حين يتغير العالم تبقى الثقافة

أدونيس
أدونيس
TT
20

حين يتغير العالم تبقى الثقافة

أدونيس
أدونيس

لما أُثير سؤال الثقافة في المجتمعات العربية تبادر إلى الذهن واقع بلداننا التي انحسرت فيها تيارات التنوير وتراجع دور المثقف وحُجمت مكانته الاعتبارية داخل المؤسسات وفي الحاضنة الاجتماعية أيضاً... حالة التراجع التي شهدها العالم العربي معرفياً لا يمكن أن تُختَصَر في السياسات التعليمية، أو أنْ تُحشَر داخل غُرف المنظومة التربوية. مما لا شك فيه أن المؤسسات غير الفاعلة ساهمت وتساهم في معادلة النكوص المعرفي والحضاري الذي أصاب بنيات الوعي الجماعي، وعطل الحراك المعرفي في المجتمعات العربية منذ عصور. لكن تبسيط المنظور العام قد لا يكون مفيداً من حيث الصدقية في الفهم والتحليل. على الأرجح هناك ما يمكن أن نبحث في تفاصيله ثقافياً وبصفة بنيوية علنا نعثر على جذور الأزمة التي تتجاوز حالاتٍ معزولة هنا وهناك، فالأمر يتعلق بظاهرة عامة تكشف عن عدد من الإسقاطات التي أحدثتها التحولات الكبرى في العالم ككل وليس فقط في منطقتنا. للأمر ارتباط وثيق طبعاً بمخرجات النيولبرالية وما أحدثته في واقع الفن والثقافة والجانب الرمزي من الحضارة الإنسانية، الأمر إذن كوني. فنحن إزاء عالم متسارع الإيقاع تكنولوجياً، عالم انتصرت فيه التقنية لمشروعها الميكانيكي والرقمي والاستهلاكي ورسختْ واقعاً تُهيمن فيه المعارف الإجرائية النفعية على الاختيارات الكبرى للأمم، وتتراجع فيه الفنون والآداب والأفكار النظرية التي لا سند تقني مباشر لها. إنه نصف كأس من الحضارة يحجب عنا النصف الآخر، لكن هل غاب دور الثقافة تماماً في مشروع العالم المتقدم غرباً وشرقاً؟ هل انتهى زمن المثقف المنظر للمجتمع؟ وهل سئمت الشعوب المنتجِة للمعرفة من دوائر الثقافة وأدوارها؟
المؤكد هو أن الرأسمالية المادية غيرت ترتيب الأرقام في المعادلة الاجتماعية حديثاً، لكنها لم تقلب أركان هذه المعادلة، بقيت الثقافة معياراً لا غنى عنه لقياس الوعي العام، وشرطاً للاستجابة الشعبية.
قد لا تكون القراءة وحدها هي المحدد الرئيسي لثقافة الشعوب، لكنها مؤشر على وجود سلوك معرفي يؤسس لعلاقة اجتماعية مع المعرفة العلمية التي هي لبنة البناء المدني، وهي حجر الزاوية في مشروع التقدم... مشروعٌ تشتغل عليه البشرية منذ بداية التاريخ دون أن يمسها الملل. نعم، القراءة تتراجع ورقياً ولا تتراجع واقعاً، يخسر الأدب وتتطور تجلياته الثقافية في زوايا أخرى غير الكتب والصالونات المعزولة، يخسر الشعر أفقياً جزءاً كبيراً من جماهيريته، لكنه يكسب عمودياً كل ما خسره.
هكذا يشرح أدونيس واقع الشعر في المشهد العالمي، غير العربي طبعاً. فالشعر بهذا المسلك الخاص يصل إلى أعلى مستويات المجد الفني بفضل خصوصيته الفنية أولاً، وبفضل حوارييه الأوفياء من ذوي القراءات العالية، وممن يرون في الشعر ملكوت الفكر الإنساني الخلاق الذي يبصر النور في آخر النفق وينذر العالم بما يراه مجهولاً وملتبساً وغير محسوم، إنه قلقُ الشعر الذي ظلت حضارة العالم مدينة له بفضل السؤال والشك. إنه الشعر القلِق، من يلد الحقيقة ويغذي عقل الابتكار. هكذا إذن لا يبدو أن الثقافة بتمثلها الرمزي قد تراجعت في العالم المتقدم، ولا يبدو أن الأمر قابل للتبسيط على هذا النحو، إن الشعوب الحية ظلت وفية لدور الثقافة متشبثة بمعانيها السامية ومؤمنة بها كعقيدة إنسانية تمنح للعقل حاضنَتَهُ التي لا يبدع في غيابها، وتمتح في الوقت نفسه من قدرات هذا العقل إنسانياً واجتماعياً، إنه العقل الاجتماعي الذي تسميه الثقافة عقلاً. إن التراجع الذي يتسارع في العالم العربي معرفي في الأساس، يحدث ذلك لأن الثقافة كمفهوم أولاً وكمشروع عملي ثانياً وكشرطٍ حضاري ثالثاً تم اختزالها وتقزيم حضورها داخل هامش صغير لا يكادُ يؤثر وربما لا يكاد يُرى، هكذا أصبحت الثقافة مجرد قطاع مؤسساتي رتيب، تزينه في الحالات الجيدة بعض النشاطات التي لا تصل أبداً إلى مستوى الصناعة الثقافية الرائدة بمفهومها الاقتصادي، والتي باتت تصنفها الأدبيات الاقتصادية اليوم كقطاع اقتصادي رابع... جديدٍ وواعد.
ومع امتداد الصراعات وتعقد القضايا والأزمات، وأمام تحديات الاستهلاك والإكراهات الجيوسياسية في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، أصبحت المسألة الثقافة برمتها قضية ثانوية للغاية لا تكاد تُطرَح سوى من باب التأثيث على طاولات الخطط المسماة «استراتيجية» في بلدانٍ عربية عديدة غير معنية بالتخطيط أصلاً. لقد ظلت هذه البلدان طوال العقود الأخيرة مشغولة بالراهن من الواجبات على حساب الأساسي والجوهري، لكن إدغار موران الفيلسوف الفرنسي الذي اشتهر عنه إيمانه بالتعقيد كفلسفة للفهم سبق أن حذر من التضحية بما هو رئيسي من القضايا لمصلحة المستعجل منها، لأن ذلك يجعلنا ننسى أن القضايا الجوهرية هي دائماً مستعجلة ولا ينبغي مطلقاً تأجيل التعاطي معها. لعل هذا ما حدث ويحدث باستمرار في عالمنا العربي، فلفرط التوجه للمعضلات الهيكلية الطارئة تم التغاضي عن سؤال الثقافة، وخلع الكثيرون عن الثقافة ثوب الجوهرية. لكن التخبط الذي تعيشه البلدان العربية هيكلياً ليس سوى إحدى التمثلات الطبيعية جداً لأسباب أخرى خلقت الأزمة، وكرست مُحددات البوَار الحضاري الذي نعيشه منذ الاستقلال في رحلة بناء الدولة العربية المتعثرة فصولُها حتى الآن، أما الاستثناءات التي تبرز هنا أو هناك فلا يُمكن القياس عليها، غير أن البناء على فكرتها المبدعة هو المطلوب الآن.
* شاعر وكاتب مغربي



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT
20

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!