تنطلق اليوم رئاسة فرنسا، طيلة ستة أشهر، لمجلس الاتحاد الأوروبي فيما تتحضر للانتخابات الرئاسية التي ستجرى دورتها الأولى بعد مائة يوم. ومنذ اليوم الأول، سيحمل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ثلاث «قبعات» رئاسية: الأولى، رئاسة فرنسا التي تنتهي عمليا بعد انتخابات الربيع القادم، والتي يتعين عليه، خلال ما تبقى له من شهور، مواجهة جائحة (كوفيد - 19) ومتحورها «أوميكرون» الذي وصفه وزير الصحة أوليفيه فيران بـ«التسونامي»؛ نظرا لعشرات الآلاف من الإصابات اليومية التي يوقعها. وقبعته الثانية رئاسة الاتحاد الأوروبي الذي يواجه جملة تحديات داخلية وخارجية ليس أقلها التهميش الاستراتيجي والجيوسياسي وعبء التعافي الاقتصادي والانقسامات الداخلية. وثالث القبعات خاصة بالمرشح ماكرون لولاية ثانية من خمس سنوات. ورغم أنه الوحيد الذي لم يعلن ترشحه رسميا لحسابات سياسية، فإن ماكينته الانتخابية جاهزة للانطلاق حالما تحصل على الضوء الأخضر.
ويلج ماكرون هذه المرحلة التي توفر له منصة استثنائية ليقدم نفسه على أنه الشخص الأكثر تأهيلا للإمساك بالدفة الأوروبية بعد الفراغ الذي أحدثه انسحاب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من المسرح السياسي الأوروبي. وثمة قناعة أن الرئيس الفرنسي يتحلى بمجموعة من الصفات التي تبرر طموحاته: فهو من جهة، يزخر بدينامية ورغبة إصلاحية ونزوع أوروبي لا جدل بشأنها. وأثبتت السنوات الخمس غير المكتملة حتى اليوم التي أمضاها في قصر الإليزيه ثبات قناعاته الأوروبية، والدليل على ذلك المشاريع والمقترحات التي طرحها أوروبيا منذ وصوله إلى الرئاسة. ومن جهة ثانية، تتوافر لـماكرون صفتان متصلتان: الأولى، شبابه وما تعنيه بالنسبة لطموحات الأجيال الشابة. والثانية الخبرة التي اكتسبها في سنوات رئاسته والصعوبات التي واجهها داخليا وخارجيا. يضاف إلى ذلك أمران أساسيان: الأول، أن ماكرون لم ينتظر حتى الأول من يناير (كانون الثاني) ليطرح تصوره والمشاريع التي يريد دفعها إلى الأمام خلال رئاسة الأشهر الستة. ذلك أنه، منتصف الشهر الماضي، عقد مؤتمرا صحافيا من ساعتين عرض فيه أولويات رئاسته الأوروبية ومحطاتها الرئيسية ومجموعة القمم والاجتماعات التي يتم التحضير لها والتي تزيد على 400 حدث، موزعة على باريس والمدن الفرنسية الرئيسية وفي الخارج وتحديدا في بروكسل. والثاني، استشعاره بعدم وجود منافس جدي له. ذلك أن الاسمين اللذين قد يكونان مؤهلين لخلافة ميركل هما المستشار الألماني الجديد أولاف شولتز ورئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي. والحال، أن الأول لم يمض عليه سوى شهر في منصبه، كما أنه غير معروف لا على المسرح الأوروبي ولا على المسرح الدولي. والمنصب الوزاري الوحيد الذي شغله المستشار الجديد هو وزارة المال في العام 2019، يضاف إلى ذلك أن شولتز يرأس حكومة ائتلافية ثلاثية «حزبه الاشتراكي الديمقراطي والخضر والحزب الليبرالي»، الأمر الذي يجعله مقيد اليدين إلى حد بعيد وملزما بالتفاوض والمساومة مع شريكيه في كل مشروع يتقدم به في الداخل أو الخارج ما يعد عائقا ليكون خليفة ميركل. أما دراغي الذي رأس البنك المركزي الأوروبي ما بين العام 2011 والعام 2019 والحكومة الإيطالية منذ عام، فهو منافس جدي للرئيس ماكرون. إلا أن المؤشرات تدل على رغبته في أن يحتل مقعد رئاسة الجمهورية الإيطالية الذي هو منصب «شرفي» أو بروتوكولي إلى حد بعيد.
لا شك أن رئاسة الاتحاد يمكن أن تشكل رافعة لطموحات ماكرون الأوروبية. بيد أن ذلك مربوط بشرطين: الأول، أن ينجح في إدارة الأزمة الجديدة المستفحلة والمتمثلة بوباء «أوميكرون». ويقيم العديد من المتابعين للشأن السياسي في فرنسا مقارنة بين ماكرون والرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب الذي كان مؤهلا للفوز بولاية ثانية لو لم يقض (كوفيد - 19) على إنجازاته الاقتصادية، ولو نجح في التعامل معه بشكل علمي. من هنا، فإن ماكرون وحكومته اللذين يسيران على حبل مشدود، حريصان على المواءمة بين المحافظة على صحة المواطنين ولجم انتشار الوباء ومنع تساقط المزيد من الضحايا من جهة، ومن جهة أخرى تمكين الحياة الاقتصادية والحياتية والتربوية والاجتماعية من الاستمرار بشكل طبيعي قدر الإمكان. أما الشرط الثاني والحاسم، فهو قدرته على الفوز في الانتخابات القادمة. والحال أن ما كان يعد الصيف الماضي أمرا مفروغا منه، تغيرت ظروفه اليوم مع بروز اسم فاليري بيكريس، مرشحة اليمين الكلاسيكي، حيث أعاد ذلك خلط الأمور. يضاف إلى ذلك أن اليمين المتطرف بمرشحيه مارين لوبان وإريك زيمور فرض مواضيع الهجرات والإرهاب والإسلام السياسي والحفاظ على الهوية كمحاور أساسية للانتخابات القادمة، وهو يرى فيها نقاط ضعف في رئاسة ماكرون ومدخلا لإضعافه. وإذا كانت كافة استطلاعات الرأي تظهر أن ماكرون سيجتاز بسهولة الجولة الأولى من الانتخابات متقدما على بيكريس ولوبان وزيمور، إلا أن فوزه في الجولة الثانية لم يعد مؤكدا كما في السابق، وهناك عدد من استطلاعات الرأي تتوقع فوز بيكريس. لكن يتعين التذكير بأن استطلاعات الرأي أخطأت في الماضي، ويمكن أن تكون مخطئة اليوم. بالمقابل، فإن الثابت اليوم أن نتيجة المعركة الرئاسية لم تعد محسومة وسيكون على ماكرون أن يدير، في وقت واحد، معركته الانتخابية ورئاسته الأوروبية التي ستساعده، بكل تأكيد، على أن يكون دائم الحضور السياسي والإعلامي، وعلى أن يقدم نفسه على أنه «القاطرة» التي تدفع الاتحاد الأوروبي إلى الأمام.
لا يخفي الرئيس الفرنسي طموحاته الأوروبي: فهو يريد، بشكل رئيسي، الدفع باتجاه قيام «أوروبا قوية، ذات سيادة كاملة وحرة في قراراتها» ويريد بمناسبة انعقاد قمة رؤساء الدول والحكومات منتصف مارس (آذار) القادم، في مدينة فرنسية لم تحدد حتى اليوم، العمل على تبني ما يسمى «البوصلة الاستراتيجية» لأوروبا التي يفترض أن تمكنها من تعزيز استقلاليتها الاستراتيجية وتعزيز صناعاتها الدفاعية، وبناء قوة تمكنها من التدخل في الجوار الأوروبي. وتعزيز السيادة يعني الدفاع عن حدود أوروبا الخارجية وتعديل اتفاقية شنغن للتنقل الحر والاهتمام بأفريقيا ومنطقة البلقان الغربية. واقتصاديا، سيسعى ماكرون لتعديل قاعدة إبقاء العجز في ميزان المدفوعات تحت نسبة 3 في المائة لتعزيز التعافي الاقتصادي والتوصل إلى تعميم الحد الأدنى للأجور أوروبيا وفرض ضريبة الكربون على الحدود، وضبط عمالقة الإنترنت، وفرض ضرائب أوروبية موحدة عليهم.
بيد أن الأهم بالنسبة للرئيس الفرنسي المولع بالاستراتيجيات يكمن في إسماع صوت أوروبا في عالم يهيمن عليه ثلاثة أقطاب: الولايات المتحدة والصين وروسيا، وأن يتمكن من أن تؤخذ المصالح الأوروبية بعين الاعتبار، وألا تبقى القارة القديمة عملاقا اقتصاديا ــ تجاريا لكن برجلين من طين.
وأكدت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك في بيان الجمعة دعمها الكامل لفرنسا في رئاستها الدورية للتكتل، مشيرة إلى أنها تقاسم باريس هدفها في التوصل إلى أوروبا «ذات سيادة أكبر». وقالت بيربوك: «يمكن لأصدقائنا الفرنسيين الاعتماد على دعمنا من أول يوم إلى آخر يوم لإرساء الأسس الصحيحة داخل الاتحاد الأوروبي: من أجل انتعاش اقتصادي دائم وفي مكافحة أزمة المناخ وفي القطاع الرقمي، ومن أجل أوروبا ذات سيادة أكبر في العالم». وقالت بيربوك إن الرئاسة الفرنسية تشكل «فرصة مهمة نريد أن نغتنمها معا لتعزيزها وجعلها قادرة على مواجهة تحديات الغد». وأضافت أن ألمانيا وفرنسا «باعتبارهما أقرب صديقتين في قلب أوروبا تتحملان مسؤولية خاصة تجاه اتحاد أوروبي موحد وقادر على العمل وموجه نحو المستقبل». وتتزامن الرئاسة الفرنسية لمجلس الاتحاد الأوروبي مع الرئاسة الألمانية لمجموعة السبع التي تبدأ أيضاً في الأول من يناير أيضا.
فرنسا تتسلم رئاسة الاتحاد الأوروبي... وماكرون للإمساك بدفته
برلين تدعمها وتعد دور باريس فرصة من أجل تكتل «ذي سيادة أكبر» في العالم
فرنسا تتسلم رئاسة الاتحاد الأوروبي... وماكرون للإمساك بدفته
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة