«الفدية مقابل الحياة»... قصص مروعة عن خطف المهاجرين في ليبيا

ترصد حكايات مؤلمة عن تعرضهم للاغتصاب والتعذيب والاتجار بأعضائهم

مهاجرون غير نظاميين خلال عملية ترحليهم إلى أحد مراكز الاحتجاز في طرابلس بعد إنقاذهم من الغرق (غيتي)
مهاجرون غير نظاميين خلال عملية ترحليهم إلى أحد مراكز الاحتجاز في طرابلس بعد إنقاذهم من الغرق (غيتي)
TT

«الفدية مقابل الحياة»... قصص مروعة عن خطف المهاجرين في ليبيا

مهاجرون غير نظاميين خلال عملية ترحليهم إلى أحد مراكز الاحتجاز في طرابلس بعد إنقاذهم من الغرق (غيتي)
مهاجرون غير نظاميين خلال عملية ترحليهم إلى أحد مراكز الاحتجاز في طرابلس بعد إنقاذهم من الغرق (غيتي)

في قرية كفر أبو نجم بدلتا مصر، كان شبح الموت يخيم على كل الأنحاء، فالأخبار الواردة من ليبيا مُغلفة برائحة الدم، والجميع يتلمس في ذعر أي نبأ عن الشبان، الذين سافروا سراً قصد الهجرة إلى أوروبا، لكن ابتلعهم البحر المتوسط أمام ساحل مدينة الزاوية (غرب).
ومع مرور أيام قليلة غلب عليها اليأس والقهر، بدت الأوضاع على الجانب الآخر قاتمة ومريعة، فبعض الذين نجوا من الغرق «يُعذبون بأعواد من حديد، ويكتوون بالنار» في معسكر «بئر الغنم» لتجميع المهاجرين غير النظاميين، الواقع جنوب غربي العاصمة طرابلس.
هذه الفاجعة، التي ستتكشف تفاصيلها فيما بعد، مجرد نموذج مصغر لعشرات الجرائم التي يتعرض لها المهاجرون، الذين يتسربون داخل ليبيا عبر الصحراء المترامية، قادمين إليها من مسارات وعواصم مختلفة. البعض منهم يُقضى غرقاً، أو يصل إلى «الفردوس الأوروبي»، وإما يُغيب داخل سجون، و«كمبوهات» (عنابر ضيقة مسقوفة بألواح الخشب ورقائق الصاج) تابعة لعصابات التهريب، منتظرين مصيراً غامضاً، ربما يكون أسوأ من الموت بين طيات أمواج البحر.
ومسارات التهريب جميعها تتحكم فيها مافيا كبيرة، متشعبة محلياً وإقليمياً، وتصب داخل الحدود الليبية، ومنها إلى مدن غرب البلاد، مُطلة على ساحل البحر الأبيض، مثل صبراتة وزوارة والزاوية والقرة بوللي، إذ إن القادم من مصر والسودان والصومال قد يلتقي مع من جاء عبر تشاد والنيجر، ويلحق بهم القادم من غانا وساحل العاج، وجميعهم يظلون منذ خروجهم من ديارهم في عهدة «السمسار»، الذي يسلك بهم الدروب الوعرة إلى أن يستقروا في ليبيا، بعيداً عن أعين السلطات الأمنية. لكن إذا وقعوا في قبضة العصابات المتاجرة بالبشر، فالأمر قد يختلف كلياً لأنهم سيكونون حينها في حُكم الأموات، إذ إن كل شيء لدى هذه (المافيا) له ثمن... الحياة، وحتى دخول المرحاض، و«شربة الماء»، التي قد تضطر بعض النساء لدفع ثمنها من شرفهن، أو يتجرعن مياهاً ملوثة، لأن هناك يُجرى الاستثمار في «اللحم الحي» للمهاجرين.
وقائع هذا التحقيق جرت بين محافظات بدلتا مصر، ومناطق ليبية عدة، بقصد توثيق عملية تهريب البشر والمتاجرة فيهم، وكيف يقعون «كورقة رابحة» في قبضة ثنائي (المافيا) و(السماسرة)، ليتم المقايضة بهم، قبل أن ينالوا في أغلب الأحيان قسطاً وافراً من العذاب، والتغييب لأشهر عدة في الأقبية المجهولة و«الكمبوهات» السرية.
«الشرق الأوسط» رصدت جانبا من قصص تعذيب دامية تُرتكب داخل معسكرات للهجرة غير النظامية، تبدأ بضرب المهاجرين بالسياط والمواسير الحديدية، وتنتهي بحرق أجسادهم بالنار لإجبار أسرهم على دفع الفدية المطلوبة لإطلاق سراحهم، وقد يتطور الأمر فيخضعون للتخدير وانتزاع أعضائهم البشرية وبيعها حسب الطلب؛ وبعض هذه الجرائم يُرتكب داخل مقار رسمية للاحتجاز بطرابلس، من بينها غوط الشعال، والبعض الآخر يتم في معسكرات تشرف عليها مجموعات مسلحة، أو بمخازن سرية يُكدسون فيها انتظاراً لساعة التنفيذ.

صورة نشرها النائب العام الليبي لمهاجرين تعرضوا للتعذيب (الشرق الأوسط)

مأتم أبناء العم

كانت حرارة شهر يوليو (تموز) في مصر قد تجاوزت الأربعين درجة مئوية بقليل، وابنا العم حسن صلاح عطية (30 عاما)، وحسين حاتم عطية (19 عاماً)، يقطعان قرابة (750 كيلومتراً)، في أولى خطوات تحقيق حلمهما بالسفر إلى «الجنة الأوروبية الموعودة»، من قرية أبو نجم بمحافظة الشرقية، إلى مدينة السلوم، القريبة من الحدود الغربية مع ليبيا، ولا يحملان معهما سوى قليل من الزاد والملابس وبعض النقود.
هناك على جانبي طريق صحراوي، التقيا مع مصريين آخرين، حيث سلك بهم «سمسار الرحلة» المأجور طرقاً ودروباً لمدة خمسة أيام، تنقلوا خلالها من حافلة إلى أخرى، ومن مخزن لآخر، حتى انتهت مهمته معهم عند دخولهم الحدود الليبية. ومن هذه النقطة بدأت رحلة «شاقة محفوفة بالمخاطر والأهوال»، روتها لنا نورا سليم، ابنة عم حسن وحسين.
أخبرتنا نورا، ابنة الثلاثين ربيعا، أن ابني عميها أرادا تحسين نمط عيش أسرتيهما، كباقي أبناء كفر أبو نجم وقرى مجاورة أخرى في الشرقية عبر السفر إلى إيطاليا: «وصل إيطاليا مصريون كثيرون وهم يعملون الآن، وأصبحت أوضاع أسرهم جيدة». وأضافت بنبرة حزينة: «عائلتي تعيش حالياً أياماً قاسية؛ وتندم على ما حدث. فبعد تلقي أول اتصال هاتفي من حسن وحسين نهاية أغسطس (آب) الماضي، علمنا من مصريين في غرب ليبيا أن القارب الذي كان يقلهما مع آخرين انقلب في البحر، وغرقوا جميعهم، فأقمنا لهما مأتماً وتلقينا العزاء».
ومع حالة الحزن التي سادت قرية كفر أبو نجم لموت حسين وابن عمه حسن، الذي ترك وراءه طفلاً رضيعاً، بقي لدى أسرتيهما أمل في أن يكونا لا يزالان على قيد الحياة.
ووفقاً لبيانات وزارة الداخلية بحكومة «الوحدة الوطنية» الليبية، يوجد في جميع أنحاء البلاد أكثر من 575 ألف مهاجر غير نظامي، بينهم 6200 يحتجزون في مراكز للإيواء، يديرها جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية التابع للوزارة.

عصابة «الحاج حكيم»

المصير الغامض لابني العم حسن وحسين، ينطبق على آلاف المهاجرين غير النظاميين من جنسيات عربية وأفريقية عديدة، ممن يقعون في قبضة الميليشيات وعصابات المتاجرة بالبشر، فيتعرضون للتعذيب النفسي والبدني، والاعتداء الجنسي والسخرة بقصد ابتزاز أسرهم.
من بين هذه «العصابات الإجرامية»، هناك عصابة يتزعمها شخص يعرف بـ«الحاج حكيم»، تورط في خطف مجموعة من المهاجرين المصريين، وإنزال صنوف العذاب بهم، وصور «جريمته» بالفيديو لحمل ذويهم على دفع ما يطلبه من أموال. وقد أظهرت تحقيقات النيابة العامة الليبية لاحقاً أن «الحاج حكيم» يمتهن الاتجار بالبشر عبر دول مختلفة، وأنه تولى في الآونة الأخيرة تنسيق عمليات الهجرة غير المشروعة، عبر إدارة منظمة تمارس نشاطها تحت سيطرته في الداخل، ولها ارتباط مع شبكات أخرى تعمل لصالحه بدول الجوار.
ومن بين الحوادث، التي تُوصف بكونها «الأكثر دموية»، حادثة تصفية 21 مهاجراً غير نظامي من بنغلاديش في بلدة مزدة (جنوب غربي العاصمة)، على يد مواطن ليبي، كان يُكدسهم داخل مخزن تمهيداً لبيعهم، وقرر أن يُخمد غضبهم فأمطرهم بوابل من الرصاص.
وتشير بيانات صادرة عن هيئات معنية بالملف، منها «المنظمة الدولية للهجرة»، و«المفوضية السامية لحقوق الإنسان» إلى تعرض آلاف المهاجرين لعمليات تعذيب واسعة. وسبق لمديرية أمن طبرق (شرق) العثور على ثلاثة مصريين بمنطقة باب الزيتون، بدت عليهم آثار تعذيب شديد، وفارق أحدهم الحياة بعد نقلهم إلى مركز طبرق الطبي. وقالت المعلومات الأمنية، حينها، إنهم كانوا محتجزين في أحد المخازن المخصصة لتهريب الهجرة غير المشروعة، وحرموا الطعام، وتعرضوا للضرب من طرف عناصر هذه العصابة.
وتمكنت الشرطة وعناصر «الجيش الوطني» الليبي من تحرير 900 مصري، الأسبوع الماضي، وقالت الأجهزة الأمنية بشرق ليبيا وقتها إن عصابات التهريب احتجزتهم في مزرعة بمنطقة «بئر الأشهب» (74 كيلومتراً شرق طبرق)، بقصد مساومة ذويهم على دفع الأموال.

محمد صحبة والده بعد وصوله إلى مصر (الشرق الأوسط)

تعذيب في (بئر الغنم)

التعذيب لدى الميليشيات وعصابات الهجرة لم يستثن أحداً من المهاجرين، غير أن ما يحدث في مركز «بئر الغنم» من «جرائم»، نقلتها شهادات الفارين والمعتقلين في حديثهم إلى «الشرق الأوسط»، كشف عن أعمال «تعذيب وحشية ممنهجة»، وهو ما دفع حسين أبو العز، الذي يعمل معلماً للغة الإنجليزية في أحد المدارس المصرية، إلى اتهام صلاح القديري، مدير المركز، بالإشراف على تعذيب نجله محمد، بمساعدة شخصين ليبيين، يعرف الأول بـ«الهربا السفاح»، والآخر يدعى محمد الفلاح.
«الشرق الأوسط» واجهت عبر اتصالات هاتفية الأشخاص الثلاثة، الذين اتهمهم والد الضحية بتعذيب ابنه؛ غير أنهم نفوا الأمر، وأكدوا أنهم «يعاملون المحتجزين بشكل جيد».
ومحمد، الذي يدرس في كلية التجارة بجامعة المنصورة، كان من بين عشرات المهاجرين المُنتمين لقرية تلبانة بمحافظة الدقهلية (شمال مصر)، الذين تسللوا إلى ليبيا بقصد الهجرة إلى أوروبا، لكن ألقي عليهم القبض، فنُقلوا بين سجون ومراكز عدة، من بينها غوط الشعال في طرابلس، إلى أن انتهى بهم المطاف في «بئر الغنم»، الذي يضم أكثر من ألف مهاجر.
وهرب من غوط الشعال أربعة آلاف مهاجر من جنسيات مختلفة إلى شوارع العاصمة، منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، كانوا يحشرون في زنازين ضيقة وفي ظروف غير صحية، لكن قوات الأمن قالت إنها استعادت نحو ألفين منهم، والباقون إما ينامون في الشوارع، أو تتلقفهم عصابات التهريب.
وروى الشاب المصري، الذي سافر إلى ليبيا مطلع أغسطس الماضي، بحثاً عن مستقبل أفضل، أنه «تعرض للتعذيب بقسوة طيلة ثلاثة أشهر، قبل أن يتمكن والده من دفع 50 ألف جنيه (قرابة 3800 دولار) لأحد «السماسرة»، قصد تسهيل هروبه من المركز، بالإضافة إلى تسديد سبعة آلاف جنيه أخرى مقابل توصيله إلى قرب السلوم.
وترصد منظمة «العفو الدولية» تعرض المهاجرين في بعض مراكز الإيواء بعموم ليبيا لانتهاكات جسيمة، فضلاً عن تعرض المهاجرات المحتجزات في معسكرات الاعتقال للعنف الجنسي المروع على يد حراسه، مقابل الحصول على الطعام والمياه النظيفة، وهو ما يدفع المنظمة الدولية للهجرة لرفض إعادة أي مهاجر من البحر إلى ليبيا.
ونقلت «العفو الدولية» في تقرير لها، أصدرته في يوليو الماضي، عن عدة نساء سيدات أن «حراس معسكرات للمهاجرين يغتصبون النساء، ويجبروهن على ممارسة الجنس مقابل إطلاق سراحهن، أو حصولهن على الماء النظيف».
وروى محمد لـ«الشرق الأوسط» ما شاهده من «وحشية ترتكب مع المحتجزين» في مركز «بئر الغنم» قائلا: «كان الحراس يعذبوننا يومياً بشكل مهين، وهم يدخنون الحشيش، ويتناولون البوخة (هو مشروب مُسكر محلي الصنع)، وكنا نُضرب بأعواد الحديد، ويشرف على تعذيبنا القديري ومعه (الهِربا) والفلاح؛ ومن يشعر منا بألم أو يمرض ليس أمامه إلا انتظار الموت، لأنه لا وجود لأطباء أو علاج».
وبخصوص تكدس المعتقلين في أربعة عنابر ضيقة مع ارتفاع درجة حرارة الصيف، قال محمد: «عنبرنا كان يضم 450 شخصاً، وكان الجو حاراً جداً، مع قلة المياه والمراحيض، وكانوا يمنعوننا من الاستحمام مما سهل انتشار الأمراض الجلدية المُعدية».
وفي ظل حصص التعذيب اليومية، تحدث محمد أيضا عن حرمان المهاجرين من الطعام قائلا: «كان الأكل شحيحاً جداً لا يكاد يكفينا، والجوع يلازمنا دائماً. كنا نحصل على وجبتين فقط في اليوم لا تكفيان لسد جوعنا، وكان كل أربعة أشخاص يتناولون طبق مكرونة صغيرا، وكان يحلو للسجانين إسماعنا من وقت إلى آخر أقذع العبارات، ويخيفوننا بأننا لن نخرج من المعسكر إلا أمواتاً خصوصا المصريين».
ويشكل القادمون من بعض محافظات صعيد مصر ودلتاها العدد الأكبر من بين المهاجرين، الذين يتوافدون على ليبيا عبر الصحراء سراً، بحثاً عن «فرصة عمل»، أو أملاً في الفرار إلى «الفردوس الموعود».

الهروب بسيارة الشرطة

الملاحظة هنا أن مركز «بئر الغنم» يتبع رسمياً الشرطة الليبية، ومع ذلك كشف محمد لنا عن طريقة تهريبه، التي تمت بواسطة عناصر داخل المعسكر بقوله: «كل القائمين على المعسكر من ميليشيات وعناصر أمنية يبيعون المحتجزين سراً، ويتقاضون المُقابل كلما أتيحت لأحدهم الفرصة، دون معرفة باقي المسؤولين معهم بهذا الإجراء».
وأضاف محمد موضحا: «بعد أن دفع والدي في مصر المبلغ الذي حدده السمسار، أركبوني سيارة من عربات الشرطة المرصوصة داخل المعسكر، بعد رحلة عذاب استمرت ثلاثة أشهر تقريباً، جزء منها كان في مركز احتجاز غوط الشعال؛ ثم سلموني خارج البوابة الرئيسية لسيارة (تاكسي)، نقلتني بدورها إلى مكان بمدينة الزاوية (48 كيلومتراً غرب طرابلس)، ومن هناك ركبت سيارة أُجرة مع آخرين كانت في طريقها إلى مصر».
وبنبرة فرح لم تخل من ألم، أخبر حسين أبو العز، والد محمد، «الشرق الأوسط» بوصول نجله إلى منزله بمحافظة الدقهلية: «أخيراً استعدت ابني بعد ثلاثة أشهر. الحمد لله الذي نجاه من الجحيم. لكنه عاد إلي يائساً ومحطماً من قسوة التعذيب والإهانة، ومصاباً بأمراض جلدية نادرة؛ والمهم الآن سرعة الإفراج عن مسجون آخر من أبناء قرية تلبانة، يدعى نزيه سمارة (...) الوسيط يطلب 70 ألف جنيه»، وقال إن «السمسار»، الذي عمل على تهريب نجله، ينتمي إلى إحدى مدن جنوب مصر، ويقطن طرابلس.
وحصلت «الشرق الأوسط» على مقاطع «فيديو» من والد الضحية محمد، قال إنها من داخل المعسكر، وصورت عقب عملية تهريب بعض الضحايا.

المافيا والسمسار

هنا، تتكشف الحلقة المفقودة بين عمليات الخطف وتحرير الرهائن، وتكمن في الدور الذي يلعبه «السمسار» بالتوافق مع المتورطين في هذه الجرائم، والذي يؤكد دائماً على أنه «فاعل خير»، رغم أن واقعة الإفراج عن محمد كشفت ما يشبه علاقة (البيزنس) بينه وبين المسؤولين داخل مركز الاحتجاز.
«الشرق الأوسط» تواصلت عن طريق أسرة أحد المخطوفين في ليبيا مع أحد هؤلاء السماسرة، المقيم حالياً في حي الأندلس بطرابلس، الذي رفض الحديث معنا في بداية الأمر، لكنه دافع عن نفسه قائلا: «أنا أقدم خدمة لأهالي المخطوفين بالاطمئنان على أولادهم، والسعي للإفراج عنهم دون مقابل».
ورداً على اتهامه بـ«الاتجار في البشر»، قال السمسار: «لا. أنا أسعى لتخفيض المبالغ المطلوبة للإفراج عنهم، والتي قد تصل في بعض الأحيان إلى 10 آلاف دولار».
وحتى الآن، لا تزال أسرة نورا تتعرض للابتزاز من طرف «سماسرة» يطالبون بمبالغ مالية كبيرة، بحجة الإفراج عن ابني عميها، آخرهم انتحل صفة موظف كبير بالحكومة المصرية، لكن قبض عليه لاحقاً.
ومن «بئر الغنم»، وهو اسم لبلدة صغيرة كانت مسرحاً لمعارك «ثورة 17 فبراير» عام 2011 إلى الصحراء حيث الجريمة، التي شهدتها الحدود بين ليبيا والسودان، وذلك عندما أقدمت شبكة لتهريب المهاجرين على نقل 28 مهاجراً من السودان إلى الحدود الليبية، مقابل مبالغ مالية؛ لكنها تخلت عن 14 منهم وسط الصحراء، دون زاد أو وسائل لنقلهم، ما أدى لموت ستة مهاجرين، بينما تاه الباقون في الصحراء.
غير أن القضية أصبحت قيد التحقيق من النيابة العامة الليبية حالياً، بعدما قبضت أجهزة الشرطة على عناصر الشبكة، وتم حبسهم احتياطياً.
وتقول المفوضية السامية لشؤون اللاجئين إن قرابة خمسة آلاف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لديها، منهم نحو 45 في المائة رجالاً، و22 في المائة نساءً، و33 في المائة أطفالاً. كما سجلت المنظمة الدولية للهجرة إنقاذ 969 مهاجراً من الغرق في الفترة الممتدة من 19 إلى 25 ديسمبر (كانون الأول) 2021، وأعادتهم إلى مراكز الإيواء ثانية.

أعضاء بشرية للبيع

تسرب المهاجرين داخل ليبيا عبر الحدود المترامية بدا الآن أنه يصُب في صالح شرائح عديدة، بداية من الميليشيات والعصابات الممتهنة للتهريب، وصولاً لبعض القبائل بجنوب البلاد، التي تواجه اتهامات بالاستفادة من الفوضى، التي ضربت ليبيا طوال عقد مضى، والتربح من تهريب البشر والسلاح والمخدرات والوقود أيضاً.
لكن المثير في الأمر هو أن هذه التجارة فتحت باباً شرهاً آخر للاستثمار الحرام، يتمثل في قتل مهاجرين أفارقة، وانتزاع أعضائهم البشرية بواسطة أطباء اختصاصيين، وبيعها بمبالغ طائلة.
مصادر قضائية ليبية أطلعت «الشرق الأوسط» على جانب من التحقيقات الجارية مع وافد صومالي، يدعى حسن قيدي، متهم بـ«قتل عشرات المهاجرين، وانتزاع أعضائهم البشرية بواسطة شبكة يقودها تمتهن تهريب المهاجرين والاتجار فيهم وبيع أعضائهم البشرية». بالإضافة إلى اتهامه بـ«اغتصاب عدد من المهاجرات تحت تهديد السلاح، بعد خطفهن وإخفائهن في مخازن سرية لإرغام عائلاتهن على دفع الفدية نظير إطلاق سراحهن».
ولاحقاً تطرق النائب العام، الصديق الصور، إلى هذه الجريمة خلال لقائه مطلع ديسمبر (كانون الأول) 2021 مع وزيرة العدل، حليمة إبراهيم، وبعض القيادات، وقال إن التحقيقات الجارية بمعرفة النيابة العامة كشفت أن «شبكات الجريمة المنظمة استفادت من غياب سلطات الدولة؛ فارتكبت جرائم الاتجار بالبشر، وقتل مهاجرين والاتجار بأعضائهم البشرية».
الناشط المدني الليبي عبد الحميد الوافي، المهتم بملف المهاجرين والنازحين، أوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «جرائم الاتجار في الأعضاء البشرية للمهاجرين نشطت إلى حد كبير بعد عام 2011، وخاصة في مناطق غرب البلاد»، وتحدث عن «وجود عصابات تتخفى في صورة عمال يستدرجون ضحاياهم إلى أماكن سرية، وفي وقت ما، كان يتم ذلك في غابات قصر خيار(شرق العاصمة بنحو 80 كيلومتراً تقريباً)، «وهناك كانت تجرى عمليات جراحية للمخطوفين، وتنتزع أعضاؤهم البشرية، قبل أن يُلقى بهم في البحر». وفق قوله.
ويبرهن الوافي على ذلك بعثور بعض المواطنين، والأجهزة المحلية في وقت سابق على جثث لمهاجرين ممزقة إلى أشلاء، لكن عندما توجهنا بالسؤال إلى وزارة الداخلية الليبية عن هذه الجرائم قال لنا مسؤول أمني رفيع إن «كل ما يتعلق بهذه القضايا من معلومات لدى النائب العام، ومن الأفضل الذهاب إلى النيابة العامة»، لكن الأخيرة قالت إن «القضية رهن التحقيق».
ومن وقت لآخر تعثر الدوريات الأمنية عن جثث متحللة لمهاجرين في الصحراء الليبية. وقد شهدت ليبيا تزايدا ملحوظاً في تدفق أعداد المهاجرين باتجاه الشواطئ الأوروبية، في ظل ما تشهده البلاد من هدوء نسبي راهناً، لكن قوات خفر السواحل المحلية، والسفن الأوروبية العاملة على إنقاذ المهاجرين تعيدهم إلى ليبيا.
ويخلو حديث جُل المسؤولين الليبيين من تحمل أي مسؤولية تجاه ما يقع من جرائم تنكيل بحق المهاجرين، وبهذا الخصوص قال العميد المبروك عبد الحفيظ، مدير جهاز الهجرة غير المشروعة، إن بلاده «باتت ضحية، وتُركت وحيدة في مواجهة هذه القضية، التي عجزت عن معالجتها دول العالم».
كآبة أيام الانتظار تمر على أسر المخطوفين، الذين يستغيثون في ليبيا، ثقيلة، إلا أن الأنباء الواردة من معسكر «بئر الغنم» حملت خبراً ساراً لقرية كفر أبو نجم، اختلطت معه مشاعر الحزن والقهر مع دموع الفرح وحالة الترقب. فقد أبلغت نورا «الشرق الأوسط» أنه بعد ثلاثة أشهر من احتساب قريبيها في عِداد الموتى، أخبر أحد الناجين أسرتها أنهما كانا مسجونين معه في «بئر الغنم»؛ وتمكن هو من الهرب، بعدما اصطحبه أحد قيادات المركز الأمنية إلى منزله لذبح أضحية العيد الماضي، لكنهم حتى الآن لا يعلمون عنهما شيئا، وينتظرون تحرك السلطات المصرية لاستعادتهما.



جولة في «دماغ نتنياهو»: كيف سخّر رجل واحد العالم لخدمة أهدافه الشخصية

صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)
صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)
TT

جولة في «دماغ نتنياهو»: كيف سخّر رجل واحد العالم لخدمة أهدافه الشخصية

صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)
صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)

قبل 15 عاماً، سُئل بنتسي نتنياهو، والد رئيس الوزراء الإسرائيلي، عن رأيه، في نجله. فأجاب: «إنه ليس بأهبل».

الصحافي الذي سأله يُدعى عميت سيجال، وهو من سلالة يمينية، يعمل مراسلاً سياسياً في «القناة 12»، التي كانت تُدعى «القناة الثانية». وسيجال يتفاخر بأنه من المعجبين برئيس حكومته نتنياهو. والغرض من سؤال الوالد، لم يكن المساس بشخص الابن بل بالعكس، فقد وجّه سيجال السؤال، لكي يفهم ما وراء التصريح الذي أدلى به نتنياهو الابن في جامعة «بار إيلان»، في سنة 2009، وأعرب فيه عن تأييده حل الدولتين.

وعليه، أجاب الوالد: «بيبي لا يؤيد حل الدولتين. لقد وضع شروطاً لا يمكن للعرب قبولها. وهذه بلاد اليهود ولا مكان للعرب فيها». وكانت الشروط أن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل دولةً للشعب اليهودي، وتكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، وأن تحل قضية اللاجئين خارج تخوم إسرائيل.

الخطاب جاء في ظروف معينة، تُذكّر بهذه الأيام. ففي حينه، باشر الرئيس باراك أوباما دورته الرئاسية الأولى، في 20 يناير (كانون الثاني)، وبعد شهرين، في نهاية مارس (آذار)، باشر نتنياهو رئاسة الحكومة الإسرائيلية. وفي 18 مايو (أيار) استقبل أوباما نتنياهو في البيت الأبيض، وطلب منه وقف المستوطنات وتأييد حل الدولتين، «الذي لا حل سواه لإنهاء الصراع». وفي 4 يونيو (حزيران)، ألقى الرئيس الأميركي خطاباً في القاهرة، متوجهاً للعالم العربي والإسلامي، وفاتحاً صفحة جديدة في العلاقات الأميركية معهما. وبعد 10 أيام ألقى نتنياهو خطاب «بار إيلان».

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

قبل هذا الموعد بست سنوات، كان نتنياهو قد عُيّن وزيراً للمالية في حكومة أرئيل شارون، وقد سُئل والده عن مستقبل ابنه، وإن كان يصلح ليصبح رئيس وزراء؟ فأجاب: «كلا، إنه يصلح وزيراً للخارجية». ففي مفهومه، منصب وزير الخارجية يُلائم مَن يحب الكلام، ويجيد الخطابة، ويتمتع بحفلات الكوكتيل، ولا يحب العمل. ومن يعرف الابن أكثر من الوالد.

التسويق في البضائع والسياسة

المشكلة اليوم أن هذا الابن يقود دولة في مركز الأحداث في الشرق الأوسط والعالم، وأولئك الذين يتعاملون مع هذا الابن، هم رؤساء دول وملوك وقادة جيشه ومخابراته وبشر يتحكم بمصائرهم، وكلهم ذاقوا على جلودهم مرارة التجربة.

ومن الصعب أن تجد فيهم مَن يستطيع فك رموز شخصية بنيامين نتنياهو. فهو دائماً مفاجئ، وفي كثير من الأحيان صادم، لكن هناك شيئاً يتقنه جيداً. هو وضع مصالحه الشخصية فوق أي اعتبار؛ إذا أراد أمراً فلن يعيقه شيء عن الوصول إليه. وأهم أدواته في تحقيق أهدافه، إدارة التسويق.

كان نتنياهو قد بدأ حياته موظفاً في تسويق البضاعة بمحل لتجارة الأثاث في الولايات المتحدة، وأبدع في التقاط أسرار هذه المهنة. كان يعرض بضاعة أخشاب السويد على أنها أخشاب زان، ويبيع أشياء تصلح وأشياء لا تصلح.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو متحدّثاً لأعضاء في الكونغرس الأميركي في يوليو 2024 (غيتي)

وإذا ما قرر صاحب المحل التخلُّص من بضاعة كاسدة، كلّف نتنياهو بالمهمة، فيروِّج لها الأخير كما لو أنها أفضل المنتجات. كان يكذب بتلقائية، ومن دون أن تظهر على وجهه أي علامة. كان يقبض ولا يدفع. المراوغة والاحتيال وخيانة الأمانة، كلها تمر على الزبائن بفضل قدرته العالية على الكلام، وقبل أن يُكتشف أمره، انتقل إلى العمل السياسي. عُين ممثلاً لإسرائيل في الأمم المتحدة، ثم نائباً لوزير الخارجية، ووزيراً للخارجية، ثم وزيراً للمالية، ثم رئيساً للوزراء، لفترة أطول من أي رئيس وزراء سابق له.

لقد حمل نتنياهو معه إلى السياسة كل صفاته في التسويق. المثل الصارخ على ذلك، هو ما يفعله اليوم في اختراعه معضلة «محور فيلادلفيا» لعرقلة صفقة تبادل الأسرى. قبل هذه المعضلة بواحد وثلاثين سنة، اخترع نتنياهو قصة أخرى بفضلها انتخب لرئاسة «الليكود»، ليُمهّد الطريق لرئاسة الحكومة. ففي الرابع عشر من يناير من سنة 1993، وعلى أثر هزيمة «الليكود»، بقيادة إسحق شامير، خاض نتنياهو انتخابات داخلية على منصب رئيس الحزب ومرشحه لرئاسة الحكومة، في مواجهة 3 مرشحين: دافيد ليفي، وبيني بيغن، وموشيه قصاب.

رجل يضع ملصقاً انتخابياً لإيهود باراك فوق صورة المرشح بنيامين نتنياهو في انتخابات 1999 (غيتي)

قبل 10 أيام من الانتخابات، طلب نتنياهو الوصول إلى استوديوهات القناة الرسمية الوحيدة للتلفزيون للكشف عن فضيحة كبرى، وهناك أعلن أنه كان على علاقة بامرأة أخرى خارج الزواج، وأن شخصية كبيرة في «الليكود»، محاطة بعصابة مجرمين، هددت بكشف شريط يوثق علاقته بها بشكل فاضح، إذا لم ينسحب من المنافسة. وألمح إلى أن هذه الشخصية هي المنافس الأساسي دافيد ليفي. وانقلبت المعركة الانتخابية وفقاً للأجندة التي فرضها. وبالنتيجة فاز على منافسيه الثلاثة بنسبة 52 في المائة.

وبالطريقة نفسها، لكن بمستوى أخطر، فاز برئاسة الحكومة، فقد أدار حملة تحريض دموية على إسحاق رابين، واتهمه بخيانة مصالح إسرائيل الأمنية عندما وقع على اتفاقيات «أوسلو»، فقرر شاب يميني متطرف اغتيال رابين. ورغم أن الاغتيال أحدث زلزالاً في السياسة الإسرائيلية، نجح نتنياهو في رئاسة الحكومة بعد أقل من سنة.

الناس زبائن تُحركهم نقاط ضعفهم

التسويق إذن هو الحمض النووي (DNA) في شخصية نتنياهو. يضع لنفسه هدفاً، ويبتدع أنجع الطرق لتسويقه. يقرأ خريطة الناس بصفتهم زبائن، يكتشف نقاط الضعف، وينفذ من خلالها كالسهم. قد تكون هذه الطرق قذرة، وقد تكون طافحة بالأكاذيب، وفائضة بالخدع، وقد تُكلف بلاده وشعبه وحتى حزبه ثمناً باهظاً، لكن المهم أنه يجد مَن يصفق له. وكيف يصفقون له: بنوعية الرسائل التي يبثها.

بنيامين نتنياهو معلناً عودته للحياة السياسية في 2000 بعد فوز إيهود باراك في 1999 (غيتي)

داني فيدوسلافسكي، المتخصص في سلوك الفرد، ويدير كلية لتعليم السياسيين كيف ينجحون في الوصول إلى قلوب الجماهير، أصدر كتاباً بعنوان: «أسرار التسويق عند بيبي». وهو يُعدّ أهم عنصر في نجاحه معرفته صياغة رسائل قصيرة وبسيطة للناس. ويقول: «ليس مهمّاً إن كانت هذه الرسائل صحيحة أو صادقة، بل المهم أن يعرف كيف تُصيب وجدان الجماهير، وتخترق دماغهم». يخاطب الناس بلغة نحن وهم، وعندما يقول نحن يقصد هو وهم. يتحدث عن خصومه: «يسار». وبعدما جعل من كلمة يسار لعنة، راح يلصقها بكل خصومه حتى داخل «الليكود».

ولكن، من كثرة ما بنى له من خصوم، أصبح واضحاً أنه لا يهتم بشيء بمقدار مصلحته الشخصية، فصار فناناً في تصفية كل مَن يعترض طريقه، وليس فقط من الخصوم. وبنى لنفسه قاعدة جماهيرية محدودة من اليمين، ذات تركيبة عجيبة. غالبيتهم من الفقراء، مع أن سياسته رأسمالية راديكالية. شرقيون مع أنه إشكنازي متعجرف. على طول طريقه السياسي، نجح في تحطيم الأحزاب التي تنافسه. في سنة 2009، كان ينافسه إيهود باراك. وباراك كان قائد نتنياهو في الجيش، وفي سنة 1999 هزمه في الانتخابات، وفاز برئاسة الحكومة. لكن نتنياهو أقنعه بدخول حكومته وزيراً للدفاع، وتسبب بذلك في تفسخ حزب «العمل» وانهياره، إلى أن اعتزل باراك السياسة. وفعل الأمر نفسه مع يائير لبيد، ومع بيني غانتس، ومع موشيه كحلون.

ومن كثرة نجاحاته هذه، اقتنع بأنه يتمتع بقدرات عالية فوق طبيعية.

ويُحكى أنه ذات مرة قال أمام مقربين منه: «احمدوا الله على أنه حباكم قائداً مثلي». وزوجته سارة تردد هذه الجملة باستمرار. وإذا أراد أن يكون متواضعاً، يُشبه نفسه بالقائد البريطاني ونستون تشرشل.

ولا يكتفي نتنياهو بأن يرى نفسه أو يراه أفراد عائلته والمقربون والمنافقون بهذا الشكل، بل يطالب العالم بأن يراه بهذا الشكل أيضاً، فهو يُعدّ نفسه قائداً عالمياً، تاريخياً، أرسله الله ليقود معركة الغرب كله بشكل صحيح، ولديه نصائح لجميع القادة الكبار في العالم. ذات مرة التقاه الرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض، وبعد انتهاء اللقاء قال أوباما لمساعديه: «من منا رئيس الدولة العظمى؟». ولكن الرئيس التالي بعد أوباما، دونالد ترمب، ورغم غروره ونبرته، اقتنع من نتنياهو بضرورة الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران. وتباهى نتنياهو بذلك، وبأن إسرائيل تحت قيادته وجهت ضربات لإيران، أكثر من أي قائد غربي آخر.

حب المال وتلقي الهدايا

مشكلة نتنياهو أنه على طريقه الطويل، وقع في حادث أليم، فقد كُشفت إحدى نقاط ضعفه الخطيرة، وهي المال. رأس ماله يقدر بثلاثة وعشرين مليون دولار. راتبه الشهري 20 ألف دولار. أمواله جمعت من الرواتب العالية، وكذلك من المحاضرات، إذ يُعدّ محاضراً مطلوباً في العالم، خصوصاً في الولايات المتحدة.

بنيامين نتنياهو وزوجته سارة في زيارة رسمية لباريس (أرشيفية - غيتي)

لكن الأهم من دخله، الذي جمعه من عرق الجبين بغالبيته، هو مصروفه. نتنياهو معروف بأنه لا يصرف مطلقاً. كل مصاريفه على حساب الدولة، على عكس كل سابقيه، الذين حرصوا على الدفع من جيوبهم. لا يوجد له أصدقاء، ولكنه يحرص على علاقات جيدة مع عدد كبير من أصحاب الرساميل في العالم، الذين يُحدد مستوى القرب معهم بمستوى صرفهم هم عليه. وهو محب للهدايا السخية بشكل خاص، فإذا أهدى أحد المعارف عقداً من الذهب الخالص لزوجته سارة، لا يتردد نتنياهو بالاتصال بمقدم الهدية، مظهراً الزعل ومعاتباً: لماذا لم تشترِ لها الخاتم والحلق الملائمين للعقد؟

هذه العادات قادت نتنياهو إلى قفص الاتهام بتهمة تلقي الرشى وخيانة الأمانة، لأن هناك اشتباهاً بأنه استغل منصبه بصفته رئيس حكومة ليوفي الهدايا بخدمات يحتاج إليها أصحابها. وهناك شبهات نشرها اليعاد شارغا، رئيس حركة «طهارة الحكم»، الذي يقود منذ عشرات السنين معارك قضائية كبيرة ضد الفساد وضد المساس بالديمقراطية. وقال خلال مؤتمر «هرتسليا 2024»: «نتنياهو ارتكب أكبر وأخطر قضية فساد في تاريخ إسرائيل، جرى فيها هدر مليارات الدولارات عبثاً، على أسلحة لسنا بحاجة إليها، وبصفقة تمت من وراء ظهر وزير الأمن ورئيس أركان الجيش وقائد سلاح البحرية. وبلغ فيها الفساد فحشاً في قدس أقداسنا، الأسلحة الاستراتيجية. نتنياهو أدخل إلى جيبه 25 مليون شيقل عمولة في هذه القضية، وهذا عدا عمولات أخرى لشركائه في الجريمة. غابي إشكنازي، قال يومها إنه في اللحظة التي نشتري فيها الغواصة السادسة، لن يبقى لدينا مال للمجنزرات والمدرعات التي نحتاج إليها لاجتياح الشجاعية. وهذا ما حصل فعلاً، واليوم نذوق هذا النقص على جلود أبنائنا الجنود في قطاع غزة».

هذه القضية هي أيضاً مطروحة على بساط البحث في المحكمة، ولم يتقرر بعد تحويلها إلى لائحة اتهام. وتلميح شارغا إلى غزة يتعلق بالتهمة الموجهة إلى نتنياهو بأنه كان مسؤولاً عن إخفاق 7 أكتوبر (تشرين الأول) بشكل شخصي، إذ إنه قام بتقوية «حماس»، وتباهى بأنه يُحول لها الأموال لكي يعمق الانقسام الفلسطيني، وتم تحذيره بأن سياسة حكومته ستفجر حرباً، ولم يكترث.

الفساد... قضية حياة أو موت سياسي

نتنياهو يعرف جيداً خطورة هذه القضايا الثلاث، ويدرك أنه يواجه خطر الحبس بسببها. مسألة حياة أو موت، سياسياً، فإذا تخلّى عن منصبه بصفته رئيس حكومة، سيسهل على الجهاز القضائي الحكم عليه بالسجن، وإذا بقي رئيس حكومة، ستسير محاكمته ببطء شديد كما هي الحال اليوم؛ حيث إنها بدأت قبل 4 سنوات وما زالت في مرحلة سماع الشهود، وسيتمكن من منع إقامة لجنة تحقيق رسمية في قضية 7 أكتوبر، وسيمارس الضغط لتغيير القضاة في المحكمة العليا والنيابة، فلا يقدم إلى المحاكمة بسبب قضية الغواصات.

وقد وجد نتنياهو ائتلافاً قوياً لحكومته، من 64 نائباً من مجموع 120، يتألف من حزبه «الليكود» والأحزاب الدينية والاستيطانية. لهم مصلحة مشتركة في البقاء معاً. الأحزاب الدينية تحصد أموالاً طائلة لمدارسها ومؤسساتها وحاخاماتها، والأحزاب الاستيطانية تكسب توسيع الاستيطان وإجهاض حل الدولتين وتصفية القضية الفلسطينية، و«الليكود» تمت تصفية المعارضة فيه وقادته ينافقون نتنياهو، لدرجة الحضور معه إلى المحكمة تضامناً في قضايا الفساد.

قاعدة توفر إكسير الحياة

هذا الائتلاف، ومعه نحو 20 بالمائة من الناخبين في إسرائيل يشكلان قاعدة جماهيرية ثابتة لا تتزعزع، حتى الآن، ويعتمد عليها نتنياهو اعتماداً أساسياً. عندما يخطب يأخذ هذه القاعدة في الاعتبار، وعندما يتخذ قراراته يضعها فوق كل اعتبار. هي أهم بالنسبة له من الأسرى الإسرائيليين في أنفاق «حماس»، وأهم من عائلات هؤلاء الأسرى الذين لا يصدقون أن حياة أبنائهم أهدرت على هذا النحو. وأهم من الجنود الذين يُحاربون هباءً في غزة، ومن قادة الجيش وبقية الأجهزة الأمنية، الذين يؤكدون أن سياسة نتنياهو تلحق ضرراً استراتيجياً بأمن إسرائيل، فيهاجمهم علناً ويؤنبهم باللغة الإنجليزية -حتى يسمع الغرب كله- «إسرائيل دولة يوجد لها جيش وليس جيشاً توجد له دولة». وهي أهم من الإدارة الأميركية، التي وقفت إلى جانبه بوصفها شريكة في الحرب رغم الخلافات العميقة معه، وتمكّن من جرّها إلى كثير من الورطات، ولا يزال يحاول جرها إلى حرب إقليمية. لا بل إنه يحاربها في بيتها، ويقف مع انتخاب ترمب للرئاسة، نكاية بها، لأنها باتت معنية بوقف الحرب.

فهذه القاعدة هي التي توفر له إكسير الحياة. ولأجلها يكرس كل مواهبه وطاقاته ولديه كثير منها. لها يكرس البضاعة التي يسوقها. لا يهمه أحد غيرها، فإذا كان الأمر يحتاج إلى إجهاض الصفقة، يدير سياسة منهجية تجهض الصفقة، وإذا كان الأمر يحتاج إلى حرب يذهب إلى الحرب. في نظره، أميركا مجبورة على مساندة إسرائيل؛ لأنه يخدم مصلحتها، وأعداؤه هم أعداؤها. فإذا خسر في المعارك، يتهم الجيش والمخابرات والشرطة وكل العالم ما عدا الاعتراف بمسؤوليته. وإذا حقق الجيش إنجازات، يتقدم نتنياهو إلى الشاشات يتباهى. والجيش يلهث في اللحاق وراءه، ويدافع عن نفسه أمام هجماته، ويحاول أن يثبت أن اتهامات اليمين له بالجبن غير صحيحة، ويثبت ذلك في حرب عبثية يقاتل فيها الفلسطينيين من بعيد، بالغارات والقصف المدفعي وقتل المدنيين.

متظاهر بالقرب من فندق ووترغيت بواشنطن ضمن احتجاجات تستبق كلمة بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس الأربعاء (أ.ب)

اليسار... تهمة

إذا كانت هناك معارضة سياسية، يتهمها بأنها يسارية، وهذا يكفي لقاعدته الشعبية. وإذا وقف الإعلام ضده، فإنه يهاجم الإعلام، ويقيم مؤسسات إعلامية كبيرة لمواجهته، وهذا إضافة إلى حسابه في «تويتر» (إكس) الذي يوجد له فيه 1.4 مليون متابع، أو «فيس بوك» (2.3 مليون متابع).

فقط قبل سنة كادت الجماهير، التي نزلت إلى الشوارع بمئات الألوف مدعومة من الدولة العميقة، تُسقط نتنياهو. وراح يسعى لحرب تحرف الأنظار، إلا أن الجيش رفض شن حرب. فجاء هجوم «حماس» في 7 أكتوبر. فخرج الجيش إلى الحرب، ويمكن القول إنه «علّق نفسه بهذه الحرب»، ولا يعرف كيف يُخرج منها. ونتنياهو بالمقابل يزدهر. العرق يتصبب من كل خلايا جسده، لكنه من حيث تحقيق الأهداف يزدهر.

هذا هو نتنياهو اليوم، وهذه هي حساباته. بعيد عن المنطق؟ نعم، يجعل من إسرائيل دولة هشّة؟ نعم، ألا يوجد مَن يتصدى له في إسرائيل؟ يوجد لكن صوتهم ضعيف مخنوق، على المستوى الشعبي، وأداؤهم هزيل على مستوى المعارضة السياسية. ففي وضع طبيعي تُعدّ حالة نتنياهو فريسة سهلة لأي معارض سياسي له. بهذا الفشل وهذا الفساد وبهذه الأخطار التي يجلبها، يمكن إلحاق هزيمة شديدة به. أي قائد سياسي قوي وحكيم كان سينقض على هذه الفرصة لإسقاط حكومة نتنياهو، لكن قادة المعارضة في إسرائيل لا يتمتعون بهذه الصفات بعد. وحتى الجمهور الذي يثبت في الاستطلاعات، باستمرار أنه عاف نتنياهو ويريد تغييره، لا يرى في أي من قادة المعارضة الحالية عنواناً له. وقوة نتنياهو مستمدة تحديداً من هذا الضعف.