«الفدية مقابل الحياة»... قصص مروعة عن خطف المهاجرين في ليبيا

ترصد حكايات مؤلمة عن تعرضهم للاغتصاب والتعذيب والاتجار بأعضائهم

مهاجرون غير نظاميين خلال عملية ترحليهم إلى أحد مراكز الاحتجاز في طرابلس بعد إنقاذهم من الغرق (غيتي)
مهاجرون غير نظاميين خلال عملية ترحليهم إلى أحد مراكز الاحتجاز في طرابلس بعد إنقاذهم من الغرق (غيتي)
TT

«الفدية مقابل الحياة»... قصص مروعة عن خطف المهاجرين في ليبيا

مهاجرون غير نظاميين خلال عملية ترحليهم إلى أحد مراكز الاحتجاز في طرابلس بعد إنقاذهم من الغرق (غيتي)
مهاجرون غير نظاميين خلال عملية ترحليهم إلى أحد مراكز الاحتجاز في طرابلس بعد إنقاذهم من الغرق (غيتي)

في قرية كفر أبو نجم بدلتا مصر، كان شبح الموت يخيم على كل الأنحاء، فالأخبار الواردة من ليبيا مُغلفة برائحة الدم، والجميع يتلمس في ذعر أي نبأ عن الشبان، الذين سافروا سراً قصد الهجرة إلى أوروبا، لكن ابتلعهم البحر المتوسط أمام ساحل مدينة الزاوية (غرب).
ومع مرور أيام قليلة غلب عليها اليأس والقهر، بدت الأوضاع على الجانب الآخر قاتمة ومريعة، فبعض الذين نجوا من الغرق «يُعذبون بأعواد من حديد، ويكتوون بالنار» في معسكر «بئر الغنم» لتجميع المهاجرين غير النظاميين، الواقع جنوب غربي العاصمة طرابلس.
هذه الفاجعة، التي ستتكشف تفاصيلها فيما بعد، مجرد نموذج مصغر لعشرات الجرائم التي يتعرض لها المهاجرون، الذين يتسربون داخل ليبيا عبر الصحراء المترامية، قادمين إليها من مسارات وعواصم مختلفة. البعض منهم يُقضى غرقاً، أو يصل إلى «الفردوس الأوروبي»، وإما يُغيب داخل سجون، و«كمبوهات» (عنابر ضيقة مسقوفة بألواح الخشب ورقائق الصاج) تابعة لعصابات التهريب، منتظرين مصيراً غامضاً، ربما يكون أسوأ من الموت بين طيات أمواج البحر.
ومسارات التهريب جميعها تتحكم فيها مافيا كبيرة، متشعبة محلياً وإقليمياً، وتصب داخل الحدود الليبية، ومنها إلى مدن غرب البلاد، مُطلة على ساحل البحر الأبيض، مثل صبراتة وزوارة والزاوية والقرة بوللي، إذ إن القادم من مصر والسودان والصومال قد يلتقي مع من جاء عبر تشاد والنيجر، ويلحق بهم القادم من غانا وساحل العاج، وجميعهم يظلون منذ خروجهم من ديارهم في عهدة «السمسار»، الذي يسلك بهم الدروب الوعرة إلى أن يستقروا في ليبيا، بعيداً عن أعين السلطات الأمنية. لكن إذا وقعوا في قبضة العصابات المتاجرة بالبشر، فالأمر قد يختلف كلياً لأنهم سيكونون حينها في حُكم الأموات، إذ إن كل شيء لدى هذه (المافيا) له ثمن... الحياة، وحتى دخول المرحاض، و«شربة الماء»، التي قد تضطر بعض النساء لدفع ثمنها من شرفهن، أو يتجرعن مياهاً ملوثة، لأن هناك يُجرى الاستثمار في «اللحم الحي» للمهاجرين.
وقائع هذا التحقيق جرت بين محافظات بدلتا مصر، ومناطق ليبية عدة، بقصد توثيق عملية تهريب البشر والمتاجرة فيهم، وكيف يقعون «كورقة رابحة» في قبضة ثنائي (المافيا) و(السماسرة)، ليتم المقايضة بهم، قبل أن ينالوا في أغلب الأحيان قسطاً وافراً من العذاب، والتغييب لأشهر عدة في الأقبية المجهولة و«الكمبوهات» السرية.
«الشرق الأوسط» رصدت جانبا من قصص تعذيب دامية تُرتكب داخل معسكرات للهجرة غير النظامية، تبدأ بضرب المهاجرين بالسياط والمواسير الحديدية، وتنتهي بحرق أجسادهم بالنار لإجبار أسرهم على دفع الفدية المطلوبة لإطلاق سراحهم، وقد يتطور الأمر فيخضعون للتخدير وانتزاع أعضائهم البشرية وبيعها حسب الطلب؛ وبعض هذه الجرائم يُرتكب داخل مقار رسمية للاحتجاز بطرابلس، من بينها غوط الشعال، والبعض الآخر يتم في معسكرات تشرف عليها مجموعات مسلحة، أو بمخازن سرية يُكدسون فيها انتظاراً لساعة التنفيذ.

صورة نشرها النائب العام الليبي لمهاجرين تعرضوا للتعذيب (الشرق الأوسط)

مأتم أبناء العم

كانت حرارة شهر يوليو (تموز) في مصر قد تجاوزت الأربعين درجة مئوية بقليل، وابنا العم حسن صلاح عطية (30 عاما)، وحسين حاتم عطية (19 عاماً)، يقطعان قرابة (750 كيلومتراً)، في أولى خطوات تحقيق حلمهما بالسفر إلى «الجنة الأوروبية الموعودة»، من قرية أبو نجم بمحافظة الشرقية، إلى مدينة السلوم، القريبة من الحدود الغربية مع ليبيا، ولا يحملان معهما سوى قليل من الزاد والملابس وبعض النقود.
هناك على جانبي طريق صحراوي، التقيا مع مصريين آخرين، حيث سلك بهم «سمسار الرحلة» المأجور طرقاً ودروباً لمدة خمسة أيام، تنقلوا خلالها من حافلة إلى أخرى، ومن مخزن لآخر، حتى انتهت مهمته معهم عند دخولهم الحدود الليبية. ومن هذه النقطة بدأت رحلة «شاقة محفوفة بالمخاطر والأهوال»، روتها لنا نورا سليم، ابنة عم حسن وحسين.
أخبرتنا نورا، ابنة الثلاثين ربيعا، أن ابني عميها أرادا تحسين نمط عيش أسرتيهما، كباقي أبناء كفر أبو نجم وقرى مجاورة أخرى في الشرقية عبر السفر إلى إيطاليا: «وصل إيطاليا مصريون كثيرون وهم يعملون الآن، وأصبحت أوضاع أسرهم جيدة». وأضافت بنبرة حزينة: «عائلتي تعيش حالياً أياماً قاسية؛ وتندم على ما حدث. فبعد تلقي أول اتصال هاتفي من حسن وحسين نهاية أغسطس (آب) الماضي، علمنا من مصريين في غرب ليبيا أن القارب الذي كان يقلهما مع آخرين انقلب في البحر، وغرقوا جميعهم، فأقمنا لهما مأتماً وتلقينا العزاء».
ومع حالة الحزن التي سادت قرية كفر أبو نجم لموت حسين وابن عمه حسن، الذي ترك وراءه طفلاً رضيعاً، بقي لدى أسرتيهما أمل في أن يكونا لا يزالان على قيد الحياة.
ووفقاً لبيانات وزارة الداخلية بحكومة «الوحدة الوطنية» الليبية، يوجد في جميع أنحاء البلاد أكثر من 575 ألف مهاجر غير نظامي، بينهم 6200 يحتجزون في مراكز للإيواء، يديرها جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية التابع للوزارة.

عصابة «الحاج حكيم»

المصير الغامض لابني العم حسن وحسين، ينطبق على آلاف المهاجرين غير النظاميين من جنسيات عربية وأفريقية عديدة، ممن يقعون في قبضة الميليشيات وعصابات المتاجرة بالبشر، فيتعرضون للتعذيب النفسي والبدني، والاعتداء الجنسي والسخرة بقصد ابتزاز أسرهم.
من بين هذه «العصابات الإجرامية»، هناك عصابة يتزعمها شخص يعرف بـ«الحاج حكيم»، تورط في خطف مجموعة من المهاجرين المصريين، وإنزال صنوف العذاب بهم، وصور «جريمته» بالفيديو لحمل ذويهم على دفع ما يطلبه من أموال. وقد أظهرت تحقيقات النيابة العامة الليبية لاحقاً أن «الحاج حكيم» يمتهن الاتجار بالبشر عبر دول مختلفة، وأنه تولى في الآونة الأخيرة تنسيق عمليات الهجرة غير المشروعة، عبر إدارة منظمة تمارس نشاطها تحت سيطرته في الداخل، ولها ارتباط مع شبكات أخرى تعمل لصالحه بدول الجوار.
ومن بين الحوادث، التي تُوصف بكونها «الأكثر دموية»، حادثة تصفية 21 مهاجراً غير نظامي من بنغلاديش في بلدة مزدة (جنوب غربي العاصمة)، على يد مواطن ليبي، كان يُكدسهم داخل مخزن تمهيداً لبيعهم، وقرر أن يُخمد غضبهم فأمطرهم بوابل من الرصاص.
وتشير بيانات صادرة عن هيئات معنية بالملف، منها «المنظمة الدولية للهجرة»، و«المفوضية السامية لحقوق الإنسان» إلى تعرض آلاف المهاجرين لعمليات تعذيب واسعة. وسبق لمديرية أمن طبرق (شرق) العثور على ثلاثة مصريين بمنطقة باب الزيتون، بدت عليهم آثار تعذيب شديد، وفارق أحدهم الحياة بعد نقلهم إلى مركز طبرق الطبي. وقالت المعلومات الأمنية، حينها، إنهم كانوا محتجزين في أحد المخازن المخصصة لتهريب الهجرة غير المشروعة، وحرموا الطعام، وتعرضوا للضرب من طرف عناصر هذه العصابة.
وتمكنت الشرطة وعناصر «الجيش الوطني» الليبي من تحرير 900 مصري، الأسبوع الماضي، وقالت الأجهزة الأمنية بشرق ليبيا وقتها إن عصابات التهريب احتجزتهم في مزرعة بمنطقة «بئر الأشهب» (74 كيلومتراً شرق طبرق)، بقصد مساومة ذويهم على دفع الأموال.

محمد صحبة والده بعد وصوله إلى مصر (الشرق الأوسط)

تعذيب في (بئر الغنم)

التعذيب لدى الميليشيات وعصابات الهجرة لم يستثن أحداً من المهاجرين، غير أن ما يحدث في مركز «بئر الغنم» من «جرائم»، نقلتها شهادات الفارين والمعتقلين في حديثهم إلى «الشرق الأوسط»، كشف عن أعمال «تعذيب وحشية ممنهجة»، وهو ما دفع حسين أبو العز، الذي يعمل معلماً للغة الإنجليزية في أحد المدارس المصرية، إلى اتهام صلاح القديري، مدير المركز، بالإشراف على تعذيب نجله محمد، بمساعدة شخصين ليبيين، يعرف الأول بـ«الهربا السفاح»، والآخر يدعى محمد الفلاح.
«الشرق الأوسط» واجهت عبر اتصالات هاتفية الأشخاص الثلاثة، الذين اتهمهم والد الضحية بتعذيب ابنه؛ غير أنهم نفوا الأمر، وأكدوا أنهم «يعاملون المحتجزين بشكل جيد».
ومحمد، الذي يدرس في كلية التجارة بجامعة المنصورة، كان من بين عشرات المهاجرين المُنتمين لقرية تلبانة بمحافظة الدقهلية (شمال مصر)، الذين تسللوا إلى ليبيا بقصد الهجرة إلى أوروبا، لكن ألقي عليهم القبض، فنُقلوا بين سجون ومراكز عدة، من بينها غوط الشعال في طرابلس، إلى أن انتهى بهم المطاف في «بئر الغنم»، الذي يضم أكثر من ألف مهاجر.
وهرب من غوط الشعال أربعة آلاف مهاجر من جنسيات مختلفة إلى شوارع العاصمة، منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، كانوا يحشرون في زنازين ضيقة وفي ظروف غير صحية، لكن قوات الأمن قالت إنها استعادت نحو ألفين منهم، والباقون إما ينامون في الشوارع، أو تتلقفهم عصابات التهريب.
وروى الشاب المصري، الذي سافر إلى ليبيا مطلع أغسطس الماضي، بحثاً عن مستقبل أفضل، أنه «تعرض للتعذيب بقسوة طيلة ثلاثة أشهر، قبل أن يتمكن والده من دفع 50 ألف جنيه (قرابة 3800 دولار) لأحد «السماسرة»، قصد تسهيل هروبه من المركز، بالإضافة إلى تسديد سبعة آلاف جنيه أخرى مقابل توصيله إلى قرب السلوم.
وترصد منظمة «العفو الدولية» تعرض المهاجرين في بعض مراكز الإيواء بعموم ليبيا لانتهاكات جسيمة، فضلاً عن تعرض المهاجرات المحتجزات في معسكرات الاعتقال للعنف الجنسي المروع على يد حراسه، مقابل الحصول على الطعام والمياه النظيفة، وهو ما يدفع المنظمة الدولية للهجرة لرفض إعادة أي مهاجر من البحر إلى ليبيا.
ونقلت «العفو الدولية» في تقرير لها، أصدرته في يوليو الماضي، عن عدة نساء سيدات أن «حراس معسكرات للمهاجرين يغتصبون النساء، ويجبروهن على ممارسة الجنس مقابل إطلاق سراحهن، أو حصولهن على الماء النظيف».
وروى محمد لـ«الشرق الأوسط» ما شاهده من «وحشية ترتكب مع المحتجزين» في مركز «بئر الغنم» قائلا: «كان الحراس يعذبوننا يومياً بشكل مهين، وهم يدخنون الحشيش، ويتناولون البوخة (هو مشروب مُسكر محلي الصنع)، وكنا نُضرب بأعواد الحديد، ويشرف على تعذيبنا القديري ومعه (الهِربا) والفلاح؛ ومن يشعر منا بألم أو يمرض ليس أمامه إلا انتظار الموت، لأنه لا وجود لأطباء أو علاج».
وبخصوص تكدس المعتقلين في أربعة عنابر ضيقة مع ارتفاع درجة حرارة الصيف، قال محمد: «عنبرنا كان يضم 450 شخصاً، وكان الجو حاراً جداً، مع قلة المياه والمراحيض، وكانوا يمنعوننا من الاستحمام مما سهل انتشار الأمراض الجلدية المُعدية».
وفي ظل حصص التعذيب اليومية، تحدث محمد أيضا عن حرمان المهاجرين من الطعام قائلا: «كان الأكل شحيحاً جداً لا يكاد يكفينا، والجوع يلازمنا دائماً. كنا نحصل على وجبتين فقط في اليوم لا تكفيان لسد جوعنا، وكان كل أربعة أشخاص يتناولون طبق مكرونة صغيرا، وكان يحلو للسجانين إسماعنا من وقت إلى آخر أقذع العبارات، ويخيفوننا بأننا لن نخرج من المعسكر إلا أمواتاً خصوصا المصريين».
ويشكل القادمون من بعض محافظات صعيد مصر ودلتاها العدد الأكبر من بين المهاجرين، الذين يتوافدون على ليبيا عبر الصحراء سراً، بحثاً عن «فرصة عمل»، أو أملاً في الفرار إلى «الفردوس الموعود».

الهروب بسيارة الشرطة

الملاحظة هنا أن مركز «بئر الغنم» يتبع رسمياً الشرطة الليبية، ومع ذلك كشف محمد لنا عن طريقة تهريبه، التي تمت بواسطة عناصر داخل المعسكر بقوله: «كل القائمين على المعسكر من ميليشيات وعناصر أمنية يبيعون المحتجزين سراً، ويتقاضون المُقابل كلما أتيحت لأحدهم الفرصة، دون معرفة باقي المسؤولين معهم بهذا الإجراء».
وأضاف محمد موضحا: «بعد أن دفع والدي في مصر المبلغ الذي حدده السمسار، أركبوني سيارة من عربات الشرطة المرصوصة داخل المعسكر، بعد رحلة عذاب استمرت ثلاثة أشهر تقريباً، جزء منها كان في مركز احتجاز غوط الشعال؛ ثم سلموني خارج البوابة الرئيسية لسيارة (تاكسي)، نقلتني بدورها إلى مكان بمدينة الزاوية (48 كيلومتراً غرب طرابلس)، ومن هناك ركبت سيارة أُجرة مع آخرين كانت في طريقها إلى مصر».
وبنبرة فرح لم تخل من ألم، أخبر حسين أبو العز، والد محمد، «الشرق الأوسط» بوصول نجله إلى منزله بمحافظة الدقهلية: «أخيراً استعدت ابني بعد ثلاثة أشهر. الحمد لله الذي نجاه من الجحيم. لكنه عاد إلي يائساً ومحطماً من قسوة التعذيب والإهانة، ومصاباً بأمراض جلدية نادرة؛ والمهم الآن سرعة الإفراج عن مسجون آخر من أبناء قرية تلبانة، يدعى نزيه سمارة (...) الوسيط يطلب 70 ألف جنيه»، وقال إن «السمسار»، الذي عمل على تهريب نجله، ينتمي إلى إحدى مدن جنوب مصر، ويقطن طرابلس.
وحصلت «الشرق الأوسط» على مقاطع «فيديو» من والد الضحية محمد، قال إنها من داخل المعسكر، وصورت عقب عملية تهريب بعض الضحايا.

المافيا والسمسار

هنا، تتكشف الحلقة المفقودة بين عمليات الخطف وتحرير الرهائن، وتكمن في الدور الذي يلعبه «السمسار» بالتوافق مع المتورطين في هذه الجرائم، والذي يؤكد دائماً على أنه «فاعل خير»، رغم أن واقعة الإفراج عن محمد كشفت ما يشبه علاقة (البيزنس) بينه وبين المسؤولين داخل مركز الاحتجاز.
«الشرق الأوسط» تواصلت عن طريق أسرة أحد المخطوفين في ليبيا مع أحد هؤلاء السماسرة، المقيم حالياً في حي الأندلس بطرابلس، الذي رفض الحديث معنا في بداية الأمر، لكنه دافع عن نفسه قائلا: «أنا أقدم خدمة لأهالي المخطوفين بالاطمئنان على أولادهم، والسعي للإفراج عنهم دون مقابل».
ورداً على اتهامه بـ«الاتجار في البشر»، قال السمسار: «لا. أنا أسعى لتخفيض المبالغ المطلوبة للإفراج عنهم، والتي قد تصل في بعض الأحيان إلى 10 آلاف دولار».
وحتى الآن، لا تزال أسرة نورا تتعرض للابتزاز من طرف «سماسرة» يطالبون بمبالغ مالية كبيرة، بحجة الإفراج عن ابني عميها، آخرهم انتحل صفة موظف كبير بالحكومة المصرية، لكن قبض عليه لاحقاً.
ومن «بئر الغنم»، وهو اسم لبلدة صغيرة كانت مسرحاً لمعارك «ثورة 17 فبراير» عام 2011 إلى الصحراء حيث الجريمة، التي شهدتها الحدود بين ليبيا والسودان، وذلك عندما أقدمت شبكة لتهريب المهاجرين على نقل 28 مهاجراً من السودان إلى الحدود الليبية، مقابل مبالغ مالية؛ لكنها تخلت عن 14 منهم وسط الصحراء، دون زاد أو وسائل لنقلهم، ما أدى لموت ستة مهاجرين، بينما تاه الباقون في الصحراء.
غير أن القضية أصبحت قيد التحقيق من النيابة العامة الليبية حالياً، بعدما قبضت أجهزة الشرطة على عناصر الشبكة، وتم حبسهم احتياطياً.
وتقول المفوضية السامية لشؤون اللاجئين إن قرابة خمسة آلاف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لديها، منهم نحو 45 في المائة رجالاً، و22 في المائة نساءً، و33 في المائة أطفالاً. كما سجلت المنظمة الدولية للهجرة إنقاذ 969 مهاجراً من الغرق في الفترة الممتدة من 19 إلى 25 ديسمبر (كانون الأول) 2021، وأعادتهم إلى مراكز الإيواء ثانية.

أعضاء بشرية للبيع

تسرب المهاجرين داخل ليبيا عبر الحدود المترامية بدا الآن أنه يصُب في صالح شرائح عديدة، بداية من الميليشيات والعصابات الممتهنة للتهريب، وصولاً لبعض القبائل بجنوب البلاد، التي تواجه اتهامات بالاستفادة من الفوضى، التي ضربت ليبيا طوال عقد مضى، والتربح من تهريب البشر والسلاح والمخدرات والوقود أيضاً.
لكن المثير في الأمر هو أن هذه التجارة فتحت باباً شرهاً آخر للاستثمار الحرام، يتمثل في قتل مهاجرين أفارقة، وانتزاع أعضائهم البشرية بواسطة أطباء اختصاصيين، وبيعها بمبالغ طائلة.
مصادر قضائية ليبية أطلعت «الشرق الأوسط» على جانب من التحقيقات الجارية مع وافد صومالي، يدعى حسن قيدي، متهم بـ«قتل عشرات المهاجرين، وانتزاع أعضائهم البشرية بواسطة شبكة يقودها تمتهن تهريب المهاجرين والاتجار فيهم وبيع أعضائهم البشرية». بالإضافة إلى اتهامه بـ«اغتصاب عدد من المهاجرات تحت تهديد السلاح، بعد خطفهن وإخفائهن في مخازن سرية لإرغام عائلاتهن على دفع الفدية نظير إطلاق سراحهن».
ولاحقاً تطرق النائب العام، الصديق الصور، إلى هذه الجريمة خلال لقائه مطلع ديسمبر (كانون الأول) 2021 مع وزيرة العدل، حليمة إبراهيم، وبعض القيادات، وقال إن التحقيقات الجارية بمعرفة النيابة العامة كشفت أن «شبكات الجريمة المنظمة استفادت من غياب سلطات الدولة؛ فارتكبت جرائم الاتجار بالبشر، وقتل مهاجرين والاتجار بأعضائهم البشرية».
الناشط المدني الليبي عبد الحميد الوافي، المهتم بملف المهاجرين والنازحين، أوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «جرائم الاتجار في الأعضاء البشرية للمهاجرين نشطت إلى حد كبير بعد عام 2011، وخاصة في مناطق غرب البلاد»، وتحدث عن «وجود عصابات تتخفى في صورة عمال يستدرجون ضحاياهم إلى أماكن سرية، وفي وقت ما، كان يتم ذلك في غابات قصر خيار(شرق العاصمة بنحو 80 كيلومتراً تقريباً)، «وهناك كانت تجرى عمليات جراحية للمخطوفين، وتنتزع أعضاؤهم البشرية، قبل أن يُلقى بهم في البحر». وفق قوله.
ويبرهن الوافي على ذلك بعثور بعض المواطنين، والأجهزة المحلية في وقت سابق على جثث لمهاجرين ممزقة إلى أشلاء، لكن عندما توجهنا بالسؤال إلى وزارة الداخلية الليبية عن هذه الجرائم قال لنا مسؤول أمني رفيع إن «كل ما يتعلق بهذه القضايا من معلومات لدى النائب العام، ومن الأفضل الذهاب إلى النيابة العامة»، لكن الأخيرة قالت إن «القضية رهن التحقيق».
ومن وقت لآخر تعثر الدوريات الأمنية عن جثث متحللة لمهاجرين في الصحراء الليبية. وقد شهدت ليبيا تزايدا ملحوظاً في تدفق أعداد المهاجرين باتجاه الشواطئ الأوروبية، في ظل ما تشهده البلاد من هدوء نسبي راهناً، لكن قوات خفر السواحل المحلية، والسفن الأوروبية العاملة على إنقاذ المهاجرين تعيدهم إلى ليبيا.
ويخلو حديث جُل المسؤولين الليبيين من تحمل أي مسؤولية تجاه ما يقع من جرائم تنكيل بحق المهاجرين، وبهذا الخصوص قال العميد المبروك عبد الحفيظ، مدير جهاز الهجرة غير المشروعة، إن بلاده «باتت ضحية، وتُركت وحيدة في مواجهة هذه القضية، التي عجزت عن معالجتها دول العالم».
كآبة أيام الانتظار تمر على أسر المخطوفين، الذين يستغيثون في ليبيا، ثقيلة، إلا أن الأنباء الواردة من معسكر «بئر الغنم» حملت خبراً ساراً لقرية كفر أبو نجم، اختلطت معه مشاعر الحزن والقهر مع دموع الفرح وحالة الترقب. فقد أبلغت نورا «الشرق الأوسط» أنه بعد ثلاثة أشهر من احتساب قريبيها في عِداد الموتى، أخبر أحد الناجين أسرتها أنهما كانا مسجونين معه في «بئر الغنم»؛ وتمكن هو من الهرب، بعدما اصطحبه أحد قيادات المركز الأمنية إلى منزله لذبح أضحية العيد الماضي، لكنهم حتى الآن لا يعلمون عنهما شيئا، وينتظرون تحرك السلطات المصرية لاستعادتهما.



روسيا «الخاسرة» في سوريا تعيد ترتيب أوراقها: طي صفحة الأسد والتعامل مع واقع جديد

لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في دمشق نهاية يناير الماضي (روسيا اليوم)
لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في دمشق نهاية يناير الماضي (روسيا اليوم)
TT

روسيا «الخاسرة» في سوريا تعيد ترتيب أوراقها: طي صفحة الأسد والتعامل مع واقع جديد

لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في دمشق نهاية يناير الماضي (روسيا اليوم)
لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في دمشق نهاية يناير الماضي (روسيا اليوم)

لم يكن قد مر أسبوعان على إطاحة نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، في دمشق، وتسلم «أعداء الأمس»، مقاليد السلطة، حين أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عبارته الشهيرة: «لم نُهزم في سوريا، وحققنا كل أهدافنا».

كانت موسكو تلتقط أنفاسها بعد التطور الكبير والمفاجئ الذي قلب الموازين وغيّر الخرائط التي حرصت على تكريسها لسنوات مع شركائها في «محور آستانة». الرواية الرسمية ركَّزت على أن نقل الأسد إلى موسكو جاء نتيجة لـ«توافقات» شملت أيضاً إلقاء الجيش السلاح، وفتح المدن واحدةً تلو الأخرى أمام قوات المعارضة، بهدف «حقن الدماء وعدم السماح باندلاع حرب أهلية طاحنة»، لكنَّ ترديد هذه الرواية لم يمنع من حشر روسيا إلى جانب إيران في معسكر الخاسرين المباشرين.

وعبارة بوتين كانت موجَّهة بالدرجة الأولى للرد على تقارير استخباراتية غربية أفردت مساحات لإحصاء خسائر روسيا المحتملة بعد إطاحة حليفها، ومستوى التراجع المتوقَّع للنفوذ الروسي في المنطقة، في حين نشطت الدوائر الروسية على المستويين العسكري - الاستخباراتي والدبلوماسي في محاولة تلمُّس ملامح الواقع الجديد وتحديد آليات التعامل معه.

أولويات موسكو

تريَّث الكرملين طويلاً في إعلان موقف محدَّد حيال الوضع الجديد في سوريا. وقبل أن يُجري بوتين مكالمته الهاتفية الأولى مع الرئيس أحمد الشرع، في فبراير (شباط) الماضي، كانت موسكو قد أجرت جولات من المحادثات مع تركيا وإيران وأطراف إقليمية أخرى. وأعلنت أن اتصالاتها مع القيادة الجديدة تجري عبر قنوات دبلوماسية وعسكرية، في إشارة إلى قناتَي السفارة الروسية في دمشق وممثلي القوات الروسية في قاعدة «حميميم».

وفي يناير (كانون الثاني) قام ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية ومبعوث الرئيس الروسي إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بزيارة لدمشق كانت الأولى لمسؤول روسي بعد إطاحة الأسد. وأعلن الدبلوماسي الروسي المخضرم بعد جولة حوار مع القيادة السورية أنه أجرى «محادثات بنَّاءة وإيجابية». ومن نتائج الزيارة أنها نجحت في «إذابة الجليد» بين الطرفين، وأطلقت مسار التفاوض حول ترتيب جديد للعلاقة بينهما.

جندي روسي على مركبة قتالية للمشاة ضمن قافلة عسكرية روسية متجهة إلى قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية على ساحل سوريا 14 ديسمبر الماضي (رويترز)

وقدمت دمشق عدة مطالب للقيادة الروسية؛ بينها المساعدة في تطبيق مبدأ العدالة الانتقالية عبر رفع الغطاء عن رموز النظام السابق، وإعادة الأموال المنهوبة التي تقول تقارير -نفت موسكو صحتها- إنه تم تهريبها إلى روسيا في وقت سابق.

وأبدت دمشق استعداداً لمناقشة أسس جديدة للوجود العسكري الروسي في قاعدتي «حميميم» الجوية و«طرطوس» البحرية.

من جهتها أكدت موسكو استعدادها لأداء دور إيجابي نشط في ملف الحوار السوري الداخلي، وترتيب الوضع في المرحلة الانتقالية، واستخدام نفوذها بصفتها عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي للمساهمة في رفع العقوبات المفروضة على دمشق. كما تحدثت موسكو عن استعداد للمساهمة في إعادة تأهيل البنى التحتية السورية، وألمحت إلى احتمال إعفاء دمشق من الديون المستحقة لموسكو في إطار مساعدة السلطات الجديدة على مواجهة التحديات الاقتصادية والمعيشية.

وبدا أن أولويات موسكو تقوم على المحافظة على الوجود العسكري الروسي في سوريا في هذه المرحلة على الأقل. ليس فقط بسبب الأهمية المعنوية والرمزية التي تكرِّس عدم تعرض المشروع الروسي لهزيمة كبرى في سوريا، بل لأن هذا الوجود بات يحظى بأهمية خاصة لتسيير عمليات الإمداد الروسية والاحتياجات اللوجيستية إلى القارة الأفريقية ومناطق عدة، مما يعني أن تعرض عمليات موسكو البحرية والجوية في هذه المرحلة لهزة في البحر المتوسط من شأنه أن يكون مكلفاً جداً للكرملين خصوصاً على خلفية استمرار الصراع في أوكرانيا، والمواجهة المتفاقمة مع الغرب عموماً.

العلامة الثانية الفارقة هنا، برزت في الحاجة الروسية إلى فهم آليات تعامل السلطة السورية الجديدة مع الضغوط الغربية التي تدفع إلى التباعد مع موسكو، وإنهاء الوجود العسكري الروسي. وبرزت إشارات مريحة من خلال تأكيد دمشق أكثر من مرة استعدادها لمناقشة آليات جديدة للتعاون، وعدم رغبتها في الانجرار نحو مواجهات مع أي طرف.

منعطف الساحل

بدا أن التريث الروسي كان مدفوعاً برغبة في تلمس آفاق التطورات المحتملة في دمشق وحولها، على خلفية بطء السلطات السورية في إقرار خطوات واضحة للمصالحة الداخلية وتطبيع الوضع مع المكونات وإطلاق مسار الترتيب القانوني والدستوري لهيئات السلطة الحاكمة.

عنصر في العمليات العسكرية السورية أمام مدخل قاعدة حميميم الروسية في محافظة اللاذقية... 29 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لذلك، لم تشكل التطورات الدامية في الساحل، مفاجأة لموسكو. خصوصاً أن معطياتٍ أشارت إلى أن بعض رموز النظام السابق الذين يتحركون بحرية في روسيا، أدَّوا أدواراً في تشجيع التحرك العسكري لبعض المجموعات. وأشارت معلومات إلى أن رجال أعمال موجودين في روسيا دعموا التحرك مالياً. لكن هذا لا يعني أن موسكو لعبت دوراً مباشراً في تأجيج الوضع. وعلى العكس من ذلك، فقط نفت مصادر دبلوماسية تحدثت إليها «الشرق الأوسط» وجود أي علاقة لموسكو في هذا التطور. وتشير مصادر هنا إلى أن موسكو لا مصلحة مباشرة لها في إشعال فتيل حرب داخلية في سوريا تهدد مسار مفاوضاتها مع السلطات القائمة. كما أن فكرة انفصال أجزاء من سوريا خصوصاً في منطقة الساحل وبناء ما يسمى «إقليم عَلَويّ» من شأنها أن تضر على المدى البعيد بمصالح روسيا وفق تأكيد خبراء دبلوماسيين وعسكريين.

قد يكون هذا واحداً من الأسباب المباشرة التي دعت بوتين إلى توجيه رسالة لافتة إلى نظيره السوري في أبريل (نيسان)، حملت في لهجتها وتوقيتها دلالات مهمة للغاية.

أعلن الكرملين أن بوتين شدد في رسالته على استعداد بلاده لتطوير التعاون مع السلطات السورية في كل المجالات.

وقال الناطق الرئاسي الروسي ديمتري بيسكوف، إن الرسالة حملت تأييداً لجهود القيادة السورية الموجهة نحو «تحقيق الاستقرار السريع للوضع في البلاد بما يخدم مصالح ضمان سيادتها ووحدتها وسلامة أراضيها».

اللافت أن الرسالة تضمنت تأكيداً لتوجه موسكو إلى «تطوير التعاون العملي مع القيادة السورية في كامل نطاق القضايا المدرجة على جدول الأعمال الثنائي، من أجل مواصلة تعزيز العلاقات الروسية - السورية الودية تقليدياً».

اتهام ضمني لموسكو

ومع الأهمية التي حملها هذا المضمون، وحرْص بوتين على تأكيد توجهه إلى إعادة ترتيب العلاقة وإطلاق تعاون جدي و«عملي» مع القيادة السورية، فإن أهمية توقيت الرسالة على خلفية نجاح دمشق في مواجهة تداعيات أحداث الساحل، تكتسب بعداً إضافياً، لأن أصابع اتهام كانت قد وُجِّهت إلى موسكو بشكل غير مباشر بأنها دعمت أو غضَّت الطرف عن تحرك عسكري لفلول النظام المخلوع. واستندت الاتهامات إلى أن عشرات الضباط السابقين لجأوا إلى روسيا بعد إطاحة نظام بشار الأسد. ولم تردّ السلطات الروسية على المستوى الرسمي على هذه الاتهامات، واكتفى الكرملين ووزارة الخارجية بالإعلان عن قلق جدي بسبب الاضطرابات في منطقة الساحل السوري التي أسفرت لاحقاً عن ملاحقات وتصفيات جسدية طالت مدنيين.

على هذه الخلفية تبدو رسالة بوتين متعمَّدة في لهجتها وتوقيتها، وهي تحمل إشارة واضحة إلى استعداد موسكو لتدشين مرحلة جديدة من العلاقات تقوم على التعاون بما يلبي مصالح الطرفين.

اللافت أنه مباشرةً بعد الإعلان عن هذه الرسالة، برزت معطيات تناقلتها وسائل إعلام حول قيام دمشق بتقديم «طلب رسمي» لتسليم بشار الأسد. ومرة أخرى بدا أن هذه المعطيات موجَّهة للتغطية على التقدم الحاصل في الاتصالات بين الطرفين، وفق تأكيد دبلوماسيين روس.

مصير الأسد

تقول دمشق إنها طلبت بالفعل خلال الاتصالات تسليم الأسد وزمرة من رموز نظامه، في إطار الحديث عن ضرورة دعم موسكو مبدأ العدالة الانتقالية، لكن الواضح -وفقاً للجهات الروسية- أن هذا الطلب قُدِّم خلال لقاءات على مستوى دبلوماسيين، خصوصاً خلال زيارة بوغدانوف «الاستكشافية»، وليس عبر رسالة رسمية موجهة إلى الكرملين. يوضح أحد الدبلوماسيين هذه النقطة بالإشارة إلى أنه «من السذاجة التفكير بأن دمشق تضع شرط تسليم الأسد لتطبيع العلاقات، خصوصاً أن مغادرة الأسد كانت في سياق الاتفاق على المساهمة في تغيير الوضع في سوريا دون حدوث صدام عسكري أو تفادي حدوث حرب أهلية، وأسهم في ذلك تركيا وروسيا وإيران أيضاً».

صورة للرئيس السوري السابق بشار الأسد في حلب بعد سيطرة فصائل المعارضة على المنطقة (أ.ف.ب)

ويشير الدبلوماسي إلى أن «القيادة الحالية في دمشق تعي تماماً أنها تتحمل مسؤولية ليس أمام الشعب السوري فقط، بل أيضاً أمام الأطراف الدولية التي سهَّلت لها تسلم هذه المسؤولية؛ لذلك بالنسبة إلى روسيا قضية مصير الأسد قضية محسومة وليست قابلة حتى للنقاش، والقيادة الحالية المؤقتة لسوريا تعي ذلك تماماً».

في المقابل، تقول مصادر روسية وسورية متطابقة إن موسكو قدمت تطمينات كاملة للقيادة السورية بأن الأسد لن يكون له أي دور سياسي، وأن «وجوده الإنساني» في موسكو لا يمنحه الحق في الإدلاء بتصريحات أو القيام بنشاط سياسي من العاصمة الروسية.

ووفق باحثٍ سوري مقيم في موسكو، فإن «موسكو حسمت أمرها، ولا رهان على انقلاب داخلي حالياً». ويقول الباحث الذي تحدثت معه «الشرق الأوسط» إن الروس مرتاحون لمواقف الإدارة الجديدة عموماً، لكن هناك أمور كثيرة لم تُحسَم بعد، وهي التي سوف تحدد مسار العلاقات المستقبلية.

لتوضيح هذه الفكرة، يضع الخبير المطلع على بعض النقاشات الجارية، عدة أمور إلى جانب وضع القواعد العسكرية، بينها آليات التعامل مع عشرات الضباط السابقين الذين ما زالوا يحظون برعاية موسكو، وبعضهم يوجد داخل الأراضي السورية، والثمن الذي قد تدفعه موسكو لتمديد أو تحديث عقود الوجود العسكري في حميميم وطرطوس.

ووفقاً له: «لا هدايا مجانية (...) مصير القواعد يتعلق بالتوافقات على القضايا المطروحة».

هنا يشير الخبير ومعه طيف من المحللين في موسكو، إلى نقطتين مهمتين لا تغيبان، كما يبدو، عن جوهر المناقشات الروسية - السورية الجارية؛ الأولى أن «إبعاد روسيا من المنطقة أمر خطير، ولا بد من إقامة نوع من التوازن يمنع هيمنة طرف غربي على الوضع في سوريا والمنطقة، وهذا يصب في صالح دمشق وموسكو معاً». والأخرى أن ثمة آفاقاً لأن تكون سوريا جزءاً من توافقات روسية - أميركية في المرحلة المقبلة. ويدخل هنا الحديث عن صفقات محتملة قد تكون العلاقة مع طهران، وعرض الوساطة الروسية لتقريب وجهات النظر معها، والتوصل إلى صفقة نووية جديدة مُرضية لكل الأطراف، جزءاً من مقدماتها.