ألمانيا: مهام كبرى تنتظر حكومة أولاف شولتز

التحالف «الأحمر» و«الأصفر» و«الأخضر» يخوض تحدّي ما بعد ميركل

ألمانيا: مهام كبرى تنتظر حكومة أولاف شولتز
TT

ألمانيا: مهام كبرى تنتظر حكومة أولاف شولتز

ألمانيا: مهام كبرى تنتظر حكومة أولاف شولتز

كما طغت جائحة «كوفيد - 19» على العامين الأخيرين من حكم المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، تبدو الجائحة مسيطرة أيضاً على عمل الحكومة الألمانية الجديدة، ومستشارها أولاف شولتز. فالأخير تسلم مهامه وسط الموجة الرابعة من الجائحة التي تعصف بالبلاد، ويبدو أنها الأشد حتى الآن. وبينما يتفادى شولتز إغلاقا جديداً، وهو الذي جاء إلى سدة السلطة من وزارة المالية، ويعلم بمدى الخراب المالي الذي تسبب به الفيروس في موجاته السابقة، يواجه خيارات صعبة لحماية المواطنين الذين انتخبوه مقابل تفادي إغراق ألمانيا في ديون أكبر.
ووسط كل هذا، وجدت الحكومة الفتية نفسها في الوقت نفسه تواجه تحديات خارجية ليست بسهلة مع حشد روسيا على الحدود مع أوكرانيا والتهديد بغزوها مرة أخرى. كذلك وجدت الحكومة نفسها وسط مواجهة صامتة جديدة مع روسيا قد تحدد قدرتها على الوقوف بحزم بوجه دولة كانت من أكثر الدول التي شغلت ميركل في سنواتها الـ16 التي أمضتها في الحكم.
مع ذلك، فإن شولتز يبدو مصمماً على تنفيذ التعهدات التي أطلقها خلال الحملة الانتخابية من دون التلهي بـ«كوفيد - 19» أو مواجهة روسيا. ففي أول خطاب له كمستشار أمام البرلمان، عرض شولتز خطط حكومته الطموحة، بدءاً من الترويج للطاقة الخضراء إلى تحويل ألمانيا لبلد هجرة، وصولاً إلى رفع الحد الأدنى من المرتبات ومكافحة النقص في السكن.

لا تشبه الحكومة الألمانية الجديدة سابقاتها. فهي ليست حكومة ائتلافية اعتيادية مؤلفة من شريكين يتقاسمان سوياً، بل هي ائتلاف واسع يضم 3 شركاء للمرة الأولى في تاريخ ألمانيا... ثم إن هؤلاء الشركاء الثلاثة لا يشبه بعضهم بعضاً بشيء تقريباً.
حزبان من الأحزاب الثلاثة يتشاركان نظرياً في ميولهما اليسارية المعتدلة، هما الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي)، الذي يقود الائتلاف وشعاره اللون الأحمر، وحزب «الخضر» البيئي. في حين أن الشريك الثالث، الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي)، ولونه التقليدي الأصفر، وسطي معتدل اجتماعياً، لكنه يميني داعم للمبادرة الفردية اقتصادياً ونقدياً.
لكن، على الرغم من هذه الاختلافات، وجدت الأحزاب الثلاثة أرضية مشتركة كانت كافية لجمعها في حكومة واحدة. وحقاً، يتفق راصدو السياسة الألمانية على أنهم مع وجود التباين الظاهر في السياسات والمبادئ المعلنة للأحزاب الثلاثة، فإن ثمة أموراً كثيرة أخرى تجمعها. وتلخّص صورة ذاتية «سلفي» التقطها ممثلو الحزبين الصغيرين خلال المشاورات التي أجريت لتشكيل الحكومة، المشترك بينهم.
إذ ظهر في الصورة زعيما «الخضر»، اللذان دخلا الحكومة الجديدة؛ أنالينا بيربوك وزيرةً للخارجية وروبرت هابيك الذي أصبح نائب المستشار ووزير الاقتصاد، مع كل من زعيم الديمقراطيين الأحرار كريستيان ليندنر الذي بات الآن وزير المالية، وأمين عام حزبه فولكر فيسنغ. وفي تلك الصورة، بدا الأربعة مبتسمين وهم يرتدون ثياباً داكنة اللون غير رسمية، ولم يكن أي من الرجال الثلاثة يرتدي ربطة عنق. ثم إنه... في هذا كثير من المستشار شولتز نفسه، أيضاً، إذ يُعرف عن شولتز تفضيله ارتداء ثياب غير رسمية والتخلي عن ربطة العنق في كثير من الأحيان. أيضاً، كان لافتاً في الصور صغر سن المجتمعين فيها نسبياً. فاثنان منهم (بيربوك وليندنر) في مطلع الأربعينات، بينما كل من هابيك وفيسر في مطلع الخمسينات من العمر.

- حكومة شبابية عصرية
وبالتالي، تحمل هذه الصورة في شكلها إشارات تدل على ملامح الحكومة الجديدة التي خلفت حقبة زعامة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي استمرت 16 سنة. إنها بوضوحٍ حكومة «شبابية عصرية» باهتماماتها وتركيبتها... على رأس أولوياتها تحويل ألمانيا إلى دولة تعتمد على الطاقة المتجددة بنسبة 80 في المائة بحلول العام 2030. وهذه السياسة تنبع من دخول حزب «الخضر» إلى الحكومة، وهو حزب قام أساساً على مبدأ مكافحة التغير المناخي. غير أن الخطة الطموحة هذه تتطلب إنفاقاً ضخماً، ومن غير الواضح حتى الآن من أين ستموّل الحكومة الجديدة «السياسات الخضراء» التي تزمع تطبيقها.
هذا التمويل الضخم قد يتعارض مع الحزب الديمقراطي الحر الذي يمسك بحقيبة وزارة المالية، خاصة أن الحزب يرفض من منطلق عقائدي رفع الضرائب وزيادة الإنفاق العام، على عكس «الخضر» والاشتراكيين. لكن، حتى الآن تفادت الأحزاب الثلاثة الاصطدام المباشر حول هذا الأمر بالاتفاق على الإحجام عن رفع الضرائب، وهي سياسة أراد الاشتراكيون تطبيقها. وكذلك تفادي زيادة الدَّين العام الذي وقعت فيه ألمانيا منذ أزمة «كوفيد - 19» بعد أن كانت ميزانيتها في السنوات الفائتة تسجل فائضاً.
في المقابل، من بين ما يشير أيضاً إلى «عصرية» تفكير الحكومة الجديدة، اتفاق مكوّناتها على اتخاذ خطوات لتحويل ألمانيا إلى «بلد هجرة حقيقي»، وتخليصه من القيود التي تحد من ذلك حتى الآن. ولا يعارض الديمقراطيون الأحرار هذه السياسة رغم أن حزبهم يميني الميول، والسبب هو اقتناعهم بأن ألمانيا بحاجة إلى يد عاملة أجنبية لكي تتمكن من الحفاظ على اقتصادها بالمستوى الحالي. ومن ثم، فإن الهجرة تشكّل الحل العملي الوحيد أمام شيخوخة المجتمع ونقص اليد العاملة في معظم المجالات. ويقود هذا التفكير كون الحزب الديمقراطي الحر «صديقاً لقطاع الأعمال»، وفي صميم أولوياته دعم الاقتصاد وجعل البلاد «صديقة» أكثر للشركات من ناحية الضرائب والتكنولوجيا.

- نقاط وثيقة الائتلاف
هكذا، اتفقت الأحزاب الثلاثة «الأحمر» و«الأخضر» و«الأصفر» على عدة خطوات بهذا التوجه، أدخلتها في وثيقتها الائتلافية المؤلفة من 177 صفحة، وتحدث عن بعضها شولتز أمام البرلمان، عندما عرض حكومته. ولعل أهم هذه النقاط...
- السعي للسماح بالجنسية المزدوجة.
- إلغاء متطلبات التخلي عن الجنسية الأصلية لمن يريد الحصول على الجنسية الألمانية.
- تعهد الحكومة بتقصير الفترة المطلوبة للحصول على الجنسية الألمانية من 8 سنوات إلى 5 سنوات.
- منح الجنسية للمولودين في البلاد بشكل تلقائي، من دون أن تكون هناك ضرورة لإثبات رابط بالدم لألمانيا للحصول على الجنسية.
- تعهد الحكومة بتسهيل الحصول على الجنسية للجيل الأول من العمال الأتراك الذين قدموا إلى ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية كـ«عمال ضيوف» وبقوا في البلاد، وتخفيض متطلبات اللغة الألمانية لهذه الفئة.
وهنا، بالذات، تجدر الإشارة إلى أن كثيرين من هؤلاء ما زالوا من دون جنسية ألمانية، رغم وجودهم في البلاد لعشرات السنين وإنجابهم أطفالاً وأحفاداً أصبحوا هم ألمان. والعائق الأساسي أمام الجيل الأول هو عائق اللغة. ونظراً لمتطلبات اللغة الألمانية العالية التي تشترطها الحكومة للتقدم للحصول على جواز، لم يتمكن عدد كبير من هؤلاء من استيفائها، فهم بجزء كبير منهم غير متعلمين وأميين حتى غير قادرين على الكتابة والقراءة، ما منعهم من اجتياز عقبة امتحان اللغة وتركهم يعيشون في البلاد لعقود من دون جنسية ألمانية. ولقد أثّر ذلك على مشاركة هؤلاء الفاعلة في الحياة السياسية وتركهم أولياء للسياسة التركية التي تحرّكهم عوضاً عن سياسة الدولة التي باتت وطنهم.

- موقف الديمقراطيين الأحرار
ما يستحق الذكر في هذا المجال، أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني كان قد رفض لسنوات تليين موقفه المتعلق بشروط منح الجنسية. وهذا، على الرغم من المناشدات المتكرّرة من أصحاب الأعمال للمساعدة في جلب مهاجرين تحتاج إليهم البلاد التي ينقصها عشرات آلاف العمال في مختلف القطاعات من الطبية إلى التعليمية وصولاً إلى المزارعين وعمال المصانع. غير أن حكومة أنجيلا ميركل (وهي من الديمقراطيين المسيحيين) اعتمدت في عامها الأخيرة سياسة هجرة جديدة اعتبرتها ثورية، تسمح بمنح تأشيرات سفر مؤقتة للساعين للبحث عن العمل والسماح للاجئين بتغيير إقاماتهم والبقاء في ألمانيا في حال تمكنهم من تعلّم اللغة والانخراط في العمل.
بيد أن القانون لم يذهب بعيداً بشكل كافٍ لحل أزمة نقص آلاف الوظائف. ثم إن تمسك «الديمقراطيين المسيحيين» برفض تغيير قانون السماح بجنسيتين جاء بنتائج عكسية، بحسب خبراء. فعوضاً عن أن يعزّز مشاعر الولاء للدولة الألمانية، ساعد بزيادة الشعور بخذلان المجتمع الألماني لمن هم من أصول مهاجرة ونفوره منهم. لكن وصول أكثر من مليون سوري عام 2015 دفع الأحزاب اليسارية لرفع صوتها حول ضرورة تغيير نظام الجنسية، وتحاشي تكرار الأخطاء التي حصلت مع الأتراك الذين جاؤوا عمالاً ضيوفاً... وأصبحوا الآن الجالية المهاجرة الأكبر في البلاد بنحو 4 ملايين نسمة.

- السياسة الخارجية
سياسات داخلية أخرى متقدّمة تعهدت حكومة شولتز بتنفيذها، من زيادة الحد الأدنى للأجور إلى بناء 400 ألف وحدة سكنية سنوياً لمكافحة النقص في عدد المساكن، وغيرها كثير. إلا أن التحديات الأكبر لحكومة شولتز يُرجح أن تأتي من السياسة الخارجية، ولا سيما أن حزب «الخضر» هو مَن تسلم وزارة الخارجية في شخص أنالينا بيربوك. وللعلم، يضع حزب «الخضر» في صلب سياسته الخارجية سياسة أكثر تشدداً مع دول مثل روسيا والصين، ويرفض التسامح معهما فيما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان.
وبالفعل، من أولى الخطوات التي اتخذتها بيربوك، بعد تسلمها منصب وزيرة الخارجية، كان طرد اثنين من الدبلوماسيين الروس. وجاء القرار رداً على الحكم الذي أصدرته محكمة ألمانية بحق رجل استخبارات روسي أدين بقتل معارض في العاصمة الألمانية برلين في وضح النهار، وبأوامر من الكرملين، حسب الحكم الصادر.
كذلك، لا تتردد بيربوك بانتقاد مشروع «نورد ستريم 2» علناً، وتصفه بأنه خطأ ويجب وقفه. وهذا المشروع الذي يوصل الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا عبر أنابيب مُدّت تحت مياه بحر البلطيق، انتهى العمل به في سبتمبر (أيلول) الماضي بعدما رفعت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، بشروط، عقوبات كانت فرضتها إدارة سابقتها أيام دونالد ترمب عليه، خشية من زيادة التأثير الروسي على أوروبا.
ويذكر أن أنجيلا ميركل كانت متمسكة بالمشروع، الذي لم يلقَ اعتراضاً أميركياً فقط بل أوروبياً كذلك، وبقيت تقول إنه مشروع اقتصادي بحت، ولن يكون له أي تأثير سياسي. ورفضت المستشارة السابقة أن تذعن أمام العقوبات الأميركية التي فرضها ترمب.
أما الآن، بعدما رُفعت العقوبات وبات المشروع جاهزاً للعمل، قرّرت الهيئة الحكومية في ألمانيا المخولة منح المشروع المملوك لشركة غاز بروم الروسية وقف دراسة منح المشروع الترخيص الشهر الماضي. وبرّرت الهيئة قرارها بأن الشركة لم تستوفِ بعد الشروط المطلوبة بحسب القانون الألماني. وللعلم، يفترض أن تكون الشركة المشغلة للأنابيب مختلفة عن الشركة التي ترسل الغاز... لتفادي الاحتكار. وكانت الهيئة الألمانية قد منحت شركة غاز بروم وقتاً إضافياً لتسجيل الأنابيب باسم شركة أخرى تؤسس في ألمانيا بمجلس إدارة منفصل، قبل إعادة النظر في منحها الترخيص.
لكن البعض يعتقد أن قرار ألمانيا وقف العمل بالمشروع قرار سياسي جاء بضغوط من الإدارة الأميركية بسبب الحشد الروسي على الحدود مع أوكرانيا، وإن كان شولتز يصرّ على أن القرار غير سياسي... وأنه بيد هيئة رقابية. وكان شولتز، في أول زيارة خارجية إلى فرنسا أجراها بعد انتخابه مستشاراً، قد قال في مؤتمر صحافي مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون - المعارض للمشروع - إن «مشروع نورد ستريم 2» مشروع يتعلق بالقطاع الخاص، وقد تقدم إلى نقطة انتهاء مدّ الأنابيب. والآن هناك هيئة في ألمانيا تقرر بطريقة غير سياسية بتاتاً منحه التراخيص. ورفض شولتز الربط بين المشروع والتصعيد ضد روسيا في حال تقدمت قواتها داخل أوكرانيا، معتبراً أن «هذه مسألة مختلفة».
أخيراً، حملت الزيارة الخارجية الأولى التي قام بها كل من شولتز كمستشار وبيربوك كوزيرة للخارجية إلى باريس، «ثم بروكسل، وبعدها وارسو»، تأكيداً على أن الثنائية الألمانية الفرنسية لن تتغير بعد رحيل ميركل، وبأن الدولتين ما زالتا الشريكين الأهم في أوروبا.
وكانت زيارة بروكسل ولقاء الزعيمين بأورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية (وهي وزير الدفاع الألمانية سابقاً)، للتأكيد على إيمان ألمانيا بالوحدة الأوروبية. وبعد ذلك، كان لقاؤهما بينس ستولتنبرغ، أمين عام حلف شمال الأطلسي «ناتو» في بروكسل، ثم زيارة وارسو، رسالة إلى موسكو بأن حكومة شولتز قد لا تكون متسامحة معها، كما كانت ميركل.



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.