(4-2) كتب السيرة والتاريخ والرواية تتصدر قراءات الكُتَّاب المصريين

تعكس شغفاً بالحياة وتشبثاً بإرادتها

د. هويدا صالح  -  وجدي الكومي  -  سعد شحاتة
د. هويدا صالح - وجدي الكومي - سعد شحاتة
TT

(4-2) كتب السيرة والتاريخ والرواية تتصدر قراءات الكُتَّاب المصريين

د. هويدا صالح  -  وجدي الكومي  -  سعد شحاتة
د. هويدا صالح - وجدي الكومي - سعد شحاتة

تراوحت قراءات الكتاب والمثقفين المصريين هذا العام ما بين الكتب الأجنبية والعربية والدراسات الفكرية والأدبية وإبداعات القصة والرواية، وغيرها من المؤلفات التي تحمل شغفاً بالحياة، وتستحث على التشبث بها ومواجهة أخطار ومخاوف جائحة «كورونا».

- نهر في المنتصف
تقول الناقدة د. هويدا صالح: «كتابي المفضل لهذا العام روايةThe river between التي قرأتها بالإنجليزية، ويمكن ترجمة العنوان إلى (نهر في المنتصف) للكاتب الكيني نغوجي واثينغو. تنتمي الرواية لأدب ما بعد الاستعمار، حيث تحكي فترة مجيء الرجل الأبيض إلى أفريقيا، ومحاولته فرض نمط ثقافي على الحياة هناك، عبر أدوات عديدة مثل التبشير والتعليم، كما تكشف نمط الحياة في جبال كينيا خلال الأيام الأولى لاستيطان البيض في مواجهة الاختيار بين ثقافة جديدة مغرية وعادات أسلافهم، فإن شعب الجيكويو ممزق بين أولئك الذين يخشون المجهول وأولئك الذين يرون ما وراءه. تسرد الرواية قصة واياكي، الذي نشأ في ريف جيكويو الذي يتعرض للغزو والانتهاك. إنه سليل شخصيات ذات شأن مهم في التاريخ الإنساني لإحدى القبائل من شخصيات قاومت الظلم والاستبداد. ينهض واياكي بمهمة مقاومة المستوطنين البيض الذين قدموا إلى كينيا، بملابس كالفراشات، فيشرع في إجراء حركة جديدة فتية، تتجاوز القبلية والإقليمية والعنصرية، وتعتمد على الثقافة والتعليم كسلاح في مواجهة الاستعمار والتخلف والقهر والاستلاب. حركة تستلزم التعاضد والتكاتف والوحدة في وقت تتبعثر فيه الجهود بالنزاعات والانقسامات تلك التي تضاعف الهوة القائمة بين جماعتين من قبيلة واحدة، ومع ذلك يظل هدف البطل الأسمى التعليم، الوحدة، الحرية السياسية».

- ملحمة السيد
وتقول د. عبير عبد الحافظ أستاذ الادب الاسباني: «يقترب العلامة الكبير كعادته الدكتور الطاهر أحمد مكي من موضوعات فكرية وأدبية رفيعة الطراز ويخص هذه المرة الأثر الأدبي الشهير والأهم وهو كتاب (ملحمة السيد) الصادر عن دار المعارف الذي يتناوله من خلال الدراسة المفصلة التي تعقبها ترجمة بديعة للنص الإسباني الذي يعتبر باكورة إنتاج الأدب الناطق بالإسبانية في شبه جزيرة أيبريا (إسبانيا والبرتغال)، واعتبره الباحثون العالميون المتخصصون في آداب العصور الوسطى النص الأول باللغة القشتالية بلا نزاع».
ويفرد الطاهر مكي من خلال الدراسة المفصلة الأجواء الأدبية والتاريخية والأدبية لنشأة الشعر الملحمي والجوَّال في شبه جزيرة أيبريا وأوروبا عامة، وينطلق من منطلق تاريخي، مبرزاً نشأة الشعر الجوَّال في إسبانيا من خلال النص المنتمي إلى القرن الثاني عشر، وترجع أهميته لعدة عناصر، أولها أنه النص الملحمي القشتالي الوحيد الذي عثر عليه كاملاً رغم أنه لا يُعرف من هو المؤلف، ذلك أن الصفحة الأولى من الكتاب فقدت، والثاني أنه يجسد صورة حيَّة لمجتمع إسبانيا المسيحية المسلمة اليهودية أيضاً إذا ما تم التركيز على الجانب الديني.
وفضلاً عن كون النص مرآة اجتماعية وفنية رفيعة المستوى، فهو بالمثل مصدر غير مباشر للتاريخ الغربي وتحديداً العصور الوسطى في إسبانيا والتأثير الإسلامي. وأبرز الدكتور الطاهر مكي عالمية نص السيد، مستلهماً فن الملاحم الفرنسي والألماني، وهو الأقدم في القارة الأوروبية ليتمكن من عقد مقارنة وافية بين هذه النماذج وملحمة «السيد»، مشدداً على المكونات الأساسية لهذا العمل من العناصر العربية والإسلامية والتي تبدت بدورها في شخصية البطل الفارس المغوار «رودريجو دياث بيبار»، مبرزاً اسمه وهو اللقب العربي «السيد»، ثم يحلل المحتوى الفني للقصيدة والقالب السردي القصصي الذي تجري فيه الأحداث بواقعيتها واقترابها من الذائقة الأدبية للقارئ البسيط في الطريق لهذا الشعر الجوال، يث اختلفت جذرياً عن الملاحم الأوروبية التي سبقتها واتسمت بالعناصر الأسطورية الخارقة والترسيخ لبطولات الفرسان المهولة المبنية على المعجزات والغرائبية، عكس ملحمة السيد بطابعها الواقعي القريب من الأحداث التاريخية التي عاصرتها.

- في بيت أبي
أما الروائي والباحث في التراث الشعبي مختار سعد شحاته فيقول: «تعددت الإصدارات الجديدة وقرأت بالفعل عدداً مهماً منها، وبشكل شخصي ينصب اهتمامي على الرواية والأنثربولوجيا، ومما قرأت هذا العام في الأدب كانت روايات (لهو الإله الصغير) للدكتور طارق الطيب، و(الغميضة) لوليد علاء الدين و(حانة الست) لمحمد بركة، وهي روايات تحتاج للكثير من الحديث، نظراً لجديتها وما اعتمدته من طرح خارج الصندوق المعتاد، ولما فيها من جرأة والمسكوت عنه في المجتمع والوجدان العربي، وهذا يحتاج لتفصيل ليس مجاله هنا، لذلك أقوم بالإشارة إلى كتاب آخر لازمني خلال الفترة الماضية؛ كتاب (في بيت أبي) للفيلسوف من أصل أفريقي كوامي أنتوني آبيا، والذي قرأته في نسخته البرتغالية.
صدر الكتاب بتصريح من جامعة أكسفورد ولصالح مكتبة الكونغرس الأميركي بالإنجليزية 1993. ورغم مرور قرابة ثلاثة عقود، فإنَّك حين تقرأه، تكتشف بعد نظر (آبيا) في تحليله للقارة الأفريقية ومشكلاتها، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع الغرب ما بعد فترة الاستعمار، فالكتاب أعتبره عُمدة في قراءات كل متخصص في الشأن الأفريقي، خاصة في التاريخ والأنثربولوجيا والثقافة.
يعود الفيلسوف آبيا إلى بيت العائلة الأم في قرية صغيرة في غانا، ويرصد مشاهداته عن المجتمع الأفريقي الحديث وأهم الصراعات التي تكتنف القارة الأفريقية انطلاقاً من زيارته لبيت جده في غانا، وأهم ما أشار إليه هو الانقسام الحادث في قلب الثقافة الأفريقية ومواقف المثقف الأفريقي من كل ما يأتيه من الغرب، ويحاول تحليل تلك المواقف الداعمة أو الرافضة للوافد من الغرب بشكل عام، ويطرح سؤاله الأهم حول الهوية الأفريقية وإشكاليتها».

- سياسة الإذلال
ويقول الروائي وجدي الكومي: «من أهم ما قرأت هذا العام كتاب (سياسة الإذلال - مجالات القوة والعجز) للمؤرخة الألمانية أوتا فريفرت، ترجمة المترجمة هبة شريف، عمل جميل وممتع لأنه يعرض بأسلوب ساحر وفاتن كيف مر المجتمع الإنساني من الهمجية إلى الحداثة، وكيف تشكلت سياسات العقوبات منذ فترات طويلة، وكيف تخلل بعض هذه العقوبات سياسات إذلالية للمُعاقب، كالتشهير، والوصم.
الكتاب ينتمي لنوعية الكتب التي تؤرخ للمجتمعات الإنسانية بطرق غير تقليدية، لأن المؤلفة لم تستعرض فقط سياسات الإذلال التي تعرض لها المعاقبون في ألمانيا وحدها، بل استعرضت أولاً طرق العقاب العلانية في مختلف البلدان، وفضح خصومهم لهم، حتى لو كانت الخصومة على دين، والقارئ يكتشف أن العصر الحديث أيضاً كان يشهد ممارسات إذلال، ومن ذلك ما فعله أحد الآباء لابنته في الولايات المتحدة الأميركية لأنها خالفت أمره، وعصته، فلجأ الأب لقص شعر الفتاة، وبث مقطع فيديو لها بعد قص شعرها، فانتحرت الابنة، وهكذا يرى القارئ أن الإذلال ليس شيئاً من الماضي فحسب، بل مع تغيرات القرن الحادي والعشرين في عالم لا يكون الإذلال فيه من القوى السياسية التي تسيطر على شعوبها فقط، بل من الأقران أيضاً».

- «سيرة أخرى»
وتقول الناقدة د. فاطمة الصعيدي أستاذة الأدب العربي: «من الكتب التي صدرت في عام 2021 وتحظى بأهمية من وجهة نظري كتاب (الثقافة المصرية - سيرة أخرى) لشعبان يوسف، صدر عن دار (بتانة) بالقاهرة. يقع الكتاب في 519 صفحة من القطع المتوسط. العمل يتسم بالطابع الموسوعي والرصد والتدقيق بحيث يقدم ملامح مجهولة للثقافة المصرية عبر عقود طويلة خلت. عنون المؤلف فصول كتابه بأسماء مبدعين أسهموا بأدوار رائدة وأساسية في إرساء أسس الثقافة المصرية وسيرة المناخ الثقافي الذي واكب ظهورهم، وهو هنا يذكرني بأبي الفرج الأصفهاني الذي قدم تراجم الشعراء من خلال الاحتفاء بأشعارهم التي تحولت إلى أغانٍ يرددها الوجدان العربي من أبرز الأمثلة هنا مسيرة المثقف الكبير إبراهيم فتحي صاحب الإنجازات الفكرية الكبرى في النقد الأدبي والترجمة والتأليف، وهناك أيضاً شخصيات مؤثرة، لها دورها الريادي مثل د. علي الراعي و(ضمير الناقد والمسؤول)، حيث دوره المهم في رصد هموم المسرح عبر دراسات أصيلة.
وفي السياق ذاته تناول المؤلف تجربة محمود أمين العالم بين اليمين الهادر واليسار الساخر! وتمتد فصول العمل لتشمل إسهامات يحيى حقي، وإحسان عبد القدوس، وصنع الله إبراهيم، وجمال الغيطاني، وسعيد الكفراوي، لكن الأهم أنها تميط اللثام عن العديد من الأسماء المهمشة وتسلط الضوء على تجارب كبرى لكنها منسية.

البحث عن خلاص
ويقول صبحي موسى، روائي وقاص، «من بين الكتب التي قرأتها وتوقفت أمامها هذا العام كتاب ( البحث عن خلاص – ازمة الدولة والإسلام والحداثة في مصر) للمؤرخ د. شريف يونس، وهو الكتاب الصادر عن هيئة الكتاب وفيه يقدم يونس روايته لما جرى في مصر منذ محمد على  حتى نهاية عصر مبارك، وهي رؤية تقوم على التحليل والتفسير واعادة التفكير فيما جرى، فمع مجيء الحداثة التي قام محمد على بتأسيسها في مصر على غرار النمط الاوربي أتى السؤال عن الهوية، وتمازج تياران في اطار الدولة الحديثة في مصر، الاول هو التيار الذي أسس له محمد على، تيار الحداثة والاخذ بما أخذ به الغرب للانطلاق نحو دولة جديدة وعالم جديد، والثاني هو التيار الذي ثار عليه محمد علي من أجل تعضيد ملكه وحكمه، وهو التيار الراديكالي المتمثل في الشكل الديني ورموزه العديدة بداية من «المشايخ»  وصولا الى السلطان العثماني او الخليفة. يحلل يونس العلاقات المتشابكة والمعقدة بين التيارين،  مبينا دقة الخيوط المتشابكة بينهما، ومدى تجذر التيار الراديكالي في المجتمع، رغم دوافع التحديث القوية التي يفرضها السياق العالمي. وعلى الجانب الاخر يقدم تحليلا او إعادة تعريف للعديد من المفاهيم كالحداثة والشعب والديمقراطية والليبرالية». 


مقالات ذات صلة

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر
TT

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث؛ لكنه يتوقف بشكل مفصَّل عند تجربة نابليون بونابرت في قيادة حملة عسكرية لاحتلال مصر، في إطار صراع فرنسا الأشمل مع إنجلترا، لبسط الهيمنة والنفوذ عبر العالم، قبل نحو قرنين.

ويروي المؤلف كيف وصل الأسطول الحربي لنابليون إلى شواطئ أبي قير بمدينة الإسكندرية، في الأول من يوليو (تموز) 1798، بعد أن أعطى تعليمات واضحة لجنوده بضرورة إظهار الاحترام للشعب المصري وعاداته ودينه.

فور وصول القائد الشهير طلب أن يحضر إليه القنصل الفرنسي أولاً ليستطلع أحوال البلاد قبل عملية الإنزال؛ لكن محمد كُريِّم حاكم الإسكندرية التي كانت ولاية عثمانية مستقلة عن مصر في ذلك الوقت، منع القنصل من الذهاب، ثم عاد وعدل عن رأيه والتقى القنصل الفرنسي بنابليون، ولكن كُريِّم اشترط أن يصاحب القنصل بعض أهل البلد.

تمت المقابلة بين القنصل ونابليون، وطلب الأول من الأخير سرعة إنزال الجنود والعتاد الفرنسي؛ لأن العثمانيين قد يحصنون المدينة، فتمت عملية الإنزال سريعاً، مما دعا محمد كُريِّم إلى الذهاب للوقوف على حقيقة الأمر، فاشتبك مع قوة استطلاع فرنسية، وتمكن من هزيمتها وقتل قائدها.

رغم هذا الانتصار الأولي، ظهر ضعف المماليك الذين كانوا الحكام الفعليين للبلاد حينما تمت عملية الإنزال كاملة للبلاد، كما ظهر ضعف تحصين مدينة الإسكندرية، فسقطت المدينة بسهولة في يد الفرنسيين. طلب نابليون من محمد كُريِّم تأييده ومساعدته في القضاء على المماليك، تحت دعوى أنه -أي نابليون- يريد الحفاظ على سلطة العثمانيين. ورغم تعاون كُريِّم في البداية، فإنه لم يستسلم فيما بعد، وواصل دعوة الأهالي للثورة، مما دفع نابليون إلى محاكمته وقتله رمياً بالرصاص في القاهرة، عقاباً له على هذا التمرد، وليجعله عبرة لأي مصري يفكر في ممانعة أو مقاومة نابليون وجيشه.

وهكذا، بين القسوة والانتقام من جانب، واللين والدهاء من جانب آخر، تراوحت السياسة التي اتبعها نابليون في مصر. كما ادعى أنه لا يعادي الدولة العثمانية، ويريد مساعدتهم للتخلص من المماليك، مع الحرص أيضاً على إظهار الاحترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين؛ لكنه كان كلما اقتضت الضرورة لجأ إلى الترويع والعنف، أو ما يُسمَّى «إظهار العين الحمراء» بين حين وآخر، كلما لزم الأمر، وهو ما استمر بعد احتلال القاهرة لاحقاً.

ويذكر الكتاب أنه على هذه الخلفية، وجَّه نابليون الجنود إلى احترام سياسة عدم احتساء الخمر، كما هو معمول به في مصر، فاضطر الجنود عِوضاً عن ذلك لتدخين الحشيش الذي حصلوا عليه من بعض أهل البلد. ولكن بعد اكتشاف نابليون مخاطر تأثير الحشيش، قام بمنعه، وقرر أن ينتج بعض أفراد الجيش الفرنسي خموراً محلية الصنع، في ثكناتهم المنعزلة عن الأهالي، لإشباع رغبات الجنود.

وفي حادثة أخرى، وبعد أيام قليلة من نزول القوات الفرنسية إلى الإسكندرية، اكتشف القائد الفرنسي كليبر أن بعض الجنود يبيعون الملابس والسلع التي حملها الأسطول الفرنسي إلى السكان المحليين، وأن آخرين سلبوا بعض بيوت الأهالي؛ بل تورطت مجموعة ثالثة في جريمة قتل سيدة تركية وخادمتها بالإسكندرية، فعوقب كل الجنود المتورطين في هذه الجريمة الأخيرة، بالسجن ثلاثة أشهر فقط.

يكشف الكتاب كثيراً من الوقائع والجرائم التي ارتكبها جنود حملة نابليون بونابرت على مصر، ويفضح كذب شعاراته، وادعاءه الحرص على احترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين.

لم تعجب هذه العقوبة نابليون، وأعاد المحاكمة، وتم إعدام الجنود المتورطين في هذه الحادثة بالقتل أمام بقية الجنود. وهكذا حاول نابليون فرض سياسة صارمة على جنوده، لعدم استفزاز السكان، وكان هذا جزءاً من خطته للتقرب من المصريين، وإرسال رسائل طمأنة إلى «الباب العالي» في الآستانة.

وكان من أول أعمال نابليون في الإسكندرية، وضع نظام حُكم جديد لها، استند إلى مجموعة من المبادئ، منها حرية الأهالي في ممارسة شعائرهم الدينية، ومنع الجنود الفرنسيين من دخول المساجد، فضلاً عن الحفاظ على نظام المحاكم الشرعية، وعدم تغييرها أو المساس بقوانينها الدينية، وكذلك تأليف مجلس بلدي يتكون من المشايخ والأعيان، وتفويض المجلس بالنظر في احتياجات السكان المحليين.

ورغم أن بعض بنود المرسوم تُعدُّ مغازلة صريحة لمشاعر السكان الدينية، فإن بنوداً أخرى تضمنت إجراءات شديدة القسوة، منها إلزام كل قرية تبعد ثلاث ساعات عن المواضع التي تمر بها القوات الفرنسية، بأن ترسل من أهلها رُسلاً لتأكيد الولاء والطاعة، كما أن كل قرية تنتفض ضد القوات الفرنسية تُحرق بالنار.

وفي مقابل عدم مساس الجنود الفرنسيين بالمشايخ والعلماء والقضاة والأئمة، أثناء تأديتهم لوظائفهم، ينبغي أن يشكر المصريون الله على أنه خلصهم من المماليك، وأن يرددوا في صلاة الجمعة دعاء: «أدام الله إجلال السلطان العثماني، أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك، وأصلح حال الأمة المصرية».