على عكس ما سجّلته السينما العربية في هذا العام الآيل لتوديعنا من مواقف واتجاهات وأفلام، كما أوردنا هنا في الأسبوع الماضي، تتمتّع السينما العالمية بذلك القدر الكبير من السعة والشمولية بحيث يمكن نشر صفحات عنها إذا ما شاء الناقد التوسع في كل ناحية من نواحيها.
السينما العالمية انتعشت بنسبة 40% عمّا كان الحال عليه تجارياً في العام الماضي، 2020، لكنّ هذا لا يعني أنها تقدّمت كثيراً على صعيد استعادة جماهيريّتها من أنياب الداء المنتشر واستغلال المنصّات المنزلية لحاجة ورغبة الكثير منّا البقاء في المنازل.
حسب إحصاءات مؤكدة، فإن صناعة السينما الأميركية على وجه التحديد (وهي الأكبر والأنجح عالمياً) شهدت الوضع التالي:
> في عام 2019 سجلت 11 ملياراً و320 مليوناً من الإيرادات.
> في عام 2020 اكتفت بمليارين و90 مليون دولار.
• حتى منتصف هذه السنة، 2021، تنبأ المعنيون بأن الخسارة الإجمالية للسينما حول العالم ما بين 2021 و2025 ستبلغ 160 مليار دولار.
> هذه الخسارة المتوقعة ستشمل صالات السينما التي ستخسر قرابة 8 مليارات دولار كل سنة.
طبعاً سيتغيّر كل شيء للأفضل لو صدق المسؤولون حين أعلنوا (ولو على نحو متضارب) أن أيام «كورونا» و«كوفيد» ومتحوراتهما ستصل إلى نهايتها مع نهاية العام المقبل.
التمثيل بالكمامة
سينمات العالم ما زالت أقل رغبة في تقديم مواضيع حول الوباء الكبير. عدد محدود من الأعمال السينمائية هذا العام دار حوله والكثير منه تسجيلي (أفضلها مما شاهده هذا الناقد فيلم صيني بعنوان «76 يوماً» حققه وايكسي تشن والصيني- الأميركي هاو وو، والذي تناول الأيام الأولى من انتشار الوباء). سبب وجيه لذلك يعود إلى أن التمثيل تحت الأقنعة لا يمكن تحمّله لا حين التصوير ولا حين المشاهدة. كيف ستقرأ انفعال الممثل إذا ما كان نصف وجهه غير مرئي بكامله؟ كذلك لا يمكن الآن تناول الموضوع إلا على نحو محدد. مثل المواضيع التي تدور حول الحروب الكبيرة منها والصغيرة ومثل تلك التي تتحدث عن أوضاع اجتماعية عامّة مطروحة اليوم (كالهجرة غير الشرعية، أو الشرعية منها) يحتاج موضوع «كورونا» إلى سيناريوهات مكتوبة باتجاه نقدي أو -على الأقل- بموقف يعكس إلماماً ويحتوي اتجاهاً ذا رأي محدد.
في مطلع العام شاهدنا «حظ سيئ في ممارسة الحب Bad Luck Banging or Loony Porn» للمخرج الروماني رادو يود الذي عرضه مهرجان برلين وخرج منه بجائزة الدب الذهبي (الأولى). فيه نرى بطلة الفيلم وهي تسير في شوارع بوخارست وقد غطّت وجهها بالكمامة معظم الأحيان. كذلك من تمر بهم من رجال ونساء. نعم هو واقع، لكن ما يجعله مقبولاً في هذا النطاق هو أسلوب المخرج القائم على اللا- حكاية (أو «الحكاية المحدودة») ضمن أسلوبه السردي الممطوط.
مهرجان برلين الذي توجّه للعروض الافتراضية مطلع 2021 ما زال أحد أهم خمسة مهرجانات دولية إلى جانب «كان» و«فنيسيا» و«صندانس» و«تورونتو». كل من «صندانس» و«تورونتو» عانى مما فرضه الوباء حول العالم. لكن «كان» و«فنيسيا» أقدما على إقامة دورتيهما حتى آخر نقطة في قاموس التحدي.
«كان»، الذي انتقل مرحلياً إلى منتصف السنة عوض ربيعها، أهدى جائزته الأولى إلى فيلم عنيف بعنوان «Titane» للفرنسية جوليا دوكورناو. أما المهرجان الإيطالي فمنح جائزته الأولى لفيلم «يحدث Happening» للفرنسية الأخرى أودري ديوان.
عندي، أخفقت المهرجانات الثلاث، عبر لجان تحكيمها، إطلاق سهامها صوب الأهداف الصحيحة. مقابل «يحدث» كان هناك «ذَا كارد كاونتر» لبول شرادر الذي هو أعمق وأهم من معظم ما عرضه المهرجان الإيطالي. عوض «تيتان» الذي خطف السعفة في «كان»، فقدت لجنة التحكيم قدرتها على التحكيم بإغفالها فيلم شون بن «يوم العَلَم». أما عروض برلين فقد شملت أقل عدد مميّز من الأعمال، اثنان منها كانا جديرين بالجائزة الأولى لو أن التحكيم استبعد أفلام الدهشة والصدمة كحال «حظ سيئ في ممارسة الحب»، هما: «عجلة الحظ والفانتازيا» للياباني ريوسوكي هاماغوتشي، و«دفاتر مايا» للثنائي اللبناني جوانا حاجي توما وخليل جريج.
«دفاتر»، برلين، يشترك مع «أوروبا» لحيدر رشيد (الذي عُرض في «كان» ضمن تظاهرة «نصف شهر المخرجين») في أنهما عن الهجرة. الأول حين يزور الماضي لبنانية وابنتها المهاجرتين إلى كندا، والثاني عبر حكاية شاب يسعى للبقاء حيّاً وقد دخل بلغاريا آتياً من تركيا خلسة.
موضوع الهجرة -مشروعة أو غير مشروعة- تم طرحه على نحو أفضل في «Limbo» للبريطاني بن شاروك، عبر حكاية شاب سوري يهوى عزف العود الذي جلبه معه حين لجأ إلى بريطانيا. الآن هو في منزل يحوي طالبي لجوء آخرين ينتظر أوراقه.
هناك شعور إنساني عميق لهذا الفيلم البسيط كذلك الحال بالنسبة للفيلم الصربي «بقدر ما أستطيع السير As Far as I Can Walk» لستيفن أرسنييفيتش. هذا ينتقل باهتمامه إلى مخيّم صربي للاجئين حيث يحاول الأفريقي (إبراهيم كوما) التأقلم مع زوجته (نانسي منسه- أوفاي) في الوضع الجديد. هذا إلى أن تهرب الزوجة مع لاجئ سوري (مكسيم خليل) ما يُطيح بمستقبله ذاك.
في كل الأحوال، فإن المهرجانات عموماً ما زالت المعين الأفضل للتعرّف على السينمات المختلفة والبديلة والمخرجين ذوي البصمات الخاصة. هؤلاء (مثل جين كامبيون وبدرو ألمودوفار وباولو سورنتينو وشون بن) ما زالوا المعيار الصحيح لقياس حركة سينما المؤلف واتجاهاتها. والفضل في ذلك للمهرجانات، كون الأسواق التجارية محدودة الأثر والتأثير.
جمهور ونقاد وأرقام
أميركياً، حاولت السينما استعادة مكانتها بين المشاهدين. لم يكن هذا هيّناً على الإطلاق في النصف الأول من السنة، لكن الأمور تحسّنت تدريجياً من مطلع فصل الصيف عندما سجّل «Jungle Cruise» لخوام كوليت – سيرا، نحو 117 مليون دولار.
باعتماد الأفلام العشرة الأولى التي شهدت أعلى نجاح تجاري نجد اليوم أن «سبايدر- مان: نو واي هوم» يتبوأ القمّة بعدما غزا 4336 صالة أميركية وكندية وسجل فيها حتى الآن 297 مليون دولار (من دون حساب الإيرادات العالمية).
في المركز الثاني «شانغ- تشي وأسطورة الخواتم العشر» (225 مليون دولار) وهو أكشن آخر بدوره، ثم فيلم الرعب «فينوم: ليكن هناك غضب» (212 مليوناً)، وفي الرابع عودة لسينما الكوميكس في «بلاك ويدو» (184 مليوناً).
ليس من بين كل هذه الأفلام ما يُثير إعجاب النقاد وهذا ليس غريباً، كذلك ليس من بين الخمسة التالية ما هو مميّز فنياً باستثناء «مكان هادئ 2» الكامن في المركز الثامن (160 مليوناً و72 ألف دولار) هذا بعد فيلم جيمس بوند الجديد «لا وقت للموت» (160 مليوناً و772 ألف دولار).
بطبيعة الحال، كان النقاد على الطرف الآخر بعيداً عن «شبابيك» المصارف وآلات إحصاء النقود. هذا الفريق الذي يواكب السينما وأفلامها أكثر من أي جمهور آخر (وفي كثير من الأحيان أكثر من معظم السينمائيين كذلك) خرج بقائمة مختلفة تماماً. حسب إحصاء قام به موقع «ميتاكريتيك» شمل نقاد الصحف وأهم المواقع الأميركية والبريطانية جاء الفيلم الأسترالي- الأميركي «قوّة الكلب» لجين كامبيون في المركز الأول بـ144 صوتاً، و«سُقْ سيارتي» للياباني ريوسوكي هاماغوتشي في المركز الثاني بـ123 صوتاً.
تشمل الأفلام الثمانية التالية الفيلم الأميركي «بيتزا بعرق السوس» لبول توماس أندرسن (المرتبة 3)، و«ديون» لدنيس فلنييف (5)، والفيلم التسجيلي «Summer Soul» (7)، «وست سايد ستوري» لستيفن سبيلبرغ الذي لم يلقَ نجاحاً بين الجمهور السائد فحط في المركز السادس لدى النقاد.
وحدة أسلوب
على نحو متوقع، شهدت السينما الأميركية الحجم ذاته من الأفلام المقتبسة عن شخصيات الكوميكس ولو بنجاحات متفاوتة تبعاً لما كانت عليه حال الوباء في الفترة التي تم فيها عرض كل فيلم. من بين هذه «Ant- Man and the Wasp quantunmaia» لبيتون ريد، و«Aquaman and the Lost Kingdom» لجيمس وان، و«Black Widow» لكيت شورتلاند، ثم «Eternals» لكليو زاو، و«Shang- Chi and the Legend of the Ten Rings» لدستن دانال كريتن، وحالياً «Spider Man: No Way Home» لجون واتس.
ما يُثير في هذا الشأن ليس النجاح الكبير الذي تحظى به هذه الأعمال (أو هل نقول النجاح الكبير الذي ما زالت تحظى به؟) بل إنها، كمثيلاتها في الأعوام الماضية، تحتوي على أسلوب عمل واحدة ورؤية فنية وإنتاجية مشتركة بحيث لا يمكن التفريق بين فيلم لجيمس وان أو لبيتون ريد أو أي آخر إلا حين قراءة اسم أحدهم. الطابع المنفرد تم محوه لا بالنسبة لهذه الأفلام فقط، بل لما يتم إنتاجه حول العالم من أفلام تلبّي حاجة الجمهور السائد.
هذا بالطبع على عكس سنوات الأمس عندما كان المشاهد يستطيع التفرقة بين فيلم من إخراج سيدني بولاك وآخر من إخراج ستانلي كوبريك، من مطلع الفيلم. هيتشكوك وكوبولا وسكورسيزي وهال أشبي وآخرون من أساتذة العمل السينمائي لم يحققوا ما أنجزوه من مكانة إلا لأن لكل واحد فنّه الخاص ورؤيته التي لا يشاركه بها أحد آخر.