تحتفي الشارقة بواحد من أهم مهرجاناتها وأطولها زمناً، هو «مهرجان الفنون الإسلامية» الذي يستمر لأربعين يوماً، تنتهي في الثالث والعشرين من الحالي، ويجمع عشرات الفنانين، العرب والأجانب. الهدف دائماً واحد، هو استلهام الفنون الإسلامية، بأعمال جديدة، بدءاً من الخط، مرواً بالعمارة، والأنسجة، والمشغولات اليدوية، وكذلك المجوهرات. وتشهد الدورة الرابعة والعشرين التي تحمل عنوان «تدرجات»، 151 فعالية و284 عملاً لـ63 فناناً جاءوا من 27 دولة، لإنجاز أعمالهم، ومواكبة إطلاقها. وتوزعت المعروضات على أماكن عدة، حيث يحتضن «متحف الشارقة للفنون» القسم الأكبر من الأعمال، وتتوزع أيضاً، على، مختلف مناطق الشارقة، ومنها: متحف الشارقة للفنون، بيت الحكمة، واجهة المجاز المائية، ساحة الخط، الشرقية والوسطى، وغيرها من الأماكن التي تزهو بأعمال فنية لافتة، يرافقها فعاليات تفاعلية مختلفة، إذ ثمة محاضرات، ونقاشات، وعروض فيديو، وورشات.
في «متحف الشارقة للفنون»، متعة للزائر هذه الأيام، رؤية عشرات الأعمال المعروضة في أجنحة متجاورة، حيث حاول كل فنان أن يقدم تصوره لفكرة «التدرجات» مستوحياً التراث الإسلامي، برؤية خاصة وبأدوات عصرية. تعدد جنسيات الفنانين، واختلاف الزوايا التي يطلون منها على الموضوع المطروح، هو ما يصنع التمايز الفعلي لهذا المهرجان.
فالبريطاني بن جونسون الذي زار غرناطة قبل 30 سنة، ولم يشف من العمارة الإسلامية التي رآها هناك، بقي يقتفي أثرها، من الأندلس إلى المغرب، وإسطنبول وصولاً إلى إيران، لتصبغ أعماله الفنية. عاشق للأقواس والقباب والزخرف، متيم بما شهدت عيناه، ينقل لنا دراساته الحسابية لجانب من قصر الحمرا، ثم تقف مشدوهاً أمام لوحة كبيرة، تظن نفسك وأنت تقترب منها على وشك دخول قصر أندلسي، وقد بدت القبة في اللوحة، كما البركة التي تتقدمها، جميعها كأنها حية أمامك. الأندلس مصدر وحي للفنان والشاعر السعودي عبد الله العثمان، في عمله «أرض الخيال» الذي من خلال فيلم فيديو، يريك كيف أنّ الأندلس لا تزال حاضرة في الوجدان العربي والإسلامي. ويقول العثمان: «الكلمة الواحدة يمكن أن تتحول في شوارع المدن وعلى ألسن سكانها... فإذا قلت غرناطة سيعرفها الناس كعاصمة الأندلس التي خلدها التاريخ وكإشارة إلى حي غرناطة في الرياض».
التقنيات الحديثة، سمحت للفنانين، تقديم أفكارهم، بطرق مبتكرة، كما الأميركية أنا كبرفاسر في عملها «ترتيب الوحي». إذ ما إن تدخل غرفتها المظلمة، حتى تكتشف أنّها حوّلت أحد جدرانها إلى شاشة، يختلط فيها طيفك مع الحروف العربية التي تبدأ بالظهور كأنها أخيلة أخرى ترافقك في اقترابك وابتعادك عن الشاشة. تشرح لنا الفنانة التي تعلمت العربية، عن حبها لها، وإقامتها في مصر، وأنّ عملها مستوحى من قصة نزول الوحي بالتدرج وعلى مراحل، امتدت لسنوات. لكن من الصعب أن ترى في هذا العمل أكثر من لعبة ضوء، تجذبك، لتعيد التعامل مع ظلك بطرافة، وهو يتلاعب مع الأحرف.
لكل فنان مزاجه، وذاك هو الأمر الشيق في المهرجان، فالتنوع يخلق متعة وأنت تجول بين الأعمال، وتقع على الهندية، سيمرين مهرا أجاروال، المقيمة في الإمارات، ترى جداريات تملأ الركن المخصص لها، هي عبارة عن إعادة رسم لخريطة أعماق البحار. فالفنانة من هوايتها الغطس ومراقبة العالم البحري العجيب بطحالبه ونباتاته وصخوره وكأنّما شبكة عنكبوتية تربط بين مكوناته، وهي تعيد تشكيله على طريقتها، وتهدينا مخططاً لإعادة تشكيل الأرض على غرار البحر، كامتداد له، بعد أن خربتها يد العبث. وهذه من الأعمال الفنية البيئية القليلة، في المهرجان. بالمقابل نجد العديد من الأعمال ذات البعد الروحاني، من بينها ما أنجزه سامي ل. دي جيوسا بالتعاون مع «أ و م ع» من المملكة المتحدة، تحت عنوان أشعة. إذ تم اختيار المكعب الخشبي أو الصندوق، الذي يتوسط صالة العرض محمولاً على قاعدة، لترتسم حوله على أرضية الغرفة وحيطانها شبكة من الخطوط، وفق قياسات هندسية دقيقة، كأنّما رسمها عنكبوت، لكنّها في الحقيقة، تنطوي على سحر تكرار المربع بخطوطه المستقيمة، الذي منه يمكن، أن نبتدع أشكالاً جديدة إلى ما لا نهاية. وتكرار الشكل الواحد في الفن الإسلامي، من التقنيات القديمة المعروفة، لكنّها هنا تكتسب بالأبيض والأسود حداثتها ونكهتها المعاصرة.
روحانيات الإماراتيين
الجانب الروحاني برز أكثر عند الفنانين الإماراتيين الذين أعطت لهم مساحة أكبر من الدورات السابقة، ومالوا بغالبيتهم إلى تركيب التجهيزات.
فقدمت آلاء إدريس عملها «فجوة» الذي يمكن تسميته بصندوق الفرجة. وهو غرفة مطلية من الخارج باللون الأسود، ننفذ منها إلى الداخل بالنظر من خلال فتحة صغيرة، تسمح بمتابعة شريط فيديو يعرض على الحيط المقابل للفتحة، ويتخذ أبعاداً إضافية بفضل مرآتين على الجدارين الجانبيين. في حين تلتمع الأرضية وكأنها بركة سوداء. من الفتحة يتابع الناظر مشهد اشتعال النيران في الحطب ولهبها ومن ثم خمودها وعودة جذوتها ويلمح وجهه ينعكس داخل المشهد. إشراك المتفرج بالتفاعل مع العمل، بات جزءاً من لعبة بعض الفنانين، مثل «خلوة» الإماراتية عزة القبيسي التي نحتت فيما يشبه جذع شجرة مدخلاً، وجهزت الداخل بمقعدين متقابلين لاستراحة العابرين الذين كانوا يجدون تسليتهم بولوج هذا المكان المعزول. أمّا الإماراتي عبد الله الملا، فرأى في تكرار المثلثات الهرمية، وتركيبها وفق ذائقته، وسيلته للتعبير عن الـ«تدرجات» في الفن الإسلامي.
على أي حال كلٌ حاول، لكنّ البعض ابتعد عن موضوع «تدرجات» المطروح، وآخرون اقتربوا حد التبسيط، وثمة من لم ير من ضرورة بالالتزام. ومن شيم الفنانين انتزاع حرياتهم، بطريقتهم الخاصة.
وقدمت الفنانة الإماراتية نجاة مكي، ضمن المهرجان، في «متحف الشارقة للخط»، معرضاً لأعمال مختلفة، بأساليب متنوعة، اعتمد بعضها على التفاعل، مع الجمهور والبعض الآخر، كان لوحات بألوانها الجريئة المعهودة، كما قدمت صندوق الفرجة الخاص بها، كما مواطنتها آلاء إدريس معتمدة المرايا في داخل الغرفة، لخداع البصر، وإدخال المتفرج في لعبة الأبعاد الثلاثية، وانعكاس الغرفة على مرآة الأرضية ليبدو للناظر وكأن ثمة فجوة بعمق الغرفة نفسها.
وحرص المنظمون على الاحتفاظ بتقليد عرض الأعمال الفنية، القائمة على الخزفيات اليدوية ولوحات الخط، سواء بالطريقة التقليدية، أو بالاشتغال بخيوط الذهب والمنمنمات. وهذا قسم يحتاج موضوعاً منفرداً، لما توليه الشارقة من عناية بالخط العربي، تعليماً وتحديثاً، ومتابعة لنشاط الخطاطين في العالم.
الفن للعموم
من تقاليد المهرجان، حرصه على إشراك عموم الجمهور، بحيث يحرص القيمون على أن تجد بعض الأعمال مكاناً لها في الساحات، وعلى مقربة من المراكز التجارية، وأماكن النزهة، مما يتيح للمارة تذوق المتع الفنية وتعميم الفائدة. هذه السنة، وصلت المعروضات الخارجية إلى مدرّج خورفكان الجميل المطل على البحر، فعرض الفنان الكويتي جاسم النشمي، عمله «مصلى يتسامي رقم 2»، حيث يتعالى تجهيز، مستلهم من المشربيات التقليدية، بأبعاد ثلاثية، ويمنح المكان رونقاً مختلفاً.
ومن الأعمال الخارجية ما عرض في «زيرو 6 مول» مثل العلبة الموسيقية التي تحمل عنوان «تحكّم لا تحكّم» لـ«ستوديو أريجولار» من كولومبيا وكندا، وشكلت متعة ظريفة للعابرين. فهذا الصندوق الرقمي الكبير بحجم غرفة صغيرة يعزف الموسيقى وتتراقص عليه الأشكال الهندسية، ويتيح للزائرين أن يمرروا أناملهم على جدرانه ليعزفوا أو ليظنوا أنّهم يعزفون، وأنّ أشكالاً جديدة تنبجس من بين أصابعهم. ومن التجهيزات الخارجية اللافتة جداً تلك التي تحمل اسم «هلال» ووضعت في ساحة بيت الحكمة، لبيا جنسن من الدنمارك، ومات ماكونيل من أميركا.
تركيب هندسي على شكل ثلاث موجات ضخمة متداخلة ومفرّغة كسوار ذهبي، يبلغ طول كل منحنى منها 12 متراً وبارتفاع ثلاثة أمتار، دمجت فيها سلسلة من الألوان. هي في حقيقة الأمر، أشرطة من الأكريليك والفولاذ والألومنيوم والبامبو تمزج بين الشكل السداسي والحلزوني على أسس هندسية، ومع سطوع الشمس تتضاعف الأقواس وترتسم المزيد من الأشرطة في الساحة. وإلى جانب هذا التجهيز، «أمل» للفنان اليمني - الفرنسي ناصر الأسودي. وهي كرة كبيرة بقطر 100 سنتمر، مفرغة ومرتسمة جدرانها بحروف عربية ينفذ منها الضوء، تزداد ألقاً مع التماع ظلها على الأرض، وهي مشغولة بروح فنان، يعرف كيف يستوحي من العمارة الإسلامية، زخرفها وقبابها ودوائرها، وفكر اللامتناهي.
من الصعب الكتابة عن عشرات الأعمال التي شارك فيها فنانون من مصر وسوريا والعراق، وهونغ كونغ، وصربيا، ودول كثيرة أخرى، كما رأينا للمرة الأولى عدداً كبيراً من الأعمال الخليجية، لكن يبقى هذا المهرجان نقطة مضيئة، لدفعه بالفنانين، من مختلف المشارب، لاستلهام الفنون الإسلامية برؤى حداثية، بعد أن طغت عليها التقليدية لفترة طويلة، ولا تزال.