وسيم قزق مستعيداً تفاصيل «أبو الوليد» و«ياسر ترجمله»

لقاؤه الصحافي الأول يجريه مع «الشرق الأوسط»

 نهاية «أبو الوليد» في الجزء الأخير من «الهيبة»
نهاية «أبو الوليد» في الجزء الأخير من «الهيبة»
TT

وسيم قزق مستعيداً تفاصيل «أبو الوليد» و«ياسر ترجمله»

 نهاية «أبو الوليد» في الجزء الأخير من «الهيبة»
نهاية «أبو الوليد» في الجزء الأخير من «الهيبة»

تذكرون «أبو الوليد»، الشخصية الجدلية في «الهيبة»؟ من تابع، لا بد أنه توقف أمام «الكراكتير» المُتقن بأدائه، الصاخب بحضوره. لابسُ الدور، شاب من سوريا هو وسيم قزق، موهوب، قلق حيال التفاصيل، ومُحمّل بهاجس تقديم الأفضل. مرّ وقت على طلب اللقاء، فأرجأته انشغالاته. هو مدرّب ممثلين ومعدّ ورش عمل درامية، بجانب عمله التمثيلي في التلفزيون والمسرح. مقلّ في حوارات الصحافة، لاعتباره أنّ المهنية تفرض على الفنان مراجعة الأفكار قبل مشاركتها. يخبر «الشرق الأوسط» في أول لقاء صحافي مطوّل، عن علاقته بشخصية منافقة هي «أبو الوليد»، وكيف غيّر شكله ليشبهها وليكون ذلك «الداعشي» الكريه، بشرّه وشعره الطويل ومشيته ونظراته.
وسيم قزق من عائلة فنية تعود أصولها إلى مدينة اللاذقية، تخرّج في المعهد العالي للفنون المسرحية عام 2008. عمّه النجم فايز قزق ووالده محمد قزق، مصمم ديكور مسرحي، لا يزال يعمل على الخشبة منذ الثمانينات. لا مفر من احتضان الموهبة والعناية بها، فالبيئة الفنية مساعدة، وأجواء البيت.
خلال التصوير، سأله مخرج «الهيبة» سامر البرقاوي أداء شخصية «أبو الوليد»، فقرأ الدور ووجد فيه مساحة يستطيع التحرك في داخلها بحرية. لفتته قوته وراح يرسم تفاصيله في رأسه. وكانا تعاونا معاً في عملية «الكاستينغ» لاختيار الأدوار الجديدة للموسم الأخير. حسم أمره مع «أبو الوليد»، وبدأ الجد: «باشرتُ إيجاد مفاتيحه وإتقان اللهجة التي يتحدثها. ناقشتُ التفاصيل مع المخرج وتوصلنا إلى الصيغة النهائية. هوّنتِ المتعة ضغط العمل بين الكتابة والتدريب والتمثيل، فاستمتعتُ بكل مشهد».
نخبره أنّ لهجته العراقية لافتة، ونسأله كيف أجادها؟ فيجيب: «أتقنتها بالخضوع لجلسات تدريب. لهجة غنية وصعبة، لكن مصير المرء الوقوع في حبها». نعود إلى الفارق في الشكل بين الممثل والدور، لطرح سؤال عن النظرة إلى الشخصية، وإلى أي مدى يمكن للممثل (والممثلة) التخلّي عن الشكل تماماً من أجلها؟
وسيم قزق ابن المسرح. منه يتعلم أنّ شكل الممثل ينبغي ألا يتطابق بالضرورة مع شكل الشخصية. والأجدى أن يعدّل في شكله خدمة لشكلها. هذا ما فعله مع «أبو الوليد»، بزيّه «الداعشي» الأسود ولحيته المتأرجحة بين البياض والسواد: «أبحثُ عن أدوار مختلفة عني. فإضافة إلى سلوك (أبو الوليد) المختلف عن سلوكي، ورغباته وأهدافه التي لا تلتقي مع رغباتي وأهدافي، كان لا بد من فارق بين شكلي وشكله». ماذا لو ذهبت الشخصية لممثل آخر، أكانت لتُحدث الصخب ذاته؟ لا يملك إجابة على هذا الافتراض، فيكتفي بالرد: «أظن أنّ الأداء سيكون مختلفاً، فكل ممثل يؤدي الدور بطريقته».
تفانى تجاه الشخصية، أعتني بجوهرها وأفكارها التي لا تتوافق وأفكاره. تنبّه إلى سلوكها وردود أفعالها، وأتقن ما يسميه «مبدأ معايشة الدور»، وهو يتطلب بحثاً كاملاً واقتناعاً بالتخلي عن حقيقة الممثل من أجل حقيقة الشخصية. يذكر ممثلين خسروا كيلوغرامات أو زادوا أوزانهم لمطابقة الدور، وبرأيه، شطارة الممثل في ابتعاده عن نفسه ومنح الدور «بني آدمية»، فيكون قابلاً للتصديق.
لمع في «الهيبة» بشخصية «أبو الوليد» أمام الكاميرا، وبالمشاركة في الكتابة والتدريب. وجّه المخرج الممثلين، وتسلّم قزق متابعة بعض الأدوار خلال التصوير، حالتها النفسية، وظروف الشخصية. وهو في المسلسل منذ جزئه الرابع، يدرّب، يكتب ويوجّه، إلى انشغالاته في التدريس بالمعهد العالي وتنظيم ورش عمل مسرحية والتدريب على فن التمثيل، مراكماً خبرة في فهم طبيعة الممثل وصقله. يستمد موهبة الكتابة من المسرح، فقد خاض تجارب ارتجال على الخشبة وكتابة نصوص، إلا أنّه للمشاركة في ورشة عمل كتابة «الهيبة»، أعاد مشاهدة الأجزاء بتفاصيلها وتعمق في فهم الشخصيات، فقدّم اقتراحاته تحت إشراف المخرج.
لا يخفي أنّ شخصية «أبو الوليد» أثقلته، لكن ماذا عن الخوف؟ أسببته لكَ، وهل رافقتك طويلاً بعد نهاية المسلسل؟ بالنسبة إليه، على الممثل الفصل: «في الحياة أكون وسيم، وأمام الكاميرا (أبو الوليد). نهاية المسلسل هي نهاية الشخصية. الخوف الذي سببته لي كان مختلفاً أيضاً، فهو أقرب إلى التوتّر والحرص على تقديم أفضل نسخة عن الدور».
نختم مع أكثر العبارات «ترند» في الفترة الأخيرة: «ياسر ترجمله»! نخبر قزق أننا في لبنان أسقطناها دعابة على مآسينا، ونسأله إن توقّع النجاح إلى هذا الحد؟ أراحه إعجاب الناس بأدائه بعد مخاوف باغتته خلال التصوير، فقد توقّع نجاح «أبو الوليد»، لكن لحدود منطقية، خصوصاً أنّ الكراكتير «داعشي»، لا رأفة في قلبه. يسعده أنّ أداءه جعل الشخصية قريبة من الناس، ويذكر فضل البرقاوي في مراقبة الشخصية وسلوكها، وإحاطة الممثلين بالأمان، وبالاتفاق معه، تكرّست عبارة «ياسر ترجمله»، بأكثر من مشهد، بعدما كانت مكتوبة لمشهد واحد: «طرافتها خففت شيئاً من عبء قسوتها. شعرتُ بإتمام مهمتي حين منحتُ الدور لحماً ودماً فلم أقدّمه ببرودة منفّرة. كم أضحكتني (ياسر ترجمله) على وصفات الأطباء وامتحانات بعض الطلاب وصعوبة فهم التقلبات في المنطقة العربية!». وأضحكنا أيضاً. النجاح هو الأثر.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)