء كانت خاصة مثل «ساويرس»، أو حكومية مثل جوائز «المجلس الأعلى للثقافة» وجوائز الدولة وغيرها- كلها تختلف في شيء واحد فقط؛ في قيمتها المادية لا أكثر ولا أقل.
وأنا في الحقيقة، أناشد منظمي هذه الجوائز والقائمين عليها زيادة قيمتها؛ لأن الكُتاب والشعراء يعانون، وليست لدى غالبيتهم مصادر للرزق.

الروائي حاتم رضوان: الجوائز ظاهرة صحية
تعدُّد المؤسسات المانحة للجوائز الأدبية ظاهرة صحية، فكلما زاد عددها أعطت فرصة أكبر لعدد من المبدعين للفوز بها، كما أن قيمتها المادية قد تعوِّض المبدع عما يعانيه من صعوبات كثيرة في النشر والانتشار.
وبالنسبة لجوائز ساويرس، لا أعلم الآلية المتبعة في التحكيم؛ خصوصاً في مراحل التصفيات الأولية، والتي أرى أنها قد تظلم بعض الأعمال التي تستحق الوصول للقوائم القصيرة، على حساب بعض الأعمال لقلة من المبدعين، وليس كلهم ممن أعتقد أنهم مفروضون عليها، أو تحوطهم شبهة مجاملة.
وبالتأكيد فإن لكل محكم ذائقته الخاصة التي قد تؤثر في الاختيارات النهائية. وكذلك لا توجد جائزة عادلة بنسبة مائة في المائة، ولكن في النهاية فإن معظم من فازوا بجوائز ساويرس يستحقونها، ولا أعتقد أن جائزة ما يمكن أن تسحب البساط من جائزة أخرى؛ لكن لي ملاحظة على جوائز الدولة التي أعتقد أنها في كثير من الأحيان تتبع سياسة «الدور»، وليس الأفضل.
وهناك علامة استفهام كبيرة في جائزة ساويرس، وهي عدم تخصيص جائزة للشعر، وهذا سؤال يوجه للهيئة المؤسسة للجائزة. ولا أعتقد أن السبب تدني مستوى الشعر؛ لأن مصر زاخرة بالشعراء المجيدين، وهناك جوائز مخصصة له.

الكاتبة وسام سليمان: أين السيناريوهات؟
رأيي أن الجائزة الأجدر للسيناريو أن يتم تحويله إلى فيلم، وبما أن هناك اعترافاً من جانب اللجنة -وهي تضم شخصيات سينمائية بارزة مثل الفنان بشير الديك، وكمال رمزي- بعدد من السيناريوهات الجيدة بالفعل، فمن الأَوْلى أن تكون الجائزة دعماً لتنفيذ الفيلم أو إنتاجه.
في البداية، كان صيت الجائزة يلفت نظر المنتجين، وهناك أفلام ظهرت بالفعل كانت فازت بجائزة ساويرس، مثل «واحد صفر»؛ لكن يبدو الآن أن المنتجين صاروا بعيدين جداً عن الاهتمام بها، وهو ما جعل الجوائز تأخذ طابعاً شكلياً.
لماذا نشكو من قلة السيناريوهات، أو من عدم وجود أعمال جيدة منها؟ فالجائزة ولجنة تحكيم السيناريو تشير إلى أن هناك كُتاباً جيدين يحصلون على جوائز، فأين تكمن المشكلة إذن؟ وما الموانع التي تعوق تحويل تلك السيناريوهات إلى أفلام يراها الناس، ويفرح بها كاتبها؟
الجوائز لا تأخذ قيمتها من العمل نفسه، وهو غالباً لا يُرى ولا تتم قراءته؛ لأنه سيناريو. وأنا لهذا أشعر ببعض الغضب، ولدي أمنيات أرجو أن تتحقق وتتحول جوائز السيناريو إلى نوع من الدعم لتنفيذ وإنتاج الفيلم، وليس مجرد جائزة محددة بمبلغ مادي. فرأيي أن الجائزة الحقيقية التي يحصل عليها السيناريست يجب أن تتحدد في شيء واحد فقط، هو أن يرى روايته على شاشة السينما.



فيلم إسرائيلي مرشح للأوسكار يثير تعاطفاً مع الفلسطينيين ويزعج الحكومة

خلال عرض فيلم «البحر» في تل أبيب (رويترز)
خلال عرض فيلم «البحر» في تل أبيب (رويترز)
TT

فيلم إسرائيلي مرشح للأوسكار يثير تعاطفاً مع الفلسطينيين ويزعج الحكومة

خلال عرض فيلم «البحر» في تل أبيب (رويترز)
خلال عرض فيلم «البحر» في تل أبيب (رويترز)

يأمل مخرج فيلم إسرائيلي مرشح لجوائز الأوسكار لعام 2026 ويجسد رحلة فتى فلسطيني يسعى لرؤية البحر أن يسهم العمل السينمائي في إيقاظ التعاطف داخل إسرائيل وسط العديد من الحروب.

وقليلاً ما بدت آفاق السلام الدائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين أكثر قتامة مما هي عليه الآن، وذلك بعد الهجوم الذي قادته حركة «حماس» الفلسطينية في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وحرب غزة التي استمرت عامين وتصاعد عنف المستوطنين في الضفة الغربية.

لكن المخرج والكاتب شاي كارميلي بولاك شعر بالارتياح بعد الترحاب الذي حظي به فيلمه «البحر» وبعد حصوله على أهم جائزة سينمائية في إسرائيل، ما أدى إلى ترشيحه تلقائياً للتنافس على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية، والتي سيجري إعلان الفائز بها في مارس (آذار) المقبل.

وقال كارميلي بولاك في مقابلة خلال الأسبوع الحالي عقب عرض الفيلم: «التقيت بالجمهور الذي حضر لمشاهدة الفيلم، أدهشني تعاطفهم وبكاؤهم في بعض الآحيان بسبب قصة الفيلم حيث وقعت أعمال عنف وفظائع في مكان ليس بعيداً عن هنا».

ويروي فيلم «البحر» قصة خالد، وهو فتى فلسطيني يقطن في الضفة الغربية المحتلة يخشى أن يكبر دون أن يرى البحر، فيخوض رحلة محفوفة بالمخاطر وحيداً ودون أوراق سفر إلى إسرائيل سعياً لبلوغ الشاطئ.

ومُنع خالد قبلها عند نقطة تفتيش من استكمال رحلة مدرسية متجهة إلى البحر، ويؤدي اختفاؤه المفاجئ من المنزل إلى مخاطرة والده، وهو عامل غير موثق في إسرائيل، بالتعرض للاعتقال من خلال بدء عملية البحث عنه.

ووفق وكالة «رويترز» للأنباء، حصل «البحر» على جائزة أفضل فيلم في حفل توزيع جوائز «أوفير» في سبتمبر (أيلول) الماضي، وهو أمر قوبل بتنديد وزير الثقافة ميكي زوهر، الذي سحب تمويلاً للحفل بسبب الصورة التي جسدها الفيلم للجيش الإسرائيلي.

بوستر فيلم «البحر»

وأصبحت حكومة إسرائيل منذ عام 2022 أكثر الحكومات يمينية في تاريخها، وتعارض بشدة قيام دولة فلسطينية وتتمسك بتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية.

«التعاطف والحب»

وأدى الهجوم الذي قادته «حماس» عام 2023 على إسرائيل، وأسفر عن مقتل أكثر من 1200 شخص، إلى تشدد مواقف كثير من الإسرائيليين تجاه الفلسطينيين وجعل انتقاد الجيش مسألة أكثر حساسية.

وقال كارميلي بولاك وباهر إغبارية، وهو منتج إسرائيلي فلسطيني للفيلم، إن من المهم صنع أفلام تساعد الناس على سماع قصص بعضهم بعضاً.

وقال كارميلي بولاك لـ«رويترز»: «تنتابني حالة من الأمل أن يفتح الفيلم قنوات جديدة من التعاطف والحب، وأن يقدم سبلاً جديدة تمكننا من العيش معاً في هذا المكان».

وقال إغبارية إن عرض قصة فلسطينية في دور السينما الرئيسية في إسرائيل بدا أمراً مُدهشاً في ظل أجواء الحرب.

وأضاف: «بسبب ما يجري، فهذا هو الوقت المناسب أيضاً لهذا الفيلم... لهذا النوع من القصص، من أجل الإصغاء لقصص الآخرين».

وأُطلق الفيلم في دور السينما بإسرائيل في يوليو (تموز) ولا يزال يُعرض حتى الآن.

وفي حفل توزيع جوائز الأوسكار لعام 2025، أُعلن فوز الفيلم الإسرائيلي الفلسطيني «لا أرض أخرى» بجائزة أفضل فيلم وثائقي، ما أثار غضب الحكومة الإسرائيلية. ويتناول الفيلم قصة تهجير إسرائيل لمجتمع فلسطيني في الضفة الغربية.

وقال كارميلي بولاك، وهو ناشط معني بالسلام منذ فترة طويلة، إنه على الرغم من رغبة الحكومة في ألا يمثل إسرائيل، لكنه يشعر بالفخر كونه جزءاً من مجتمع صناع الأفلام الذين اختاروا تكريم «البحر».

وأضاف: «أمثل كل الشعوب، مثل الإسرائيليين والفلسطينيين، الذين يتطلعون إلى إحلال السلام والمساواة والعيش معاً بطريقة تختلف عن الطريقة التي تنتهجها هذه الحكومة».


صوَر الجمال وتجلياته في الشعر العربي

صوَر الجمال وتجلياته في الشعر العربي
TT

صوَر الجمال وتجلياته في الشعر العربي

صوَر الجمال وتجلياته في الشعر العربي

إذا كان الاحتفاء بالجمال بوجوهه وتعبيراته المختلفة سمة مشتركة بين الشعوب والحضارات، فلم يكن العرب الأقدمون بعيدين عن هذا الاحتفاء أو بمنأى عنه. لا بل إن ظروف حياتهم القاسية، واتساع المكان الصحراوي المفتقر إلى الماء، جعلاهم يرون في الجمال الأنثوي المياه الرمزية التي تعصمهم من العطش، والواحة الظليلة التي ترد عنهم وحشة المتاهات ووطأة الشموس الحارقة.

وفي ظل الشروط القاسية للحياة الصحراوية القائمة على الترحل وفقدان الأمان والصراع من أجل البقاء، كان من الصعب على الجاهلي أن يبتكر للجمال نماذجه وتصاميمه العليا، كما كان حال الحضارة اليونانية المدينية، بل بدا النموذج الجاهلي للجمال متصلاً بالمنفعة والحياة العملية، أكثر من اتصاله بمعايير الجسد المثالي والمتناغم الأجزاء.

وقد عكس الشعر الجاهلي في الكثير من نصوصه أشكال التضافر الخلاق بين الجغرافيا الصحراوية وجغرافيا الجسد، بما جعل من الثانية امتداداً الأولى، وإحدى تمثلاتها الحية التي تظهر في طرائق العيش وأنماطه، وفي البحث عن طريقة للتكيف مع البيئة القاسية والمفتقرة إلى الثبات. لذلك فإن مواصفات الصبر والجلد والقدرة على الاحتمال، لم تكن من الأمور التي ينبغي توفرها في الرجال وحدهم، أو في الأنعام بمفردها، بل كان مطلوباً من المرأة أيضاً أن تمتلك صفات مماثلة، تستطيع من خلالها أن تساعد الجماعة القبلية على مواجهة مخاطر العيش ومشقات الترحل وأهوال الحروب.

ولأن مثل هذه المهمات الصعبة لا تنهض بها إلا امرأة صلبة العود ومتينة الجسد، فقد بدا تفضيل الجاهليين للمرأة السمينة وتغزلهم بها، متصلاً بمعايير مركبة، يشكل الجمال البحت جزءاً منها، فيما يشكل العامل النفعي والوظيفي بعدها الآخر. وكان العرب يعتبرون أن «السُّمن نصف الحسن»، ويصفون السمينة بخرساء الأساور، لأن بدانتها تمتد إلى الرسغ فلا ترتطم إسوارة بالأخرى.

كما انتقلت عدوى التغزل بالمرأة السمينة إلى الشعر، فاعتبر طرفة بن العبد أن تعلقه بالحياة يجد مسوغاته في الارتباط بامرأة سمينة، يختلي بها في ظلمة «الخباء المعمد»، وتسهم في تقصير ليله المثقل بالوحشة والخوف. أما امرأة عمرو بن كلثوم فهي من الضخامة بحيث «يضيق الباب عنها». والملاحظ أن معظم المواد التعبيرية التي تم توظيفها للتغزل بجمال المرأة المعشوقة كانت منتزعة من العالم المشترك الذي يتضافر لإحيائه البشر والبهائم والطير ونباتات الصحراء. ومع أن ثمة وجوهاً عديدة للتقاطع بين البيئتين الحضرية والبدوية، من حيث الفضاء التخييلي، فإن النصوص التي قدمها الشعراء الحضريون، كانت أكثر جرأة في التركيز على التفاصيل المختلفة للجسد المشتهى.

لعل قصيدة «سقط النصيف» التي نظمها النابغة الذبياني في وصف المتجردة، زوجة النعمان بن المنذر، هي أحد أكثر النماذج الشعرية تعبيراً عن مواصفات الجمال في تلك الحقبة، فهي كالغصن الطويل تتأود من النعمة، وعيناها الشبيهتان بعيني الغزال جارحتا الألحاظ كالسهام، وشعرها أسود ومدلى كعناقيد العنب، وفمها بارد عذب، ونحرها الأملس مزين بقلائد الذهب. كما أنها «بضة الجسم، ريّا الروادف، وغير واسعة البطن».

على أن طغيان الطابع الحسي على النصوص الجاهلية المتعلقة بالحب والجمال لم يحل دون عثورنا على بعض اللقى الثمينة، التي تتقاطع في غرابتها وعمقها مع كشوفات علم النفس الحديث، كأن يعتبر الشنفرى أن الجمال في مآلاته القصوى، قد لا يتسبب بجنون عشاقه فحسب، بل بجنون حامله في الوقت ذاته، كما في قوله:

فدقّتْ وجلّتْ واسبكرّتْ وأكملتْ

فلو جُنَّ إنسانٌ من الحسن جُنّتِ

وإذا كانت معايير الجمال قد بدأت بالتبدل في العصرين الأموي والعباسي، بحيث باتت متصلة بالرشاقة وطول القوام، والتناسب أو التضاد بين أعضاء الجسد، كاستحسان ضمور الخصر واكتناز الأرداف، فقد كان ذلك التبدل من مفاعيل الحياة الجديدة والاجتماع المديني وتمازج الثقافات.

كما لم تعد معايير الجمال مقتصرة على المفاتن الظاهرة وحدها، بل كان يُراعى فيها الجاذبية وقوة الحضور والدماثة وخفة الظل، بحيث ميز العرب بين الجمال والملاحة والحسن والحلاوة والوسامة والبهاء وغيرها. وقد ذكر أبو الفرج في «الأغاني» أن كلاً من سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، وهما من جميلات العرب، كانت تدعي أنها أجمل من الأخرى، وحين احتكمتا إلى عمر بن أبي ربيعة ليبت في الأمر، نظر إليهما ملياً وقال: «أنت يا عائشة أجمل، وأما سكينة فأملح». وإذ عنى عمر بالملاحة الرقة وخفة الروح، فقد أرضى المرأتين في الوقت ذاته.

وإذا كان في القصيدة «اليتيمة» المنسوبة إلى دوقلة المنبجي، ما يتناول الجسد الأنثوي بالوصف المفصل، فلأنه لم يكن باستطاعة المنبجي، الذي لم يكن قد رأى دعداً، أميرته الموعودة، إلا أن يرسم من عندياته تفاصيل النموذج الجمالي المثالي، مستعيناً بالتصورات الأولى التي رسمها الشعراء الجاهليون في مخيلاتهم. ومن بين أبياتها قوله:

فكأنها وسْنى إذا نظرتْ أو مدْنفٌ لمّا يفقْ بعدُ

وتُجيلُ مسواكَ الأراك على ثغرٍ كأنّ رضابهُ الشهدُ

ولها بنانٌ لو أردتَ لهُ عِقْداً بكفكَ أمكن العقدُ

وبخصرها هَيَفٌ يحسّنها فإذا تنوء يكاد ينقدُّ

اللافت أن من سمُّوا بالشعراء الإباحيين في العصر الأموي، لم يعمدوا إلى تناول الجمال الأنثوي على نحو سافر ومتهتك، لا بل إن ما تغزلوا به من ملامح المرأة ومفاتنها لا يتجاوز إلا قليلاً نطاق عمل العذريين ومجالهم الجمالي الحيوي كوصف الثغر والعنق والعينين والشعر والخصر. وقد تكون الفوارق بين الفريقين متمثلة في إلحاح الإباحيين على نقل وقائع غزواتهم العاطفية بتفصيلاتها وحواراتها الساخنة، إضافة إلى تبرمهم بالعلاقة الواحدة وبحثهم عن الجمال في غير نموذج ومثال، وهو ما يعكسه قول عمر:

إني امرؤ موكلٌ بالحسن أتبعهُ

لا حظَّ لي فيه إلا لذة النظرِ

كان من الصعب على الجاهلي أن يبتكر للجمال نماذجه وتصاميمه العليا كما كان حال الحضارة اليونانية المدينية

الأرجح أن مناخات الحرمان والكبت وتعذر الامتلاك قد أسهمت في مضاعفة سلطة الجمال الأنثوي على العاشق العذري، بما جعل الأخير يترنح مصعوقاً تحت ضرباته القاصمة. وقد ورد في غير مصدر تراثي أنه «قيل لامرأة من بني عذرة: لماذا يقتلكم العشق؟ فأجابت: فينا جمال وتعفف، والجمال يحملنا على العفاف، والعفاف يورثنا رقة القلوب، والعشق يُفني آجالنا، وإنا نرى عيوناً لا ترونها».

ولعل تلك العيون بالذات هي التي استطاع العشاق أن ينفذوا من خلالها إلى ما وراء الملامح الظاهرة لمعشوقاتهن، وتزين لهن نوعاً من الجمال مطابقاً للنموذج المثالي الذي ابتكرته مخيلاتهم. وليس أدل على ذلك من سؤال عبد الملك بن مروان لبثينة حين قامت بزيارته: ما الذي رآه فيك جميل حتى أحبك؟ فأجابته قائلة: «يا أمير المؤمنين، لقد كان يراني بعينين ليستا في رأسك». ومع أن الحادثة المذكورة تُروى على غير وجه، فإن ذلك الأمر لا يلغي دلالتها المتلخصة بأن الجمال نسبي وحمال أوجه، وخاضع لذوق الرائي ومشاعره وتهيؤاته.

ومع ما أصابته الحقبة العباسية من تطورات دراماتيكية على مستويات الثقافة والفكر والاجتماع، فقد بدأت الرؤية إلى الجمال تتعدى المتعة والانتشاء الحسي، لتتحول إلى أسئلة فلسفية معقدة تتصل بطبيعة الجمال ومصدره وأسباب سطوته على «ضحاياه». وهو ما يجد شاهده الأمثل في حيرة ابن الرومي إزاء جمال وحيد المغنية، وقوله متسائلاً:

أهي شيءٌ لا تسأم العين منه

أم لها كل ساعةٍ تجديدُ؟

أما أبو الطيب المتنبي فقد بدا لبيته الشهير في وصف امرأته المعشوقة (تناهى سكون الحسن في حركاتها/ فليس لرائي وجهها، لم يمت، عذرُ»، نوعاً من التوأمة الفريدة بين الحيّزين الشعري والفلسفي، حيث الحركات المتناغمة للجسد تصل بالجمال إلى سكونه المطلق، والمقيم على التخوم الفاصلة بين الحياة والموت. وإذ رأى أبو الطيب أن في الأعمار القصيرة للبشر الفانين، ما يوجب اغتنام الحياة كفرصة ثمينة للتمتع بجمال الوجود والوجوه، هتف بحبيبته، الممعنة في جمالها ونأيها على حد سواء:

زوّدينا من حسْن وجهكِ

ما دام فحسْنُ الوجوه حالٌ يحولُ

وصِلينا نصلْكِ في هذه الدنيا

فإنّ المقام فيها قليلُ


3 شواهد قبور من مدافن البحرين الأثرية

ثلاثة شواهد منحوتة محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة
ثلاثة شواهد منحوتة محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة
TT

3 شواهد قبور من مدافن البحرين الأثرية

ثلاثة شواهد منحوتة محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة
ثلاثة شواهد منحوتة محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة

خرجت من مقابر البحرين الأثرية خلال السنوات الأخيرة مجموعة كبيرة من الأنصاب، تتميّز بنقوش تصويرية آدمية. لا نجد ما يماثل هذه الأنصاب في حواضر سواحل الخليج العربي إلى يومنا هذا، ويرى البحاثة أنها رُفعت في الأصل كشواهد للقبور التي رافقتها. بدأ اكتشاف هذه الشواهد في منتصف القرن الماضي، ومنها 3 قطع عُثر عليها في مواقع معزولة، دخلت متحف البحرين الوطني بالمنامة، ضمن مجموعة من المكتشفات التي تمّ العثور عليها خلال الفترة الممتدة من عام 1954 إلى عام 1974.

اختلفت الآراء في تصنيف هذه القطع كما في تحديد هويّتها ووظيفتها خلال تلك الفترة، غير أن الصورة اتّضحت بشكل كبير في مرحلة لاحقة، نتيجة ظهور عدد كبير من القطع المشابهة في سلسلة من المقابر الأثرية تقع اليوم في المحافظة الشمالية، كشفت عنها أعمال المسح والتنقيب المتواصلة في حقبة التسعينات. تحضر هذه القطع الثلاث في كتاب من إعداد مجموعة من البحاثة، صدر في عام 1989، وجاء على شكل كتالوغ حوى مجموعة مختارة من مجموعة محفوظات متحف البحرين الوطني، تعود إلى الحقب التي سبقت ظهور الإسلام. افترض البحاثة يومها أن هذه الأنصاب الآدمية قد تكون مسيحية، ورأوا أنها نُقشت بين القرنين الخامس والسادس للميلاد. ويتّضح في زمننا أن هذه الأنصاب هي شواهد قبور لا تمتّ إلى المسيحية بأي صلة، وهي من نتاج الحقبة التي عُرفت بها البحرين باسم تايلوس، وقد تمّ نقشها بين القرنين الأول والثالث للميلاد.

تتفاوت هذه القطع في الحجم، وهي من الحجر الجيري، وأكبرها قطعة يبلغ طولها 41 سنتيمتراً، وعرضها 23.5 سنتيمتراً، وسماكتها 11 سنتيمتراً، وتمثّل قامة تنتصب بين عمودين يعلوهما قوس. العمودان مجردان من الزينة، ويكلّل كلّاً منهما تاج زُيّن بنقش على شكل حرف «إكس». أما القوس، فتعلوه 3 حزوز متوازية تأخذ شكل 3 أقواس ناتئة، يفصل بين كلّ منها شقّ غائر. وسط هذه المشكاة المتواضعة، تقف قامة آدمية تتبع في بنيتها تكويناً يبتعد عن محاكاة المثال الواقعي الحي. الرأس ضخم للغاية، والكتفان صغيرتان، والجسد قصير، وهو مكوّن من الصدر وأعلى الساقين فحسب. اللباس بسيط، قوامه معطف يلتفّ فوق رداء، وفقاً للزي اليوناني التقليدي. الوجه أنثوي، ويعلوه شريط يغلف الشعر على شكل حجاب. العينان لوزتان كبيرتان، فارغتان، وتخلوان من البؤبؤ. الأنف قصير، وهو على شكل عمود مستطيل بسيط ناتئ. الثغر منمنم، ويتّسم بشق أفقي يفصل بين شفتيه الذائبتين في كتلة الحجر الجيري.

تحجب ثنايا المعطف هذه القامة، وتنسدل بشكل متناسق من الأعلى إلى الأسفل. تنسلّ اليد اليمنى من خلف هذا الرداء، وترتفع كفّها المنبسطة نحو أعلى الصدر، وتظهر أصابعها الخمس المرصوصة والمتلاصقة. في حركة موازية، تخرج اليد اليسرى، وتبدو أصابعها قابضة على حزمة تشكّل كما يبدو طرف المعطف الأيسر. تتتبع هذه الحركة في الواقع تقليداً ثابتاً، يتكرّر في عدد كبير من القامات الأنثوية التي خرجت من مدافن تايلوس الأثرية التي عُرفت بأسماء القرى المجاورة لها، وأبرزها الشاخورة، وأبو صيبع، والحجر.

يظهر هذا التأليف على قطعة أخرى من هذه القطع الثلاث، مع اختلاف جليّ في التفاصيل. يبلغ طول هذا الشاهد 32 سنتيمتراً، وعرضه 21 سنتيمتراً، وسمكه 9 سنتيمترات. وهو على شكل كوّة نصف بيضاوية يحدّها في الأسفل شريط عريض يشكّل جزءاً من إطارها المجرّد من أي نقش تزييني. تقف قامة وسط هذا المحراب في وضعية المواجهة الثابتة، باسطة كفّها اليمنى أمام أعلى صدرها، ممسكة بقبضة يدها اليسرى طرف ردائها. نتوء هذه القامة طفيف، وصورتها أشبه برسم منقوش غابت عنه خصائص النحت البارز. يأخذ هذا الرداء شكل عباءة تلتف حول الهامة، وتتكوّن ثناياه من أربع مساحات مستطيلة متوازية، تقابلها ثلاث مساحات عمودية أصغر حجماً تزيّن طرف العباءة الأيسر. الوجه مهشّم للأسف، وما بقي منه لا يسمح بتحديد ملامحه. حافظت اليدان على تكوينهما بشكل كامل، وأصابعهما محدّدة وفقاً للأسلوب التحويري المتّبع.

نصل إلى القطعة الثالثة، هي أجمل هذه القطع من حيث التنفيذ المتقن، وتتميّز برهافة كبيرة في النقش والصقل. يبلغ طول هذا الشاهد 24 سنتيمتراً، وعرضه 10 سنتيمترات، وسماكته 7 سنتيمترات، يحدّه عمودان يعلوهما القوس التقليدي. يزيّن هذا القوس شق في الوسط، ويزيّن كلاً من العمودين مكعّب محدّد بشريطين يشكّل تاجاً له، ويقابل هذا التاج مكعّب مماثل يشكّل قاعدة لهذا العمود. تحتل القامة وسط هذا المحراب، وتمثّل شاباً فتياً أمرد يحضر كذلك في وضعية المواجهة. الرأس كتلة بيضاوية، وملامح وجهه واضحة. العينان لوزيتان مجرّدتان، يعلوهما حاجبان عريضان مقوّسان. الأنف ناتئ ومستقيم، وهيكله على شكل مساحة مستطيلة مجرّدة غابت عنها فتحتَا المَنْخِر. الأذنان ضخمتان، وقوام كل منهما صيوان عريض يلتف حول جوف القناة. الخدان مكتنزان، الذقن مقوّس، والجبين قصير، يعلوه شعر حدّدت خصلاته على شكل فصوص مستطيلة مرصوصة. الذراعان ملتصقتان بالصدر، واللباس بسيط، قوامه جلباب بسيط، يعلوه حزام عريض ينعقد حول الوسط على شكل شريط أفقي عريض يتدلّى منه شريطان عموديّان متوازيان، يشكّلان طرفي الحزام المعقود.

يقف هذا الفتى محدّقاً في الأفق، باسطاً راحة يده اليمنى عند أعلى صدره، قابضاً بيده اليسرى على شريط عريض يتدلّى من أعلى كتفه إلى وسطه، وفقاً لنموذج تقليدي يُعرف بالفرثي، نسبة إلى الإمبراطورية الفرثية التي امتدت من الروافد الشمالية للفرات إلى شرق إيران، وتميّزت بنتاجها الفني الذي جمع بين أساليب متعددة في قالب خاص، انتشر انتشاراً واسعاً في القرون الميلادية الأولى. بلغ هذا الأسلوب تايلوس، وطبع هذا الفن الجنائزي، كما تشهد هذه القطع الثلاث التي تمثّل اليوم نتاجاً واسعاً، يتواصل ظهور شواهده مع استمرار حملات المسح في المواقع الأثرية التي خرجت منها.