سلمان ناطور يجسد بنفسه «ذاكرته» على خشبة المسرح

كاتب فلسطيني يمثل أبطال أعماله وينقل إلى جمهوره حكاياتهم

الكاتب والروائي سلمان ناطور في مشهد من «ذاكرة»
الكاتب والروائي سلمان ناطور في مشهد من «ذاكرة»
TT

سلمان ناطور يجسد بنفسه «ذاكرته» على خشبة المسرح

الكاتب والروائي سلمان ناطور في مشهد من «ذاكرة»
الكاتب والروائي سلمان ناطور في مشهد من «ذاكرة»

تجري في هذه الأيام، مراجعات مكثفة على الإنتاج المسرحي الجديد لمسرح مؤسسة «الأفق للثقافة والفنون» في حيفا، وهو مسرحية «ذاكرة» للكاتب سلمان ناطور، التي أعدت من جديد لتتصدر ثلاثيته الممسرحة: «رحلة الصحراء»، «ذاكرة»، «سفر على سفر» و«يوميات حرب ما»، حيث يقوم ناطور بنفسه بتقديم نصوصه على المسرح.
ويعتبر هذا العمل خطوة فنية أدبية جديدة وفريدة في نوعها، إذ يقدم الكاتب إبداعه الأدبي على خشبة المسرح من دون وسيط، في مونودراما من المقرر تقديم العرض الافتتاحي لها في نهاية الشهر الحالي.
يقوم بإخراج مونودراما «ذاكرة»، الفنان أديب جهشان، المخرج المسرحي العريق وصاحب التجربة الغنية، وأحد مؤسسي المسرح الفلسطيني في الداخل الفلسطيني المحتل بعد النكبة، ووضع الموسيقى الفنان إلياس غرزوزي، والخلفية السينمائية إياد نصر الله.
و«ذاكرة»، الإنتاج الجديد لمسرح مؤسسة «الأفق للثقافة والفنون»، عبارة عن مجموعة من النصوص والحكايات التي تربط بين ذاكرة المؤلف والذاكرة الجماعية الفلسطينية، وهي تتناول، وفق ناطور، فترة من أيام الانتداب البريطاني وأحداث النكبة وما تلاها، على السنة ثلاثة أبطال هم، الشيخ أبو صلاح، والشيخ عباس، وعبد الحسن، وجميعهم يعيدهم ناطور الكاتب والممثل، على خشبة المسرح، عبر حكاياتهم التي تشكل شهادات على تفاصيل حياة وقتل الإنسان الفلسطيني خلال النكبة.. هذا الفلسطيني الذي يرفض أن يموت ويرفض أن يُنسى.
والمؤلم، كما يأتي في مفتتح العمل، «أننا أصبحنا نؤرخ لحياتنا، ونذكر تواريخنا حسب هذه الأحداث المأساوية». ويقول ناطور: «حكايات المسرحية هي حكايات الناس البسطاء العاديين الذين يريدون أن يمارسوا حياتهم ببساطة وسرور».
أما المخرج أديب جهشان فيقول: «في هذا العمل المسرحي، يخوض الكاتب سلمان ناطور تجربة التمثيل، لأنه خير من يعبر عن الأحاسيس والمشاعر التي كشفتها المسرحية وبصدق، وهو يتمتع بحضور مميز ولافت للنظر، على الرغم من أنه لم يحترف التمثيل، وهذه خطوة جريئة تجريبيا وفنيا».
أما مدير مؤسسة «الأفق للثقافة والفنون»، الكاتب والفنان عفيف شليوط، فيرى أن مسرح الأفق، المشروع المركزي للمؤسسة، يخطو من خلال هذا الإنتاج المسرحي، خطوة مهمة أخرى: «نحو ترسيخ مكانته في حركتنا الثقافية، وخطوة أخرى نحو الانطلاق للعالم العربي وللعالمية»، ويضيف: «سلمان ناطور اليوم هو الكاتب الأبرز على ساحتنا الثقافية، وخطوة كهذه؛ أن نعرض مؤلفاته الأدبية على خشبة المسرح، بمثابة تقديم خدمة لأدبنا ولمسرحنا في آنٍ واحد». ويضيف أيضا: «عندما بدأت المراجعات على مسرحية (ذاكرة)، فاجأني سلمان ناطور بأمورٍ لم أكن أعلمها عنه من قبل، فهو كاتب مرموق وروائي فلسطيني بارز، من دون أدنى شك، ولكن لماذا يخوض تجربة التمثيل؟ سؤال حيّرني في البداية، لكني اكتشفت خلال المراجعات على المسرحية، وخصوصا في المراحل المتقدمة منها، أن سلمان ناطور لا يمثل، بل يعبر عن أحاسيسه ومشاعره على خشبة المسرح، كيف لا وهو مؤلف هذا الإنتاج الأدبي الرائع، فهو خير من يعبر عن هذه الأحاسيس والمشاعر التي كشفتها المسرحية، كما أن سلمان وللحقيقة، يتمتع بحضور مميز لافت للنظر بالإضافة لكونه كاتبا مميزا».
ويتابع: «خلال التدريبات أدهشني الكاتب سلمان ناطور بمدى شغفه بالتمثيل المسرحي، ومدى جديته في العمل؛ فكان يصغي للمخرج بشغف طفولي باحثًا عن كل جديد، وهو على استعداد مذهل للتجدد، يقبل على تجربته الجديدة من دون حدود وقيود أو عراقيل لولوج التجربة المسرحية.. في الحقيقة لم أصدق ما أراه أو أسمعه خلال التدريبات، إنسان بتجربة الكاتب سلمان الغنية في مجال الكتابة، وبمكانته الأدبية، يقدم على تجربة فريدة من هذا النوع، يستحق أكثر من وقفة، فإنها جرأة ما بعدها جرأة، ولكنها تجربة تستحق أن تُجرّب، وسيكون لها ما بعدها».



أنا والمعري ورسالة الغفران

تدشين نصب تذكاري لأبي العلاء عام 2023 في ضواحي العاصمة الفرنسية. وهو من إنجاز النحات السوري عاضم الباشا.
تدشين نصب تذكاري لأبي العلاء عام 2023 في ضواحي العاصمة الفرنسية. وهو من إنجاز النحات السوري عاضم الباشا.
TT

أنا والمعري ورسالة الغفران

تدشين نصب تذكاري لأبي العلاء عام 2023 في ضواحي العاصمة الفرنسية. وهو من إنجاز النحات السوري عاضم الباشا.
تدشين نصب تذكاري لأبي العلاء عام 2023 في ضواحي العاصمة الفرنسية. وهو من إنجاز النحات السوري عاضم الباشا.

في كتابي الأخير الصادر عن «دار المدى» بعنوان «العباقرة وتنوير الشعوب»، أزعم أني ارتفعت إلى مستوى المعري في رسالة الغفران. صدقوا أو لا تصدقوا، أنتم أحرار. لماذا كل هذه الفخفخة والمنفخة؟ لماذا كل هذه الغطرسة الفارغة؟ هذه ليست من شيمي وعاداتي. بل إن عاداتي العكس تماماً؛ أي التضاؤل والتصاغر إلى درجة الاضمحلال. وقد لامني على ذلك، برفق، سمير عطا الله يوماً ما. عاداتي المزمنة والمتواصلة هي أنني أختبئ وراء أساتذتي الكبار. ولكن هذه المرة أصابتني نوبة مفاجئة من جنون العظمة ولا أعرف لماذا. ولله في خلقه شؤون. وعلى ذكر رسالة الغفران، ينبغي العلم أنها ترجمت إلى الفرنسية عام 1984. وصدرت عن أشهر دار نشر باريسية: «غاليمار» في 320 صفحة. ولكن من يستطيع أن يشتريها: 150 يورو فقط. من يصدق ذلك؟ من يستطيع ترجمتها؟ حتى في العربية يصعب فهمها، فما بالك بالفرنسية. ينبغي أن نترجمها أولاً إلى العربية الحديثة قبل الفرنسية. ولكن لا يسعنا إلا أن نشكر المستشرق الفرنسي فانسان مونتيل على هذا الجهد الكبير والشاق العسير الذي بذله في نقل إحدى روائع أدبنا الكبرى إلى لغة موليير وفولتير. شكراً له وألف شكر. كيف استطاع تحقيق ذلك؟ معجزة حقيقية. والباحث المذكور أصبح اسمه الكامل فانسان منصور مونتيل عندما اعتنق الإسلام بعد أن أعجب به كل الإعجاب: ديناً وفلسفة وحضارة.

كان ديكارت يقول هذه العبارة اللافتة: الفيلسوف يتقدم مقنّعاً على مسرح التاريخ. بمعنى أنه لا يستطيع أن يكشف كل أوراقه دفعة واحدة، وإلا لكانوا قد ذبحوه حتى قبل أن يفتح فمه. إنه مجبر على أن يضع قناعاً على وجهه لكي يستطيع أن يُكمل مهمته على أفضل وجه ممكن، لكي يستطيع أن ينجز مؤلفاته وكشوفاته الكبرى قبل أن يقتلوه. وما هي مهمته في الحياة؟ تفكيك الأفكار التراثية الشعبوية الطاغية التي تتخذ صفة اليقينيات المطلقة التي لا تقبل النقاش. هل نعلم بأن المعري طبق هذه القاعدة حرفياً قبل ديكارت بسبعة قرون؟ وراء كل صفحة من صفحات رسالة الغفران تقريباً تبدو شخصية المعري مقنعة وماكرة إلى أقصى الحدود. إنه مجبر على الظهور بمظهر الإنسان المتدين التراثي التقليدي الذي لا تشوبه شائبة. ولكن خلف ذلك تكمن شخصيته الحقيقية. يكفي أن نقرأ ما بين السطور أو ما خلف السطور لكي ندرك ذلك. إنه يحلف بأغلظ الأيمان أنه مخلص كل الإخلاص للتصورات التراثية وملتزم بها كلياً. ولذلك ينبغي أن نقرأ رسالة الغفران قراءة مبطنة عميقة لكي نفهمها على حقيقتها. المعري أكثر مكراً مما نظن. تكاد تموت من الفرح والابتهاج، تكاد تنفجر من الضحك والانشراح، عندما تقرأ رسالة الغفران. لست بحاجة لأن تذهب إلى المسرح أو السينما لكي ترفّه عن نفسك. يكفي أن تقرأها. مسرحها أعظم وأكبر من كل المسارح العالمية. مسرحها العالم الآخر وجنة عرضها السماوات والأرض. إنك تسرح وتمرح في فضاءات شاسعة واسعة منتشرة على مد النظر. من هنا الطابع التحريري الهائل والإبداعي الخارق لرسالة الغفران.

تشعر بأنك أصبحت أكثر ذكاء عندما تقرأها، هذا إذا ما استطعت أن تصبر عليها حتى النهاية. ولهذا السبب قال عنها عباس محمود العقاد: «إن رسالة الغفران نمط وحدها في آدابنا العربية، وأسلوب شائق، ونسق ظريف في النقد والرواية. إنها فكرة لبقة لا نعلم أن أحداً سبق المعري إليها». هذا أقل ما يمكن أن يقال يا عملاق الفكر العربي. كان بإمكانك أن تقول أكثر بل كان يجب أن تقول أكثر. تأمل جيداً كيف يوزع المعري بكل مهارة واستمتاع، وأكاد أقول بكل خبث ودهاء، مشاهير العرب على الجنة والنار. يقول مثلاً:

«وينظر الشيخ في رياض الجنة فيرى قصرين منيفين فيقول في نفسه: لأبلغن هذين القصرين فأسأل لمن هما؟ فإذا قُرب إليهما رأى على أحدهما مكتوباً: هذا القصر لزُهير بن أبي سُلمى المُزني، وعلى الآخر: هذا القصر لعَبيد بن الأبرص الأسديّ، فيعجب من ذلك ويقول: هذان ماتا في الجاهلية ولكن رحمة ربنا وسعت كل شيء. فيسأل زهير: بم غُفر لك وقد كنت في زمان الفترة والناس هَمَلٌ لا يحسن منهم العمل؟ فيقول: كانت نفسي من الباطل نفوراً، فصادفت ملكاً غفوراً...

ثم ينصرف إلى عبيد فإذا هو قد أُعطي بقاء التأبيد، فيقول: السلام عليك يا أخا بني أسد. فيقول: وعليك السلام، وأهل الجنة أذكياء لا يخالطهم الأغبياء، لعلك تريد أن تسألني بم غُفر لي؟ فيقول: أجل وإن في ذلك لعجباً، أألفيت حُكماً للمغفرة موجباً، ولم يكن عن الرحمة محجباً؟ فيقول عبيد: أُخبرك أني دخلت الهاوية، وكنت قد قلت في الحياة:

من يسأل الناس يحرموه

وسائل الله لا يخيبُ

وسار هذا البيت في آفاق البلاد، فلم يزل يُنشَد ويخف عني العذاب حتى أطلقت من القيود والأصفاد، ثم كُرر إلى أن شملَتني الرحمة ببركة ذلك البيت، وإن الله لغفور رحيم.

فإذا سمع الشيخ - ثبت الله وطأته - ما قال ذانك الرجلان، طمع في سلامة كثير من أصناف الشعراء».

صفحات خالدة

أخيراً، ماذا نستنتج من كل هذه المهزلة، من كل هذه الفضيحة، من كل هذه التحفة العبقرية؟ نستنتج أن المعري استمتع كل الاستمتاع بتوزيع بعض المشاهير على الجنة وبعضهم الآخر على النار. ونستنتج أنه على الرغم من كل تظاهره بالوقار وصحة الاعتقاد لم يسلم من القيل والقال. على العكس، لقد شكوا فيه وكفّروه وزندقوه ومسحوا به الأرض مسحاً كما هو معلوم. وهذا يعني أن القناع الذي وضعه على وجهه لم يَدُم طويلاً ولم ينفعه شيئاً في نهاية المطاف. وهكذا حصل له ما سيحصل لديكارت من بعده بسبعة قرون. فهو الآخر كشف الأصوليون المسيحيون القناع اللاهوتي الكاثوليكي عن وجهه وكفّروه ووضعوا كتبه على لائحة الكتب المحرّمة أو الممنوع قراءتها. بل وقتله أحد الكهنة اللاهوتيين في السويد عن طريق دس السمّ له في القربان المقدّس، كما كشف أحد الباحثين الألمان. وهو اكتشاف انفجر مؤخراً كالقنبلة الموقوتة. ولكن بالله عليكم قولوا لي: من يستطيع أن يستشهد بمقولات شيوخنا القروسطيين التكفيريين في أي مؤتمر عالمي يُعقد عن الإسلام والفكر العربي؟ أتحدى أي مثقف عربي أن يتجرأ على ذلك. ولكن بإمكانك أن تُفحم الغرب كل الغرب بعبقرية شخص كأبي العلاء المعري. بإمكانك أن تفاخر العالم كله برسالة الغفران.