ألمانيا: مهام كبرى تنتظر حكومة أولاف شولتز

التحالف «الأحمر» و«الأصفر» و«الأخضر» يخوض تحدّي ما بعد ميركل

ألمانيا: مهام كبرى تنتظر حكومة أولاف شولتز
TT

ألمانيا: مهام كبرى تنتظر حكومة أولاف شولتز

ألمانيا: مهام كبرى تنتظر حكومة أولاف شولتز

كما طغت جائحة «كوفيد - 19» على العامين الأخيرين من حكم المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، تبدو الجائحة مسيطرة أيضاً على عمل الحكومة الألمانية الجديدة، ومستشارها أولاف شولتز. فالأخير تسلم مهامه وسط الموجة الرابعة من الجائحة التي تعصف بالبلاد، ويبدو أنها الأشد حتى الآن. وبينما يتفادى شولتز إغلاقا جديداً، وهو الذي جاء إلى سدة السلطة من وزارة المالية، ويعلم بمدى الخراب المالي الذي تسبب به الفيروس في موجاته السابقة، يواجه خيارات صعبة لحماية المواطنين الذين انتخبوه مقابل تفادي إغراق ألمانيا في ديون أكبر.
ووسط كل هذا، وجدت الحكومة الفتية نفسها في الوقت نفسه تواجه تحديات خارجية ليست بسهلة مع حشد روسيا على الحدود مع أوكرانيا والتهديد بغزوها مرة أخرى. كذلك وجدت الحكومة نفسها وسط مواجهة صامتة جديدة مع روسيا قد تحدد قدرتها على الوقوف بحزم بوجه دولة كانت من أكثر الدول التي شغلت ميركل في سنواتها الـ16 التي أمضتها في الحكم.
مع ذلك، فإن شولتز يبدو مصمماً على تنفيذ التعهدات التي أطلقها خلال الحملة الانتخابية من دون التلهي بـ«كوفيد - 19» أو مواجهة روسيا. ففي أول خطاب له كمستشار أمام البرلمان، عرض شولتز خطط حكومته الطموحة، بدءاً من الترويج للطاقة الخضراء إلى تحويل ألمانيا لبلد هجرة، وصولاً إلى رفع الحد الأدنى من المرتبات ومكافحة النقص في السكن.

لا تشبه الحكومة الألمانية الجديدة سابقاتها. فهي ليست حكومة ائتلافية اعتيادية مؤلفة من شريكين يتقاسمان سوياً، بل هي ائتلاف واسع يضم 3 شركاء للمرة الأولى في تاريخ ألمانيا... ثم إن هؤلاء الشركاء الثلاثة لا يشبه بعضهم بعضاً بشيء تقريباً.
حزبان من الأحزاب الثلاثة يتشاركان نظرياً في ميولهما اليسارية المعتدلة، هما الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي)، الذي يقود الائتلاف وشعاره اللون الأحمر، وحزب «الخضر» البيئي. في حين أن الشريك الثالث، الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي)، ولونه التقليدي الأصفر، وسطي معتدل اجتماعياً، لكنه يميني داعم للمبادرة الفردية اقتصادياً ونقدياً.
لكن، على الرغم من هذه الاختلافات، وجدت الأحزاب الثلاثة أرضية مشتركة كانت كافية لجمعها في حكومة واحدة. وحقاً، يتفق راصدو السياسة الألمانية على أنهم مع وجود التباين الظاهر في السياسات والمبادئ المعلنة للأحزاب الثلاثة، فإن ثمة أموراً كثيرة أخرى تجمعها. وتلخّص صورة ذاتية «سلفي» التقطها ممثلو الحزبين الصغيرين خلال المشاورات التي أجريت لتشكيل الحكومة، المشترك بينهم.
إذ ظهر في الصورة زعيما «الخضر»، اللذان دخلا الحكومة الجديدة؛ أنالينا بيربوك وزيرةً للخارجية وروبرت هابيك الذي أصبح نائب المستشار ووزير الاقتصاد، مع كل من زعيم الديمقراطيين الأحرار كريستيان ليندنر الذي بات الآن وزير المالية، وأمين عام حزبه فولكر فيسنغ. وفي تلك الصورة، بدا الأربعة مبتسمين وهم يرتدون ثياباً داكنة اللون غير رسمية، ولم يكن أي من الرجال الثلاثة يرتدي ربطة عنق. ثم إنه... في هذا كثير من المستشار شولتز نفسه، أيضاً، إذ يُعرف عن شولتز تفضيله ارتداء ثياب غير رسمية والتخلي عن ربطة العنق في كثير من الأحيان. أيضاً، كان لافتاً في الصور صغر سن المجتمعين فيها نسبياً. فاثنان منهم (بيربوك وليندنر) في مطلع الأربعينات، بينما كل من هابيك وفيسر في مطلع الخمسينات من العمر.

- حكومة شبابية عصرية
وبالتالي، تحمل هذه الصورة في شكلها إشارات تدل على ملامح الحكومة الجديدة التي خلفت حقبة زعامة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي استمرت 16 سنة. إنها بوضوحٍ حكومة «شبابية عصرية» باهتماماتها وتركيبتها... على رأس أولوياتها تحويل ألمانيا إلى دولة تعتمد على الطاقة المتجددة بنسبة 80 في المائة بحلول العام 2030. وهذه السياسة تنبع من دخول حزب «الخضر» إلى الحكومة، وهو حزب قام أساساً على مبدأ مكافحة التغير المناخي. غير أن الخطة الطموحة هذه تتطلب إنفاقاً ضخماً، ومن غير الواضح حتى الآن من أين ستموّل الحكومة الجديدة «السياسات الخضراء» التي تزمع تطبيقها.
هذا التمويل الضخم قد يتعارض مع الحزب الديمقراطي الحر الذي يمسك بحقيبة وزارة المالية، خاصة أن الحزب يرفض من منطلق عقائدي رفع الضرائب وزيادة الإنفاق العام، على عكس «الخضر» والاشتراكيين. لكن، حتى الآن تفادت الأحزاب الثلاثة الاصطدام المباشر حول هذا الأمر بالاتفاق على الإحجام عن رفع الضرائب، وهي سياسة أراد الاشتراكيون تطبيقها. وكذلك تفادي زيادة الدَّين العام الذي وقعت فيه ألمانيا منذ أزمة «كوفيد - 19» بعد أن كانت ميزانيتها في السنوات الفائتة تسجل فائضاً.
في المقابل، من بين ما يشير أيضاً إلى «عصرية» تفكير الحكومة الجديدة، اتفاق مكوّناتها على اتخاذ خطوات لتحويل ألمانيا إلى «بلد هجرة حقيقي»، وتخليصه من القيود التي تحد من ذلك حتى الآن. ولا يعارض الديمقراطيون الأحرار هذه السياسة رغم أن حزبهم يميني الميول، والسبب هو اقتناعهم بأن ألمانيا بحاجة إلى يد عاملة أجنبية لكي تتمكن من الحفاظ على اقتصادها بالمستوى الحالي. ومن ثم، فإن الهجرة تشكّل الحل العملي الوحيد أمام شيخوخة المجتمع ونقص اليد العاملة في معظم المجالات. ويقود هذا التفكير كون الحزب الديمقراطي الحر «صديقاً لقطاع الأعمال»، وفي صميم أولوياته دعم الاقتصاد وجعل البلاد «صديقة» أكثر للشركات من ناحية الضرائب والتكنولوجيا.

- نقاط وثيقة الائتلاف
هكذا، اتفقت الأحزاب الثلاثة «الأحمر» و«الأخضر» و«الأصفر» على عدة خطوات بهذا التوجه، أدخلتها في وثيقتها الائتلافية المؤلفة من 177 صفحة، وتحدث عن بعضها شولتز أمام البرلمان، عندما عرض حكومته. ولعل أهم هذه النقاط...
- السعي للسماح بالجنسية المزدوجة.
- إلغاء متطلبات التخلي عن الجنسية الأصلية لمن يريد الحصول على الجنسية الألمانية.
- تعهد الحكومة بتقصير الفترة المطلوبة للحصول على الجنسية الألمانية من 8 سنوات إلى 5 سنوات.
- منح الجنسية للمولودين في البلاد بشكل تلقائي، من دون أن تكون هناك ضرورة لإثبات رابط بالدم لألمانيا للحصول على الجنسية.
- تعهد الحكومة بتسهيل الحصول على الجنسية للجيل الأول من العمال الأتراك الذين قدموا إلى ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية كـ«عمال ضيوف» وبقوا في البلاد، وتخفيض متطلبات اللغة الألمانية لهذه الفئة.
وهنا، بالذات، تجدر الإشارة إلى أن كثيرين من هؤلاء ما زالوا من دون جنسية ألمانية، رغم وجودهم في البلاد لعشرات السنين وإنجابهم أطفالاً وأحفاداً أصبحوا هم ألمان. والعائق الأساسي أمام الجيل الأول هو عائق اللغة. ونظراً لمتطلبات اللغة الألمانية العالية التي تشترطها الحكومة للتقدم للحصول على جواز، لم يتمكن عدد كبير من هؤلاء من استيفائها، فهم بجزء كبير منهم غير متعلمين وأميين حتى غير قادرين على الكتابة والقراءة، ما منعهم من اجتياز عقبة امتحان اللغة وتركهم يعيشون في البلاد لعقود من دون جنسية ألمانية. ولقد أثّر ذلك على مشاركة هؤلاء الفاعلة في الحياة السياسية وتركهم أولياء للسياسة التركية التي تحرّكهم عوضاً عن سياسة الدولة التي باتت وطنهم.

- موقف الديمقراطيين الأحرار
ما يستحق الذكر في هذا المجال، أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني كان قد رفض لسنوات تليين موقفه المتعلق بشروط منح الجنسية. وهذا، على الرغم من المناشدات المتكرّرة من أصحاب الأعمال للمساعدة في جلب مهاجرين تحتاج إليهم البلاد التي ينقصها عشرات آلاف العمال في مختلف القطاعات من الطبية إلى التعليمية وصولاً إلى المزارعين وعمال المصانع. غير أن حكومة أنجيلا ميركل (وهي من الديمقراطيين المسيحيين) اعتمدت في عامها الأخيرة سياسة هجرة جديدة اعتبرتها ثورية، تسمح بمنح تأشيرات سفر مؤقتة للساعين للبحث عن العمل والسماح للاجئين بتغيير إقاماتهم والبقاء في ألمانيا في حال تمكنهم من تعلّم اللغة والانخراط في العمل.
بيد أن القانون لم يذهب بعيداً بشكل كافٍ لحل أزمة نقص آلاف الوظائف. ثم إن تمسك «الديمقراطيين المسيحيين» برفض تغيير قانون السماح بجنسيتين جاء بنتائج عكسية، بحسب خبراء. فعوضاً عن أن يعزّز مشاعر الولاء للدولة الألمانية، ساعد بزيادة الشعور بخذلان المجتمع الألماني لمن هم من أصول مهاجرة ونفوره منهم. لكن وصول أكثر من مليون سوري عام 2015 دفع الأحزاب اليسارية لرفع صوتها حول ضرورة تغيير نظام الجنسية، وتحاشي تكرار الأخطاء التي حصلت مع الأتراك الذين جاؤوا عمالاً ضيوفاً... وأصبحوا الآن الجالية المهاجرة الأكبر في البلاد بنحو 4 ملايين نسمة.

- السياسة الخارجية
سياسات داخلية أخرى متقدّمة تعهدت حكومة شولتز بتنفيذها، من زيادة الحد الأدنى للأجور إلى بناء 400 ألف وحدة سكنية سنوياً لمكافحة النقص في عدد المساكن، وغيرها كثير. إلا أن التحديات الأكبر لحكومة شولتز يُرجح أن تأتي من السياسة الخارجية، ولا سيما أن حزب «الخضر» هو مَن تسلم وزارة الخارجية في شخص أنالينا بيربوك. وللعلم، يضع حزب «الخضر» في صلب سياسته الخارجية سياسة أكثر تشدداً مع دول مثل روسيا والصين، ويرفض التسامح معهما فيما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان.
وبالفعل، من أولى الخطوات التي اتخذتها بيربوك، بعد تسلمها منصب وزيرة الخارجية، كان طرد اثنين من الدبلوماسيين الروس. وجاء القرار رداً على الحكم الذي أصدرته محكمة ألمانية بحق رجل استخبارات روسي أدين بقتل معارض في العاصمة الألمانية برلين في وضح النهار، وبأوامر من الكرملين، حسب الحكم الصادر.
كذلك، لا تتردد بيربوك بانتقاد مشروع «نورد ستريم 2» علناً، وتصفه بأنه خطأ ويجب وقفه. وهذا المشروع الذي يوصل الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا عبر أنابيب مُدّت تحت مياه بحر البلطيق، انتهى العمل به في سبتمبر (أيلول) الماضي بعدما رفعت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، بشروط، عقوبات كانت فرضتها إدارة سابقتها أيام دونالد ترمب عليه، خشية من زيادة التأثير الروسي على أوروبا.
ويذكر أن أنجيلا ميركل كانت متمسكة بالمشروع، الذي لم يلقَ اعتراضاً أميركياً فقط بل أوروبياً كذلك، وبقيت تقول إنه مشروع اقتصادي بحت، ولن يكون له أي تأثير سياسي. ورفضت المستشارة السابقة أن تذعن أمام العقوبات الأميركية التي فرضها ترمب.
أما الآن، بعدما رُفعت العقوبات وبات المشروع جاهزاً للعمل، قرّرت الهيئة الحكومية في ألمانيا المخولة منح المشروع المملوك لشركة غاز بروم الروسية وقف دراسة منح المشروع الترخيص الشهر الماضي. وبرّرت الهيئة قرارها بأن الشركة لم تستوفِ بعد الشروط المطلوبة بحسب القانون الألماني. وللعلم، يفترض أن تكون الشركة المشغلة للأنابيب مختلفة عن الشركة التي ترسل الغاز... لتفادي الاحتكار. وكانت الهيئة الألمانية قد منحت شركة غاز بروم وقتاً إضافياً لتسجيل الأنابيب باسم شركة أخرى تؤسس في ألمانيا بمجلس إدارة منفصل، قبل إعادة النظر في منحها الترخيص.
لكن البعض يعتقد أن قرار ألمانيا وقف العمل بالمشروع قرار سياسي جاء بضغوط من الإدارة الأميركية بسبب الحشد الروسي على الحدود مع أوكرانيا، وإن كان شولتز يصرّ على أن القرار غير سياسي... وأنه بيد هيئة رقابية. وكان شولتز، في أول زيارة خارجية إلى فرنسا أجراها بعد انتخابه مستشاراً، قد قال في مؤتمر صحافي مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون - المعارض للمشروع - إن «مشروع نورد ستريم 2» مشروع يتعلق بالقطاع الخاص، وقد تقدم إلى نقطة انتهاء مدّ الأنابيب. والآن هناك هيئة في ألمانيا تقرر بطريقة غير سياسية بتاتاً منحه التراخيص. ورفض شولتز الربط بين المشروع والتصعيد ضد روسيا في حال تقدمت قواتها داخل أوكرانيا، معتبراً أن «هذه مسألة مختلفة».
أخيراً، حملت الزيارة الخارجية الأولى التي قام بها كل من شولتز كمستشار وبيربوك كوزيرة للخارجية إلى باريس، «ثم بروكسل، وبعدها وارسو»، تأكيداً على أن الثنائية الألمانية الفرنسية لن تتغير بعد رحيل ميركل، وبأن الدولتين ما زالتا الشريكين الأهم في أوروبا.
وكانت زيارة بروكسل ولقاء الزعيمين بأورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية (وهي وزير الدفاع الألمانية سابقاً)، للتأكيد على إيمان ألمانيا بالوحدة الأوروبية. وبعد ذلك، كان لقاؤهما بينس ستولتنبرغ، أمين عام حلف شمال الأطلسي «ناتو» في بروكسل، ثم زيارة وارسو، رسالة إلى موسكو بأن حكومة شولتز قد لا تكون متسامحة معها، كما كانت ميركل.



غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.