المعارك حول «الخط العربي»... جمر تحت رماد

«اليونيسكو» أدرجته في قائمة التراث الثقافي غير المادي

معرض للخط العربي في الشارقة
معرض للخط العربي في الشارقة
TT

المعارك حول «الخط العربي»... جمر تحت رماد

معرض للخط العربي في الشارقة
معرض للخط العربي في الشارقة

شاءت الصدفة أن يتزامن إعلان منظمة «اليونيسكو» عن إدراج «الخط العربي» في قائمة التراث الثقافي غير المادي، مع فعاليات «مهرجان الفنون الإسلامية» في الشارقة في دورته الرابعة والعشرين، والذي يخصص سنوياً، جانباً مهماً من فعالياته لفن الخط، فيقيم المعارض والورشات والمحاضرات.
والباحث عن فن الخط العربي ومساره، يكتشف أن الأمر أعقد مما يبدو ظاهرياً، سواء لناحية التأريخ للأصول أو تتبع مراحل التطور، أو حتى ما وصل إليه اليوم، بحيث أصبح فتنة للمصممين، وموضع قلق للخطاطين العرب، الذين يعتبرون أن مهماتهم لا تتوقف عند التخطيط والابتكار وصون القواعد والأصول، بل تتعداها إلى الحفاظ على الهوية الحضارية؛ إذ يجمع الخطاطون على أن الخط هو أحد أبرز مفردات الحضارة العربية - الإسلامية، وبواسطته انتقلت إلينا الأخبار والأحداث والمعلومات التي نستند إليها لرواية تاريخنا.
لهذا حذر الخطاط والباحث الإماراتي خالد علي الجلاف خلال محاضرة ألقاها ضمن «مهرجان الفنون الإسلامية» في ديسمبر (كانون الأول) الماضي في الشارقة، من التهاون أو التراخي العربي، قائلاً: «أكثر ما يزعجني أن دولاً غير عربية مثل تركيا تدعي أن هذا الفن هو فنها، فقد طلبت تركيا من اليونيسكو أن يكون هذا الخط باسمها، وإيران طلبت أن يسمى أيضاً باسمها. إنما هو خط عربي اشتهر وازدهر في العراق في العصر العباسي، بعد سقوط بغداد وأخذوه وطوروه في تركيا وفارس بعد ذلك، ولا ننكر لهم ذلك، أما أن يدعوا أنه تركي أو فارسي، فلا أعتقد هذا، ولا ينبغي أن نسمح لهم بذلك. الآن نحن في حرب لنثبت أن هذا الخط عربي».
والحقيقة أن الخلاف كان قد دب بين تركيا وإيران حول تسجيل الخط العربي في اليونيسكو، كل منهما تريد أن تدمغه باسمها. وطلبت تركيا في ملفها الوطني الذي قدمته إلى اليونيسكو، أن يدرج على لائحة التراث الثقافي غير المادي تحت مسمى «الخط التقليدي في الفن الإسلامي في تركيا»، لكن نهاية عام 2020 أرسلت إيران اعتراضاً رسمياً إلى منظمة اليونيسكو على اقتراح تركيا بتسجيل ملف «الخط الإسلامي» في اجتماع هذه المنظمة لعام 2021، وقال محمد حسن طالبيان، نائب وزير التراث الثقافي الإيراني، أن «صفة الإسلامي لا يمكن أن تقتصر على تركيا، بغض النظر عن حقيقة أن أصل الخط الإسلامي يجب البحث عنه في إيران».
ولحسن الحظ، أنه وبمبادرة سعودية وبمشاركة ودعم 15 دولة عربية أخرى، هي الكويت والإمارات والبحرين وسلطنة عمان ومصر والعراق والأردن وموريتانيا والمغرب وفلسطين والسودان وتونس واليمن ولبنان والجزائر، كانت قد قدمت ملفاً، للهيئة الأممية مطالبة بدخول الخط - الذي أصبحت تسميته موضع نزاع - على قائمة التراث الثقافي غير المادي، تحت مسمى «الخط العربي».
وبينما يدعي الأتراك والإيرانيون، كل من جانبه، أنهم هم من أعطوا الخط العربي بعده الفني وبالتالي فالانتماء الإسلامي أولى به، يرى العرب أن العراق في العصر العباسي، كان الحاضنة التي أسست لهذا الفن، وكتب ابن خلدون في مقدمته «اختط بنو العباس بغداد، وترقت الخطوط فيها إلى الغاية، لما استبحرت في العمران وكانت دار الإسلام، ومركز الدولة الإسلامية، وخالفت أوضاع الخط ببغداد أوضاعه في الكوفة، في الميل إلى إجادة الرسوم وجمال الرونق وحسن الرواء. استحكمت هذه المخالفة في الأمصار إلى أن رفع رايتها في بغداد أبو علي بن مقلة الوزير ثم تلاه في ذلك علي بن هلال المشهور بابن البواب وياقوت المستعصمي، وتغيرت رسوم الخط البغدادي وأوضاعه عن الكوفة حتى انتهت إلى المباينة».
ولم يكن فوز العرب في معركتهم في اليونيسكو بديهياً، بحسب ما كتب المستشار العلمي للملف الفنان المصري محمد بغدادي «كانت هناك عقبات عديدة أهمها ضيق الوقت. وغياب قاعدة بيانات وافية عن الخط العربي في معظم الدول العربية، لاستكمال قوائم الحصر وتسجيل شهادات الممارسين، وإبراز مهارات وأدوات عنصر الخط العربي»، لكن ما حصل بعد ذلك أن التعاون كان كبيراً، والنشاط حثيث بين الهيئات المعنية بالخط والقيمين على تجويد الملف المقدم لليونيسكو، ما أسهم في تقديم أدلة محكمة ومقنعة، انتهت إلى تسجيل الحروف والخطوط المعتمدة في دولنا على أنها عربية. ويبدو أن المشكلة تتجاوز اعتبار الخط «عربياً»، أو «إسلامياً» جامعاً، إلى تفرد دولة إسلامية (هي هنا تركيا أو إيران) أكثر من غيرها أحقية نسبته إليها، لأنها هي من طورته وصنعت مجده الفني.
ما حدث في اليونيسكو ليس سوى جولة في مسار طويل ومستمر، فالخطاطون الذين يعرضون في الشارقة، حتى الثالث والعشرين من الشهر الحالي، يتحدثون عن تحديات كثيرة، ومعارك ثقافية، على أكثر من جبهة. هناك مخاوف من الانتهاكات التي يتعرض لها الخط العربي، من قبل مصممين وصناعيين، أو نساجين وغيرهم، بعد أن شاع استخدام الحروف العربية في الغرب. ويقول أستاذ الخط، الفنان السوري جلال المحارب، الذي يقدم معرضاً ضمن المهرجان تحت عنوان «تجليات» يغلب عليه الطابع الصوفي، وتتوزع أعماله بين الكلاسيكية، والفنية الابتكارية، إن لديه قلقاً من الطريقة التي يتم التعاطي بها مع الخط العربي أحياناً، من قبل غير متخصصين، أو فنانين غربيين. «إن الفنان المسلم هو الأعرف بفن الخط، والأقدر على التعاطي معه. ما قام على قاعدة أكاديمية، يجب أن ينتج عملاً مضبوطاً. مثلاً، حرف الألف في خط الثلث مكون من ثماني نقاط، يمكننا لأسباب فنية أن نتخلى عن هذه القاعدة، وأن نكتبه بخمس نقط شرط أن نحتفظ برأسه وصدره وعجزه. علي كفنان ألا أشوه الحرف». وحين نسأل: هل تعتقد أن الغربيين يعملون بلا ضوابط؟ يجيب «بالطبع، نحن لسنا ضد أن يدخل الفن العربي، إلى كل الفنون، لكن هناك قدسية، يجب أن تحترم، ونحن كخطاطين لا نوافق أن يكون الخط العربي ممتهناً في أماكن تنزل من قيمته، كأن يكون على الأحذية، أو على السجاد فيداس عليه. حين تكون ثمة كتابات على السجادة، يفترض أن تعلق على الحائط».
لا ينكر جلال المحارب، أن ثمة أعمالاً فنية لافتة لفنانين غربيين استوحوا الخط العربي، لكنه يعتقد أن هناك فرقاً بين التنازل عن بعض القواعد، والتنازل عن جمالية الحرف، وهذا ما لا يجب التساهل به.
«الخط آسر بحركاته وبتشكيلاته. وهو الأكثر حظوة في الدخول إلى التطور والحداثة. فمن جماليات الحرف العربي قدرته على التصوير والتماهي والتمايز مع أي فن من الفنون، لكن شرط الحفاظ على صفاء حواف الحروف ووضوحها وألا تترك متلاشية، حتى إن دخلت واقع التشكيل».
يعدنا المحارب بصولات وجولات، للخط العربي في السنوات المقبلة، فقد دخل الفن المعماري الحديث، وأصبح جزءاً من عالم الملابس والديكورات، وشتى أنواع التصاميم، معبراً أن الخط العربي يعيش «عصره الذهبي».
لكن عبد المجيد محبوب المدير التنفيذي للجمعية السعودية للمحافظة على التراث، يرى الأمر، من زاوية أخرى، وبعين أقل تفاؤلاً لأن «الكثير من الناس ما عادوا يكتبون باليد بفعل التطور التكنولوجي»، وتم «تسجيل تراجع كبير في عدد الخطاطين المتخصصين». لهذا أمل محبوب أن يسهم إدراج الخط العربي ضمن قائمة اليونيسكو للتراث غير المادي في توعية العرب بهذه المشكلة ويكون له «الأثر الإيجابي للحفاظ على هذا الفن».



أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري
TT

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً. وسواء كانت الحروب عبر التاريخ تُشن بفعل الصراعات الإثنية والدينية والآيديولوجية والرغبة بالسيطرة والاستحواذ، أو اتخذت شكل الدفاع عن الحرية والمقاومة ضد الاحتلال، فإن نتائجها الوخيمة لم تقتصر على دمار المنازل والمباني والمعالم المادية للعيش، بل تعدت ذلك لتصيب الدواخل الإنسانية بالتصدع، ولتحدث انهياراً كاملاً في نظام القيم وقواعد السلوك، ولتضع علاقة الإنسان بنفسه وبالآخر في مهب الشكوك والتساؤلات.

همنغواي

على أن من المفارقات اللافتة أن تكون الحروب الضارية التي أصابت الاجتماع الإنساني بأكثر الكوارث فظاعةً وهولاً، هي نفسها التي أمدت الفلسفة والفكر والفن بالأسئلة الأكثر عمقاً عن طبيعة النفس البشرية، ودوافع الخير والشر، ونُظُم الاجتماع الأمثل، فضلاً عن دورها المهم في تغيير الحساسيات الأدبية والفنية، ودفعها باتجاه الحداثة والتجدد. وإذا كان السؤال حول الآثار التي تخلفها الحروب في مجالي الأدب والفن هو من بين الأسئلة التي لم يمل النقاد والمهتمون عن طرحها مع كل حرب جديدة، فإن الإشكالية التي يتم طرحها باستمرار تتعلق بدور الكتاب والمثقفين في زمن الحرب، وعما إذا كان هذا الدور يقتصر على إنتاج النصوص والأعمال الإبداعية، أم أن على الكتاب والفنانين أن يدافعوا بحكم انتمائهم الوطني والقومي والإنساني عن قضايا شعوبهم بشتى السبل والوسائل الممكنة.

وإذا كان هذا النوع من الأسئلة لا يجد له إجابات قاطعة، لأن كل شخص يرى من وجوه الحقيقة ما يلائم مواقفه وتوجهاته، فقد تمكّننا العودة إلى التاريخ من استجلاء بعض الحقائق المتعلقة بمواقف الشعراء والمبدعين من الحروب والنزاعات الأهلية، وبما قاموا به، خارج النصوص والأعمال الفنية، من أدوار وإسهامات. ولعل أول ما يحضرني في هذا السياق هو التجربة الرائدة للشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، خلال الحرب الدامية التي نشبت بين قبيلتي عبس وذبيان، التي عرفت عبر التاريخ بحرب داحس والغبراء. فقد حرص زهير على وصف الحرب بما يليق بها من نعوت، محذراً من نتائجها الكارثية عبر أبياته المعروفة:

وما الحرب إلا ما علمتمْ وذقتمُ

وما هو عنها بالحديث المرَجَّمِ

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً

تضْرَ إذا ضرَّيْتموها فتضرمِ

فتعرككمْ عرْك الرحى بثفالها

وتَلْقحْ كشافاً ثم تُنتجْ فتتئمِ

إلا أن زهيراً الذي رسم في معلقته إحدى أكثر اللوحات الفنية دلالة على فظاعة الحروب وهولها الكارثي، رأى أن من واجبه كإنسان وكفرد في جماعة، أن يحرض على نبذ العنف، ويدعو إلى تحرير النفوس من الأحقاد والضغائن. وهو إذ راح يمتدح كلاً من داعيتي الصلح، الحارث بن عوف وهرم بن سنان، فلم يفعل ذلك تملقاً أو طلباً للثروة والجاه، بل فعله انتصاراً لمواقفهما الأخلاقية النبيلة، ولما قدماه من تضحيات جسام بهدف إطفاء جذوة الحرب، وإحلال السلام بين المتنازعين.

تولستوي

ومع أن الحروب بأشكالها المختلفة قد شكلت الظهير الأهم للكثير من الأعمال الملحمية والروائية، فإن قيمة العمل المتولد عنها لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية في المعارك والمواجهات، بل موهبته العالية وتفاعله مع الحدث، وكيفية الانتقال به من خانة التوصيف السطحي والتسجيلي إلى خانة الدلالات الأكثر عمقاً للعدالة والحرية والصراع بين الخير والشر، وصولاً إلى الوجود الإنساني نفسه.

وإذا كان تاريخ الأدب بشقيه القديم والحديث حافلاً بالبراهين والأدلة التي تضيق الهوة بين الخيارين المتباينين، فيكفي أن نعود إلى هوميروس، الذي لم تحل إصابته بالعمى وعجزه عن المشاركة في الحروب، دون كتابته لملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسة»، تحفتي الأدب الخالدتين. كما يمكن الاستدلال بتولستوي الذي لم تكن رائعته الروائية «الحرب والسلم» ثمرة مشاركته المباشرة في حرب نابليون على روسيا القيصرية، وهو الذي لم يكن أثناءها قد ولد بعد، بل ثمرة تفاعله الوجداني مع معاناة شعبه، ورؤيته النافذة إلى ما يحكم العلاقات الإنسانية من شروخ وتباينات. ومع أنه لم يجد بداً من الانخراط في الجندية في وقت لاحق، فإنه ما لبث أن تحول إلى داعية للمحبة ونبذ العنف، وتحقيق السلام بين البشر.

أما الجانب الآخر من الخيارات فتمثله تجارب كثيرة مغايرة، بينها تجربة الكاتب الأميركي آرنست همنغواي الذي قدم عبر حياته الحافلة، النموذج الأكثر سطوعاً عن العلاقة بين الكتابة والحياة، وهو الذي لم يكتف بوصف الحرب عن بعد، كما فعل كتاب كثيرون، بل عمد إلى الالتحام المباشر بميادينها المحفوفة بالمخاطر، الأمر الذي وفرته له مهنته كمراسل حربي للصحف التي عمل فيها. والواقع أن فائض القوة العضلي لهمنغواي، والتزامه الوطني والإنساني، لم يكونا الدافعين الوحيدين لمشاركته في الحروب التي خاضها، بل كان دافعه الأساسي متمثلاً في البحث عن أرض ملموسة لكتابة رواياته وقصصه المختلفة. وإذا كان انخراط الكاتب الفعال في الحرب العالمية الأولى هو الذي يقف وراء تجربته الروائية المبكرة «وداعاً أيها السلاح»، فإن مشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية دفاعاً عن الجمهوريين، وجنباً إلى جنب مع كتاب العالم الكبار، هي التي ألهمته رائعته الروائية اللاحقة «لمن تُقرع الأجراس».

وفي السياق نفسه يمكن لنا أن نضع تجربة الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري، الذي دفعه شغفه البالغ بالطيران إلى الالتحاق بقوات بلاده الجوية، ولم يثنه تحطم طائرته في إحدى الطلعات، عن الإمعان في مغامرة التحليق وصولاً إلى نهايته المأساوية عام 1944. غير أن ذلك التحليق بالذات هو الذي أتاح لسانت إكزوبيري أن يرسم عبر «الأمير الصغير» صورة لكوكب الأرض، بعيدة عن العنف ومترعة بالنقاء الطفولي.

قيمة العمل المتولد عن الحروب لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية فيها

ثمة بالطبع شواهد كثيرة، لا تتسع لها هذه المقالة، على الخيارات المتباينة التي اتخذها الكتاب والفنانون في أزمنة الحروب، والتي يتجدد السجال حولها مع كل حرب تقع، أو كل مواجهة تخوضها الشعوب مع غزاتها المحتلين. وإذا كان بعض المبدعين لا يرون علة لوجودهم سوى الإبداع، ولا يجدون ما يقدمونه لأوطانهم في لحظات محنتها، سوى القصيدة أو المعزوفة أو اللوحة أو سواها من ضروب التعبير، فإن بعضهم الآخر يرسمون لأنفسهم أدواراً مختلفة، تتراوح بين الدفاع عن الأرض، لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وبين التظاهر وإصدار البيانات المنددة بارتكابات الاحتلال ومجازره وفظاعاته، وصولاً إلى إسهام الكاتب الشخصي في التخفيف من معاناة شعبه، ورفده بأسباب المقاومة والصمود.

على أن أي حديث عن دور الكتاب والفنانين في زمن الحرب، لن يكون له أن يستقيم، دون الإشارة إلى عشرات الإعلاميين والمصورين والمراسلين في فلسطين ولبنان، الذين أسهمت تقاريرهم الميدانية الجريئة في إظهار الطبيعة الوحشية للاحتلال، وفي فضح ادعاءاته الزائفة عن الالتزام بقواعد الحرب الأخلاقية والإنسانية. وإذا كان من المتعذر تماماً استعادة أسماء الإعلاميين والمراسلين الكثر، الذين أصروا على المواءمة بين الواجبين المهني والإنساني، حتى لو كانت حياتهم نفسها هي الثمن، فيكفي في هذا السياق أن نتذكر الكاتبة والإعلامية اللبنانية نجلاء أبو جهجه، التي قامت بالتقاط صور مختلفة لجثث الأطفال المدلاة من سيارة إسعاف بلدة «المنصوري»، أثناء الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني عام 1996، فيما حرصت في الوقت ذاته على مد يد العون للجرحى المتبقين منهم على قيد الحياة. وفيما غادرت نجلاء هذا العالم، وقد أنهكها مرض عضال، قبل أيام معدودة، لن تكف العيون المطفأة للأطفال، عن ملازمة صوَرها المؤثرة، وتجديد عقدها مع الضوء، وتوزيع نظرات اتهامها الغاضبة بين عدالة العالم المفقودة ووجوه الجلادين.