غراس: أهوال النازية ليست ذريعة للصمت

قصيدته «ما ينبغي أن يقال» قادت إلى حملة إسرائيلية شعواء ضده

غونتر غراس
غونتر غراس
TT

غراس: أهوال النازية ليست ذريعة للصمت

غونتر غراس
غونتر غراس

منذ أن نشر الكاتب والأديب الألماني غونتر غراس، الحائز على جائزة نوبل في الآداب، الذي رحل أمس، قصيدته النثرية «ما ينبغي أن يقال»، في صحيفة «سودوتشي تسايتونغ»، في 4 أبريل (نيسان) 2012، عدته إسرائيل محرضًا، وقادت آلتها الإعلامية حربًا بلا هوادة ضده، لانتقادها واعتبار تهديدها بضرب المنشآت النووية في إيران، تهديدا للسلام العالمي.
في مطلع تلك القصيدة جاء: «ولهذا أقول ما ينبغي أن يُقال.. لكن لماذا صمتُ حتى الآن؟.. لأني اعتقدت أن أصلي.. المدان بجرائم لا يمكن أبدًا التسامح فيها.. منع من مواجهة دولة إسرائيل بهذا الواقع كحقيقة واضحة.. لماذا أقول الآن فقط وأنا كبيرٌ في السن، وبآخر قطرة حبر من فكري: إن القوة النووية لإسرائيل خطر على السلام العالمي الهش بطبيعته؟».
وفي قصيدة غراس، الذي شارك العام 1944 في الحرب العالمية الثانية كمساعد في سلاح الطيران الألماني، ووقع في أسر القوات الأميركية بعد انتهاء الحرب عام 1946، وأطلق سراحه في السنة نفسها، قال غراس إنه «سئم من نفاق الغرب فيما يتعلق بإسرائيل، و(إن) أهوال النازية ليست ذريعة للصمت».
وقال غراس للصحيفة التي نشرت قصيدته، إن «ما دفعه لكتابة القصيدة، كان سلوك، رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الذي يخلق المزيد من الأعداء لإسرائيل ويزيد عزلتها»، مشيرًا إلى أن «الخطر الفوري هو الخطر الذي لا مثيل له، ضربة وقائية إسرائيلية ضد إيران يمكن أن تكون لها عواقب فظيعة».

* حملة إسرائيل الشعواء
يمكن القول، إن موقف إسرائيل من انتقادات الأديب الألماني ورد فعلها عليه تجاوز كل حدود، إذ لم يتخلف أي سياسي معروف في إسرائيل عن المشاركة في الحملة عليه. فهو في كل الأحوال ألماني، وهذا يكفي للقول إن النازية عادت لتطل برأسها! وإن ذلك قد يشجع على تنامي مظاهر العداء للسامية في أوروبا تحديدًا. ولا يهم في هذا السياق، إذا كان أباطرة الأدب والفكر الإسرائيلي منذ ما قبل العام 1967، يكنون تقديرا هائلا لغونتر غراس أم لا، فالمهم هنا أن انتقاداته حكومة الاحتلال الإسرائيلي، جعلت منه عدوًا للشعب اليهودي بأسره و«معاديًا للسامية».
وذهب الكثير من المعلقين والساسة الإسرائيليين في موقفهم من غراس، إلى حد محاولة تصفية الحساب وتأديب ألمانيا بأسرها، إذ كيف يجرؤ ألماني، خصوصا إذا كان قد نال جائزة نوبل للآداب، على توجيه انتقادات لإسرائيل وحكومتها وسياستها؟ ومن أين يمكن أن تأتيه الجرأة لأن يعتبر إسرائيل خطرًا على العالم؟
حين ذاك، رد نتنياهو قائلا: «إن من يدعم منظمات الإرهاب التي تطلق الصواريخ على المدنيين الأبرياء، هي إيران لا إسرائيل». وتساءل: «من يدعم المجزرة التي ينفذها النظام السوري ضد مواطنيه؟ إيران لا إسرائيل. من يقتل النساء ويشنق المثليين ويضطهد عشرات الملايين من مواطنيه؟».
وهكذا رأى الإسرائيلي، أن نزعات عنصرية تعشّش عميقا في نفوس الألمان، وأنها تتجلى بين الحين والآخر. وما يهمه في هذا الصدد، هو أن يتشكل لدى الألمان خصوصا والأوروبيين عموما، خطًا أحمر لا يمكنهم تجاوزه، ويشكل «تابو» يمنعهم من ممارسة انتقادات علنية.
وهكذا لم تشفع لغراس مواقفه وصداقاته في إسرائيل مع كبار الأدباء، من شاي عجنون إلى الشاعر ناتان ألترمان، فهو غير مسموح له بإطلاق انتقادات. ولهذا السبب، بادر وزير الداخلية الإسرائيلي، آنذاك، إيلي يشاي، الذي ربما لم يسمع أبدا بغراس، أو يقرأ أيًا من كتبه، إلى الإعلان عن غراس، «شخصية غير مرغوبة»، ومنعه من دخول إسرائيل.
ورأى يشاي في قصائد غراس، «محاولة لتغذية الكراهية ضد دولة إسرائيل وشعبها، وتحقيق الفكرة التي كان شريكًا لها في ماضيه عندما ارتدى لباس وحدات إس إس النازية». وأعلن وزير الخارجية الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، حينها، أن غراس «مستعد للتضحية مرة أخرى بالشعب اليهودي على مذبح المجانين المعادين للسامية».

* ممنوع من دخول فلسطين
ووصل الأمر بالسلطات الإسرائيلية، أن منعت غراس من دخول فلسطين في أبريل 2012، أي بعد أيام من نشر قصيدته «المشينة»، كما وصفها بعض الإسرائيليين.
وتجدر الإشارة إلى أن وزراء الداخلية في دولة الاحتلال، سبق وأن أصدروا قرارات تجعل من عدد من المفكرين، بينهم يهود، شخصيات غير مرغوب فيها في إسرائيل، فأصدر أبراهام بوراز، في يونيو (حزيران) 2004، قرارا يحظر على الصحافي البريطاني بيتر هونام، دخول إسرائيل، بدعوى علاقته بالخبير النووي مردخاي فعنون. كما أن «الشاباك» أمر في مايو (أيار) 2008، بحظر دخول المؤرخ اليهودي الأميركي نورمان فينكلشتاين. وفي مايو 2010، منعت إسرائيل دخول الكوميديان الإسباني إيفان باردو، لأسباب مماثلة. وفي الشهر نفسه أيضا مُنع المفكر ناعوم تشومسكي، وهو أيضا يهودي، من دخول إسرائيل بسبب مواقفه السياسية.
ويرى د. موسى الكيلاني، الكاتب والناقد الأردني، أن غراس «يمثل ضمير الشعب الألماني بصدق وأمانة وموضوعية. ولأنه كذلك، استشاط رئيس الوزراء الإسرائيلي غضبًا عليه بسبب قصيدة. غونتر غراس، الذي فاز بجائزة نوبل للآداب العام 1999، واعتبره الألمان فخرًا للشعب كله، سبق أن تعرض لعذابات السجون، وحارب في الجبهات العسكرية دفاعًا عن الوطن، وجاء عمله الأدبي ثلاثية داين - تسيغ، تتويجًا لأعماله السابقة التي سبرت عمق المواطن الألماني كإنسان ومشارك في إعادة صياغة الكوزموس الكوني».
وأضاف الكيلاني: «لم يتنكر الرجل لمبادئه الإنسانية بعد فوزه، بل استمر مبشرًا بأقوال صديقه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، الذي قال إن على الشاعر أن يلتزم بقضايا وطنه أولاً، ثم عليه أن يتبنى قضايا المظلومين في أميركا اللاتينية، ومعاناة الجائعين في أفريقيا، وآمال الأطفال المحرومين في العالم أجمع، وخصوصا مآسي اللاجئين الفلسطينيين.. والمثقف الذي لا يلتزم بقضايا أمته والناس، فهو فاقد للاحترام، ولا يصلح إلا أن يكون جليسًا للطغاة الديكتاتوريين، ليشارك في حفلات الترفيه عنهم وتقديم الفكاهة والتسلية لهم، وتدبيج مقالات النفاق بأمجادهم».

* تحول في المواقف
عندما أعلنت لجنة جائزة نوبل منح غراس الجائزة العام 1999، قالت في ديباجتها إن «ذلك تقدير لدوره في الارتقاء بالأدب العالمي، باختياره ثيمات تركز على كون الفرد جزءًا من المجتمع الإنساني الأكبر، وليس فقط جزءًا من مجتمعه الإقليمي أو الأسري، كما جسّد ذلك في ثلاثية داين - تسيغ.
في حينها، حيا أدباء إسرائيل غونتر غراس بعد فوزه بالجائزة قبل ثلاثة عشر عامًا، باعتباره داعية للفكر الإنساني العالمي الذي يتجاوز الحدود الجغرافية، بل ينحو إلى آفاق أوسع من الأخوة الشاملة مهما كان العرْق أو الدين أو اللغة أو لون بشرة الجلد. لكنهم ومنذ العام 2012، لم يتوقفوا عن انتقاد غراس وشن حملات عليه.



الوطن في التجارب السردية السعودية

الوطن في التجارب السردية السعودية
TT

الوطن في التجارب السردية السعودية

الوطن في التجارب السردية السعودية

حكاية الإنسان على الأرض ومسيرته في الحياةِ تتعددُ باختلافِ الألسنِ وتباينِ الثقافاتِ، وتتحدُ بالمقابلِ في لغةٍ كونيةٍ جامعةٍ عندَ تعبيرها عنْ مفهومِ الأوطانِ. فالوطنُ حقيقةٌ فطريةٌ، ونزعةُ ذاتية اليقينِ، تتماهى فيها الأنا بموضوعها بما يشكلُ هويتها ويرسمُ مسارها، فيصبحُ الوطنُ هوَ جسد الإنسانِ الكبيرِ الممتدِ باتساعِ حدودهِ. وللسردِ تقنيتهُ الخاصة وطرقه المختلفة في التعبير عن مشاعر القاص الحميمية وقيمه النبيلة التي يرفعها عالياً ويحتفي بها كما هو نهجه اتجاه وطنه. فتارة، تُبرق العواطف على شكل غنائية تنتشي بها حروفه وتتضوع بها جمله وتتشرب بها حكاياته. وأخرى، تنكشف العواطف مسرودة بكثير من التفاصيل في نسيج من الحكايات التي هيضها الحنين إلى زمن ماضٍ في بقعة كانت مسرحاً لتلك العواطف وحاضنة لها.

من جانب آخر، نلحظ أن السرد، خصوصاً في جنس القصة القصيرة، وعند تناوله لموضوع الوطن، يفضل أن يختار - في الغالب - بين ثلاث طرق عند استعراضه لعواطفه: الوطن مختزلاً في مكان، أو الوطن من خلال أحد رموزه وشعاراته، والثالث عندما يوظف القاص تقنية «التجريد» ليتناوله من زاوية الوجدان. وفي جميع طرق التناول، نجد أن السرد بتعدد أساليبه، يستعير من الشعر بعض أدواته مثل الكناية والمجاز وأحياناً الاستعارة، ليخلق من ذلك صوراً شعريةً يتقارب فيها مع جنس القصيدة بصيغتها النثرية.

قبضة من تراب، نثار الذهب:

في النموذج الأول «الوطن برمزية المكان» يطالعنا تركي الرويثي في قصته «طمية»، بإحدى تقنيات السرد بتدوير الزوايا لخلق منظور مختلف لرؤية الموضوع. ففي قصته، يتأنسن المكان، ويكتسب صفة الأنثى، ويصبح الجبل كائناً أسطورياً، واعياً متكلماً: «أنا جبل، أنثى جبل، هل قلت لكم هذا من قبل، ذاكرتي أكلتها الأيام والليالي، هل قرأتم قصتي؟». بل يمتلك الجبل المقدرة على الحركة والترحال في مساحة شاسعة من الجغرافيا: «حدث أن جبلاً يقال لها (طمية)، تمردت وسارت في ليلة ظلماء... فرأت جبلاً أبيض يقال له (قطن) يختلف عن جبال منطقتها السوداء». يبوح الجبل بعواطفه متحدثاً عن نفسه وعن مشاعر من سكن بجواره بصيغة سردية مبتكرة: «إني أنتظركم، فتعالوا بسرعة، عن أي سرعة أتحدث، من مضى على مكوثها قرون، بأي قياس تقاس السرعة عندها؟ هذه الأمور نسبية، السرعة والحقيقة وكل المحسوسات والمعارف، اسألوني فأنا التي أعرف، لا يهم، المهم أن تأتوا وتحيوني، لا تنسوا».

ما يحاول القاص إثارته من خلال أسطرة المكان، أن يعبر عما يجيش في وجدان الجماعة ومخيالها إزاء نظرتها وحفاوتها بعظمة الطبيعة الحاضنة للإنسان والمترفقة به، وباعتبار أن ذلك اللاوعي الجماعي، بمثابة المستودع الذي تتوارثه الأجيال، ويشتمل على صور مترابطة وزخارف رمزية كثيرة تكمن لا شعورياً في أنفسهم، كما يراه عالم النفس يونغ.

سليل النخلة، حفيد الوطن:

أما ناصر الحسن في قصته «تباريح الصرام» - كنموذج لتوظيف الرمز الوطني - فهو يتناول مفهوم عشق الوطن من خلال أحد رموزه التي شكلت جزءاً من علامته وشعاره، أي النخلة، باعتبارها رمزاً وطنياً بامتياز، وذلك من خلال توظيفه لها في حكاية. لون من التذكير بالماضي الذي هو إحدى مهمات الكاتب «للتذكير بمجد الماضي من أجل الإبحار نحو المستقبل»، كما يقول ويليام فوكنر.

ناصر الحسن يصف العلاقة بالنخلة بصيغة سردية - شاعرية في نصه: «جذبه حفيف السعف وهو يختلط مع أصوات البلابل كمقطوعة كونية، شنفت أسماعه وهو يلف (كرّ) النخل حول خصره النحيل، استعداداً لصعوده، رفع رأسه مبتسماً ينظر إلى هام النخلة كمن يستأذن سيدة نبيلة للرقص، يتأكد من ربط الحبل جيداً، يقبض عليه بسواعد قروية جافة كتربة قبر منسي، ثم يضع رجله على جذعها المموج الدافئ بحكايا الأجداد، أخذ في الصعود وهو يستذكر موطئ قدم أبيه وجده، وفي كل مرة يباعد (الكر) عن جذع النخلة، يلتحم معها كمن يريد ضم معشوقته لأول مرة، يتنشق عبق تمرها يخطو في مدارجها وصوته يبح عن همهمة خفيضة، يبتعد عن الأرض فيصغر الحقل في عينيه كطائر مسافر، يقترب من نصفها فتهرب العصافير من سعفاتها، يتردد صدى الذكريات في رأسه: النخلة أمنا يا ولدي، تغذينا وتطعمنا صيفاً وشتاءً، وإن كنت باراً بها، فاحرص على رعايتها كحرصك على عينيك».

الهوية... المجرد والحسي:

قد لا يكون الإيحاء بالمعنى ميزة سردية بشكل مطلق، لكن عندما يستعير السرد هذه الأداة من الشعر، فهو في حقيقة منزعه محاولةً لاستطالة أفق انتظار القارئ للمعنى المراد إيصاله. ففي القصة القصيرة بشكل خاص، تقوم هذه التقنية أو الأداة بمناورة المتلقي ولا تمنحه المعنى بسهولة؛ كحبل طويل في نفق مظلم يمسك به القارئ حتى نهايته للوصول إلى المحطة التي استدرج فيها القاص قارئه. بينما تقنية الإيحاء بالمعنى في القصيدة الكلاسيكية لا تتعدى نطاق البيتين حتى تتضح قصدية الشاعر.

فمحمد الراشدي في قصته «بطاقة هوية» - كنموذج ثالث - يوظف هذه التقنية بمهارة شديدة، وينوع على مفهوم «الهوية الوطنية» باصطناع مفارقات لفظية وحبكات درامية مختلفة. يستعرض فيها مدلولات المعنى وفق أحداث يمتزج فيها الخيالي بالواقعي، مشكلاً مشاهد فانتازية. فالقاص، يستعرض في سرده عمق وتجذر الهوية الوطنية في الوجدان، وينزلها من مفهومها «التجريدي» إلى الحسي الملموس.

الحكاية تبتدأ بهذا المشهد: «اكتشفت ذلك أول مرة مصادفة؛ حين ناولني موظف الأحوال المدنية بطاقة الهوية الجديدة. كانت أنيقة وصقيله وبياناتها مخطوطة بحروف وأرقام واضحة. راجعت البيانات على عجل وحين تأكدت من صحة المكتوب فيها، قمت أحاول إدخالها في الجيب المخصص لها من المحفظة. كان مقاسها أكبر قليلاً من مقاس جيب المحفظة، وعندما حاولت أن أضغط طرفها قليلاً لأسلكها عنوة في الجيب؛ انغرس الطرف المرهف في إبهامي حتى نضحت قطرة دم صغيرة على حافة البطاقة. عرفت لحظتها أن بطاقة الهوية الجديدة تلك لا تشبه بقية البطاقات في محفظتي؛ فهي إلى جانب أنها لامعة جداً، وأنيقة جداً؛ هي كذلك مرهفة الحواف جداً إلى الحد الذي يمكن معه أن تجرح وتنهر الدم...».

إذن، هذا هو مشهد التهيئة والمدخل إلى المفهوم العميق للهوية باعتبارها عاطفة فطرية سامية غالباً، ولها جانبها الآيديولوجي الذي يجب التعاطي معه بحذر. ولعل ذلك المعنى يتضح بتقدمنا في قراءة النص: «كان استخدامي لتلك (الْهَوَيَةْ) كما ينطق الناس اسمها مختصراً هنا - في مواضع القطع والبتر والجرح أكثر بكثير من استخدامها فيما أعدت لأجله، وفي المرات القليلة التي كان فيها شرطة نقاط التفتيش يطلبون فيها أوراقي الرسمية؛ كنت أضحك في نفسي حين أتخيل أنهم سيعتقلونني بتهمة حيازة سلاح أبيض وإشهاره أمام رجال الأمن».

وفي الجزء الأخير من الحكاية، يعود الخطاب السردي إلى التجريد في المفهوم مجدداً؛ ويكون فضاؤه هذه المرة هو الحلم، حيث المساحة التي تمهر فيها المخيلة وتنشط للبوح: «وفي المساء كنت أراني في المنامات دائماً في حشود من البشر تحتدم بينهم طبول مجنونة الإيقاع. وهويتي في المنام تستحيل خنجراً طويلاً معقوفاً وفاخراً... كنت أشق الجموع... أرقص بينهم العرضة وخنجري يبرق كالشهاب فوق هامتي. وفي المنام أيضاً كنت أنازل بخنجري غرباء أراهم في الحلم أشراراً تتمزق أوصالهم بحد هويتي».

رؤية قيد الاختبار

بهذه النماذج الثلاث، يمكننا الوصول إلى استنتاج واضح فيما يخص الأسلوب السردي في القصص القصيرة عند تناوله لموضوع الوطن؛ فهو يصبح عاطفياً، شاعرياً، تجمح فيه العواطف بمحرضات الحنين إلى زمان «طوباوي»، وتتقاطع مع أمكنة أثيرة مكونة حدثاً ورؤية متخيلة؛ لوصف مشاعر الذات إزاء موضوع تُعلي من شأنه ويسكن عميقاً في حناياها؛ فتترجمه في جنس أدبي يمتزج فيه السردي بالشعري. فالتناول بوحي الحنين «نوستالجيا» كان مدلوله في السابق «مرضاً منغمساً في الماضي»، بينما ينظر إليه اليوم «باعتباره عاطفة مبهجة تعيد صياغة المستقبل»، كما ترى ذلك المؤرخة في تاريخ الطب أغنس أرنولد فوستر.

وفيما عدا النماذج السابقة، يتم تناول الموضوع الوطني في القصص القصيرة السعودية بطريقة غير مباشرة، وعلى شكل إشارات تبرز التحولات الجذرية في حياة الفرد السعودي، وحقبة دخوله في العصرنة والحداثة بفعل خطط التنمية والإنجازات الكبرى المتحققة، وهو تعبير عن الامتنان والشعور بالعرفان، وتطلعات لاستشراف المستقبل. وبهذا، يكون القاص، كما هو الشاعر في نظمه، قد عبر عن مجتمعه بأسره؛ لأن القصة لا تكتفي بسرد مغامرات أفراد فحسب، إنما سرد «المجموع الذي ندعوه (مجتمعاً)، وهو لا يتألف من أناس، بل من كل ما هو مادي وثقافي»، كما يقول ميشيل بوتور.

كاتب سعودي