«لا تنظر لفوق»... ولا إلى تحت أيضاً

فيلم ساخر ينتقد البيت الأبيض والإعلام ويطرح أسئلة

دي كابريو وجنيفر لورنس في لقطة من «لا تنظر لفوق»
دي كابريو وجنيفر لورنس في لقطة من «لا تنظر لفوق»
TT

«لا تنظر لفوق»... ولا إلى تحت أيضاً

دي كابريو وجنيفر لورنس في لقطة من «لا تنظر لفوق»
دي كابريو وجنيفر لورنس في لقطة من «لا تنظر لفوق»

تستأذن رئيسة الجمهورية أورلين (ميريل ستريب) الجميع على الهواء بحجة الذهاب لقضاء حاجة. تترك ابنها جاسون (جونا هِل) المُعين رئيس الفريق الرئاسي وحده على المنصّة يواجه الحاضرين في القاعة. هؤلاء أخذوا يرشقونه بالقاذورات وهم يغادرون القاعة سريعاً. يجلس جاسون هناك مكرراً ما قالته له والدته بأنها ستعود بعد قليل. لكنها لن تعود... غادرت المنصّة والبيت الأبيض بأسره واستقلت طائرتها الخاصّة لتلحق بالبليونير بيتر (مارك ريلانس) الذي كان انسحب قبلها مستخدماً العبارة ذاتها. كلاهما يدرك أن حساباته كانت خاطئة وأن الكارثة التي حذّر منها البعض واقعة. الآن حان وقت الهرب والنجاة بالنفس.
في هروبها تركت رئيسة الجمهورية ابنها المدلل (بحسب مشاهد سابقة) وحيداً ليغطّي هروبها. تركته يموت. أما هو فما زال على الغباء ذاته الذي واكبه في كل مشهد له في فيلم آدم مكاي الرائع «لا تنظر لفوق» Don‪’‬t Look Up.
قبل ذلك كله يبدأ الفيلم كبداية ليست مختلفة عن أفلام أخرى تحدّثت عن احتمال أن يضرب نيزك كبير هذا الكوكب مسبباً نهايته. دكتور راندل ميندي (ليوناردو دي كابريو) ومساعدته كايت ديبسكي (جنيفر لورنس) يكتشفان أن هناك نيزكاً جانحاً سيصطدم بالأرض. بحسبان بسيط لديهما (معقّد لدينا) يدركان أن هناك ستة أشهر فقط قبل أن يحدث الصدام المروع.
لكن، وعلى عكس الأفلام الكثيرة التي تحدثت عن نهاية الأرض بضربة نيزك، لا ينصرف الفيلم لحكاية حول تضافر الجهود لمنع الكارثة (كما حال فيلم Deep Impact لميمي لَدر، 1989) ولا لإرسال صواريخ نووية لتفتيت النيزك قبل وصوله (Meteor - رونالد نيم، 1979) أو للنجاة في موقع ناءٍ من الأرض سوف لن يصبه الضرر (The Day After Tomorrow - رولاند إيميريش، 2004). ما يتلوه الفيلم هو فشل المسؤولين، على مستوى البيت الأبيض و«ناسا» في درء الخطر الساحق وتعثّرهم في اتخاذ القرارات الصائبة لمنع وقوع الكارثة. بكلمات أخرى، يعكس الفيلم الوضع المعتاد في أفلام ذات منطلقات شبيهة، فهو ليس عن نجاح الأرض في اللحظات الأخيرة في النجاة من الكارثة، بل كيف إنها لن تنجو من الكارثة مطلقاً.
«لا تنظر لفوق» هو فيلم جاد جدّاً في سخريته الهازئة جداً. مختلف في صياغته الفنية ليواكب موضوعه المختلف عن المعتاد. صحيح أنه يتبع السرد التقليدي لأي فيلم تنتجه هوليوود في أي اتجاه، لكنه يتمتع بما يكفي من اللحظات التي لا تستطيع أن تتجاهل اختياراتها لإيصال المفاد: اللقطات القريبة لوجه ميدني حين يحذر من الخطر في المقابلة التلفزيونية الأخيرة له، المشاهد المؤلّفة من لقطات سريعة لأسماك وطيور وماء وبشر وأعشاب وحياة طبيعية تتداخل وسط المشاهد الدرامية ذاتها لكي تشي بجمال مهدد وحياة أخرى إلى زوال. النجاح في كيفية إظهار أوجه الأزمة على صعيديها الفردي والسياسي والتقاط تفاصيل التصرّفات التي تختزل مرجعيات الشخصيات. نعم، كل هذا يمكن لمخرج جيد آخر توفيره، لكن تحت إدارة مكاي، ينتمي هذا الجهد إلى قرار مُحكم بالجمع بين جانبي المعالجة في بلاغة واضحة. خالية من دواعي الثرثرة اللفظية والخطابة، لكن هذا لا يعني أن الفيلم سيمرّ على عيوب الواقع المُعاش مبتسراً أو مكتفياً بالسخرية والكاريكاتور وحدهما.
ينطلق من تمهيد سريع: دكتور مندي ومساعدته يكتشفان وجود نيزك ضخم انطلق من عمق الفضاء في اتجاه لا التباس فيه: سيصطدم بالأرض بعد ستة أشهر. يتوجهان لمقابلة المسؤولين. بعضهم يحيل القضية إلى البيت الأبيض. الموعد الأول لا يتم، الثاني يقع بين هذين الشخصين الجادّين والمؤمنين بالخطر المتمثل والداعيان لمواجهته قبل فوات الأوان، وبين السيدة الأولى وابنها وكلاهما ساخر مما جاء به هذان الزائران. أقصى ما تستطيع رئيسة الجمهورية القيام به هو التفكير بالموضوع. يلتقط الإعلام ما يدور، لكن من زاوية الترفيه أكثر من زاوية البحث. مقدّمة اللقاء التلفزيوني بري إيفانتي (كيت بلانشت) منجذبة إلى العالم ميندي أكثر من انجذابها إلى العلم. زميلها (تايلر بيري) متمرّس في تفتيت أي قضية جادّة لكي تتحوّل إلى نادرة مسلّية تعجب المشاهدين.
إذ تنفجر ديبياسكي غضباً من هذا التصرّف (فتوضع على قائمة غير المرغوبين بالظهور على شاشة التلفزيون) ينساق ميندي إلى علاقة جنسية مع بري يخصص لها الفيلم ركناً محدوداً لا يضر ولا يحيد عن المشكلة الأساسية والقضية التي يطوّرها المخرج صوب صدام لاحق بين ميندي والبيت الأبيض والإعلام ذاته وهو يشهد بأن أحداً لا يصدّق دعواه والحكومة تكذب وعينها على الانتخابات المقبلة، بينما العالم في خطر.
إذا كان هذا المضمون متشائماً وسوداوياً فليكن. الاستخفاف به ربما هو صورة مصغّرة لاستخفاف المسؤولين بالخطر الذي انطلق د. ميندي ومساعدته كايت للتحذير منه. ما يؤازره هو أن المخرج مَكاي، يعالجه من زاويتين لا فاصل بينهما: هو بالفعل كوميديا سوداء هازئة من فشل السياسيين وأصحاب النفود في اتخاذ الموقف الحازم الذي يستطيعون القيام به لو أرادوا، وهو أيضاً، وبالدرجة ذاتها، جاد وواقعي في نقد التصرّفات الفردية لهذا للفئة التي تعيش فوق كوكبها الخاص، ورصف الأحداث اللولبية التي تحدد تبعات وجود تلك النماذج اللاهية التي يوفّرها الفيلم لمشاهديه.
تكاد رئيسة البيت الأبيض تمضي قُدماً في إرسال صواريخ محمّلة بالرؤوس النووية بغرض تفتيت النيزك الضخم لولا تدخل البليونير بيتر (الذي يناديها باسمها الأول) شارحاً لها أن هذا النيزك يحتوي على الذهب والفضة ولا يجب تفويت فرصة كهذه للحصول على ثروته.
علينا هنا أن نصنّف الأمور حسب مراجعها. بيتر، الذي هو ثالث أغنى أغنياء العالم حسب الفيلم، يذكّر بشخصية غايتس من حيث سُلطته وثرائه وشغله المتواصل على التكنولوجيا المنفصلة، لديه، عن كل أصل آخر للحياة. التذكير بغايتس ليس عارضاً أو غير مقصود والممثل مارك ريلانس يمنح هذه الشخصية الأداء المُحاك بدقة لمماثلة أي شخصية هلامية ذات شأن اقتصادي وطبيعة منفصمة عن الواقع. لديه سُلطة فوق الرئيسة. يأمرها فتنفّذ.
لكن هذا التماثل ليس سوى جانب من التذكير بغايتس (أو أي شخص آخر في قائمة مجلة «فوربس» لأثرياء العالم في الغرب) الجانب الآخر هو أننا نقرأ طوال الفيلم ما يحدث حاضراً بالنسبة لوباء كورونا وتبعاته. لا يغيب عن بال الممعن أن المقصود في الظل ليس الحكاية الخيالية حول النيزك الآتي من عمق الفضاء، بل الوباء المنتشر على الأرض من حيث الإثراء الحاصل من خلاله للبعض والخطر المحدق من جراء مخاطره الذي لا يُبالي الفريق الأول له إلا لمنفعته. هذا بالإضافة إلى الكيفية العاجزة التي يواجه فيها العالم هذا الخطر.
كل من تماثل بيتر بغايتس (كون الثاني مؤسس «ميكروسوفت» وأبرز العاملين في المجالات الإلكترونية الحديثة كما حال شخصية بيتر) والنيزك بـ«كورونا» واضح. قوّة الفيلم في سرد وضع خيالي ومعالجتها بنفس ساخر للتعبير عن وضع حقيقي قائم. رأى بعض النقاد أن بيتر يشبه إلون مسك (Elon Musk) أحد البارزين في علوم الأجواء والصناعات الفضائية الثقيلة، ربما هذا صحيح في جانب وحتى لو كان صحيحاً كلياً، فإن الغاية ليست الانفراد بشخص معين بقدر ما هي تحديد أولوياته ومشاغله وخطرها على البشر من حيث توجهها النائي عن صلب العلم ومنافعه.
حبكة الفيلم في هذا الشأن لا تترك المسائل افتراضية إلا بمقدار. نرى بيتر يجلس مكان السيدة الأولى مترأساً اجتماعاً. يناديها، كما ذكرت، باسمها الأول. في المشهد الذي سيحدّثها فيه عن مضار ضرب النيزك؛ ما يجعلها تأمر باستعادة الصواريخ النووية التي انطلقت لمواجهته يدخل الغرفة بلا إذن مسبق، ويطلب منها أن توافيه لحديث خاص. عندما تتأخر يدخل ثانية ويقول لها بحدّة «جيني، أريدك الآن».
تنصاع جيني لأوامره وتلغي مسألة التصدي للنيزك مقتنعة أن الضرر الناتج من تدميره أقل من الفوائد المتوقعة منه. لكن لاحقاً، عندما تتأكد من أن النيزك لن يترك بقعة من العالم إلا وفتك بها توافق على إطلاق تلك الصواريخ. ينطلق الصاروخ الأول فيرتفع قليلاً ثم يضرب باخرة راسية. يبتسم بيتر (الذي يشاركها القرار) ويقول «هذا هو خطأ الأربعة إلى الخمسة في المائة النسبي». إنه عندما يتأكد من أن الصواريخ تنفجر قبل الوصول وما يصل لا يؤثر يغادر مسرعاً تاركاً رئيسة الجمهورية لتتصرّف. هذه تحذو حذوه تاركة ابنها جاسون لمصيره وهو الذي لا يبدو إنه يفقه شيئاً مما يدور.
يقبض المخرج على النبرة الصحيحة (وربما الوحيدة) القادرة على المزج بين الكوميديا السياسية (سوداء وهازئة) وبين الواقع بلا تخفيف شأن. هذا الفيلم حول صلة الناس الوطيدة بالجهل والتجاهل. الحياة في خطر وما زال أكثرهم لا يكترث لأن يعاين ما يحذّر منه العلم. عن الإعلام الذي يموّه الأولويات طلباً للترفيه والسياسيين الذين يضعون السياسة قبل العدالة والذات قبل المصلحة العامّة. ثم - إذا كان كل ذلك غير كافٍ - عن معاداة المنطق والواقع والعلم والمثقفين عموماً.
كل الممثلين هنا رائعون في أدوارهم وليس فقط جنيفر لورنس وليوناردو دي كابريو. هما يحملان مهمّة النجاح في تجسيد ما يجهدان في إثباته، لكن الجميع متفهم كل لدوره في هذا الفيلم. بلانشيت رائعة ومارك ريلانس لا يمكن إغفاله. بدرجة أقل بقليل هناك ميريل ستريب التي تذكرك بأنها نجمة، لكنها تتقن دورها جيداً. يجيد المخرج خلط الأوراق من دون أن تضيع منه دلالة. وحين يأتي الأمر إلى تجسيد العنوان يختار مشهداً هو، كالكثير من المشاهد، مسار سخرية وخوف: في خطابها للشعب الأميركي الذي لا يعرف من يصدّق (هي أو العلم) تطلب من الناس ألا تتطلع إلى فوق. بل أن تنظر إلى تحت. العبارة من قوّة الإيحاء بأبعادها الاجتماعية والسياسية لدرجة لا يمكن إغفالها.
في النهاية هناك اللجوء إلى الدين. يعود العالم مندي إلى زوجته وأولاده ويستقبل في بيته آخرين آمنوا مثلهم بنهاية العالم بسبب الجهل (وليس عقاباً)، لكن من اعتقد أنها النهاية تقول إن الحل في التديّن على خطأ؛ لأن هذه العائلة وضيوفها ستتلقّى العاقبة ذاتها. هي ليست مثالاً على انفلات العالم من أخلاقياته وغلوّه في الخطيئة، بل تذكير بأن وقت الدعاء قد يتأخر وإذا ما فعل فلا نجاة لأحد.


مقالات ذات صلة

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
سينما «من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة

محمد رُضا‬ (سانتا باربرا - كاليفورنيا)

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
TT

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة وإلقاء ما تيسَّر له من تعابير فرحٍ وثناء.

لا يختلف وضع العام الحالي عن الوضع في كل عام، فجميع آمال العاملين في هذه الصّناعة الفنية المبهرة يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون إعلان ترشيحات «الأوسكار» الأولى هذا الشهر. وحال إعلانها سيتراجع الأمل لدى من لا يجد اسمه في قائمة الترشيحات، وترتفع آمال أولئك الذين سترِد أسماؤهم فيها.

يتجلّى هذا الوضع في كل مسابقات «الأوسكار» من دون تمييز، لكنه أكثر تجلّياً في مجال الأفلام الأجنبية التي تتقدّم بها نحو 80 دولة كل سنة، تأمل كل واحدة منها أن يكون فيلمها أحد الأفلام الخمسة التي ستصل إلى الترشيحات النهائية ومنها إلى الفوز.

«ما زلت هنا» لوولتر ساليس (ڤيديو فيلمز)

من المسافة صفر

لا يختلف العام الحالي في شكل التنافس وقيمته بل بأفلامه. لدينا للمناسبة الـ97 من «الأوسكار» 89 دولة، كلّ واحدة منها سبق أن تنافست سابقاً في هذا المضمار. لكن المختلف هو بالطبع الأفلام نفسها. بعض ما شُوهد منها يستحق التقدير، والفرق شاسع بين ما يستحق التقدير وبين ما يستحق الترشيح والوصول إلى التّصفية.

الحلمُ في تحقيق هذه النقلة يسيطر على المخرجين والمنتجين العرب الذين نفّذوا أعمالهم الجديدة خلال هذه السنة وسارعوا لتقديمها.

من بينهم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي وفّر خلال العام الحالي فيلمين، واحدٌ من إخراجه بعنوان «أحلام عابرة»، والثاني بتوقيع 22 مخرجاً ومخرجة أشرف مشهراوي على جمع أفلامهم في فيلم طويل واحد بعنوان «من المسافة صفر»، وجميعها تتحدّث عن غزة، وما حدث فيها في الأسابيع الأولى لما يُعرف بـ«طوفان الأقصى». بعض تلك الحكايا مؤثرٌ وبعضها الآخر توليفٌ روائي على تسجيلي متوقع، لكنها جميعها تكشف عن مواهب لو قُدِّر لها أن تعيش في حاضنة طبيعية لكان بعضها أنجز ما يستحق عروضاً عالمية.

لا ينحصر الوضع المؤلم في الأحداث الفلسطينية بل نجده في فيلم دانيس تانوفيتش الجديد (My Late Summer) «صيفي المتأخر». يقدم تانوفيتش فيلمه باسم البوسنة والهرسك، كما كان فعل سنة 2002 عندما فاز بـ«الأوسكار» بصفته أفضل فيلم أجنبي عن «الأرض المحايدة» (No Man‪’‬s Land). يفتح الفيلم الجديد صفحات من تاريخ الحرب التي دارت هناك وتأثيرها على شخصية بطلته.

«صيفي الأخير» لدانيس تانوفيتش (بروبيلر فيلمز)

مجازر كمبودية

تختلف المسألة بالنسبة للاشتراك الصّربي المتمثّل في «قنصل روسي» (Russian Consul) للمخرج ميروسلاڤ ليكيتش. في عام 1973 عندما كانت يوغوسلاڤيا ما زالت بلداً واحداً، عاقبت السلطات الشيوعية هناك طبيباً إثر موت مريض كان يعالجه، وأرسلته إلى كوسوڤو حيث وجد نفسه وسط تيارات انفصالية مبكرة ونزاع حول الهوية الفعلية للصرب. حسب الفيلم (الاشتراك الثاني لمخرجه للأوسكار) تنبأت الأحداث حينها بانهيار الاتحاد السوفياتي و«عودة روسيا كروسيا» وفق قول الفيلم.

التاريخ يعود مجدداً في فيلم البرازيلي والتر ساليس المعنون «ما زلت هنا» (I‪’‬m Still Here) وبطلته، أيضاً، ما زالت تحمل آلاماً مبرحة منذ أن اختفى زوجها في سجون الحقبة الدكتاتورية في برازيل السبعينات.

في الإطار نفسه يعود بنا الاشتراك الكمبودي (التمويل بغالبيته فرنسي) «اجتماع مع بُل بوت» (Meeting with Pol Pot) إلى حقبة السبعينات التي شهدت مجازرعلى يد الشيوعيين الحاكمين في البلاد، ذهب ضحيتها ما بين مليون ونصف ومليوني إنسان.

وفي «أمواج» (Waves) للتشيكي ييري مادل، حكاية أخرى عن كيف ترك حكمٌ سابقٌ آثاره على ضحاياه ومن خلفهم. يدور حول دور الإعلام في الكشف عن الحقائق التي تنوي السلطة (في السبعينات كذلك) طمسها.

تبعات الحرب الأهلية في لبنان ليست خافية في فيلم ميرا شعيب «أرزة»، الذي يدور حول أم وابنها يبحثان عن سارق دراجة نارية ويتقمصان، في سبيل ذلك، شخصيات تنتمي إلى الطائفة التي قد تكون مسؤولة عن السرقة. هما سنّيان هنا وشيعيان هناك ومسيحيان أو درزيان في مواقع أخرى وذلك للتأكيد على أن التربة الطائفية ما زالت تنبض حية.

حتى كوريا الجنوبية ما زالت تحوم حول الانقلاب (وهي تعيش اليوم حالة مشابهة) الذي وقع في مثل هذا الشهر من سنة 1979 عندما اغتيل الرئيس بارك على يد رئيس شعبة الدفاع لي تايدو-غوانغ (أُلقي القبض عليه لاحقاً وأُعدم). هذا هو ثالث فيلم شاهده الناقد كاتب هذه الكلمات حول الموضوع نفسه.