باريس تؤدي التحية لبوتيتشيلي عبقري فلورنسا

معرض عن الفنان الإيطالي الأشهر في عصر النهضة

ملصق معرض بوتيتشيلي في باريس
ملصق معرض بوتيتشيلي في باريس
TT

باريس تؤدي التحية لبوتيتشيلي عبقري فلورنسا

ملصق معرض بوتيتشيلي في باريس
ملصق معرض بوتيتشيلي في باريس

هناك لقب يُخفي خلفه لقباً. والبوتيتشيلي الذي نحن بصدده ليس أندريا مغني الأوبرا الإيطالي الشهير الذي ما زال يسعد جمهوره بصوت له ملمس القطيفة، بل مواطنه ساندرو بوتيتشيلي، الرسام المولود في فلورنسا والمتوفى فيها أوائل القرن السادس عشر. وها هي باريس تنفض عنه الغبار وتسحبه إلى أنوارها من خلال معرض جميل يقام في متحف «جاكمار أندريه» ويستمر حتى نهاية الشهر المقبل.
يصفه دليل المعرض بأنه عبقري الإبداع ومن أشهر رسامي عصر النهضة. ويمكن للزائر أن يتأمل نحو 40 لوحة من أعماله ومن لوحات عدد من رسامي فلورنسا الذين تأثروا به. كأن هذا المعرض هو تحية تؤديها العاصمة الفرنسية لتلك المدينة الإيطالية التي تنافسها في كونها متحفاً مفتوحاً في الهواء الطلق. لقد كان بوتيتشيلي واحداً من كبار رساميها وأعماله تشهد على ازدهارها وعلى التطورات التي حدثت فيها تحت حكم أسرة ميديتشي. أحاطت ببوتيتشيلي جوانب غامضة حول طريقة عمله وما كان يدور في مرسمه من نشاط. كان ينتج من دون توقف، وأبدع أعمالاً منفردة وأخرى كانت بنسخ متعددة، يباشر بها ثم يترك لمساعديه الكثر إتمامها. وهي حقيقة يتوقف عندها المعرض ليشرح كيف كان مرسم الفنان بوتقة للإبداع وإطلاق الأفكار، بل ومختبراً تدريبياً لرسامين من تلاميذه. كان دوره يشبه دور المعلم و«المقاول» الذي يدير مرجلاً يغلي باستمرار.
كان لا بد من تعاون جهات عدة لكي يرى المعرض النور. وهناك لوحات مستعارة من «اللوفر» في باريس، و«ناشيونال غاليري» في لندن، ومتحف أمستردام، ومكتبة الفاتيكان، و«غاليريا سابودا» في تورينو، وأكاديمية ومتحف «بارجيلو» في فلورنسا، ومن جهات فنية ألمانية في برلين وميونيخ وفرانكفورت. أما الدعم المالي فتحقق بفضل مصرف استثماري فرنسي.
وُلد أليساندرو ماريانو دي فيليبي عام 1445 لأسرة متواضعة، لكنها لم تكن معدمة. وهو الأصغر بين أربعة أبناء ذكور لأب يعمل دباغاً. يعود أقدم ظهور لاسمه في وثيقة عائلية رسمية، جاء فيها، أن «الولد أليساندرو عليل، لكنه يعرف القراءة». ولعل ذلك الاعتلال أو الاضطراب النفسي هو ما تسلل إلى عدد من رسومه التي اتسمت بالتعبير عن القلق والحنين لشيء مجهول. لكن المؤكد أنه تلقى تدريباً منذ نعومة أظفاره في مشغل أخيه الأكبر للصياغة، وكذلك في ورشة لأحد أصدقاء أبيه. وكان اسم الصديق بوتيشيلو، ومنه استعار الولد فيما بعد لقبه، بوتيتشيلي. أما تعليمه الفني الحقيقي فقد تلقاه في مرسم فيليبو ليبي الذي اشتغل معه على بعض جداريات كاتدرائية مدينة براتو، ثاني أكبر مدن إقليم توسكانا والقريبة من فلورنسا.
رسم بوتيتشيلي في بداياته سلسلة من لوحات السيدة العذراء، عكست تأثير معلّمه عليه، ومنها لوحته الأولى التي وقّعها باسمه وعنوانها «العذراء والطفل مع ملاك». ويعود تاريخها التقريبي إلى 1465. ومن النمط ذاته رسم لوحة «العذراء مع ملاكين» الموجودة حالياً في واشنطن. وبعد ثلاث سنوات من تلك الأعمال استقل الفنان عن معلمه وبدأ يرسم منفرداً. ثم سرعان ما تبلور أسلوبه الخاص المختلف عن أساليب مجايليه من رسامي فلورنسا. راح يحلّق في أجواء من الأناقة الفكرية التي تنعكس في خطوطه وألوانه. فقد كانت ريشته «مثقفة» وذات إيحاءات نفسية ووجودية عميقة. تحرر الرسام من الصورة الأيقونية التقليدية للعذراء، وراح يرسم حوريات في أجواء تفيض بالشفافية، أو مجاميع محتشدة في سوق أو مناسبة دينية، مع الفارق في التعبير عن الرقة والشفافية من جهة وعن القوة والتداخل من جهة أخرى. ليس هذا المعرض سوى الشرارة التي قد تندلع في نفوس زواره الشباب وتقودهم لاقتناء الكتب المصورة عن تاريخ هذا الفنان الاستثنائي. لكن، مَن زائر معرض باريس، هذا الذي يترك عشرات الصالات التي تعجّ بالفنون الحديثة والرقمية لكي يتفرج على لوحات تعتقت ومضت عليها قرون متتالية؟ يمكن تلخيص الجواب في المثل العربي الشعبي «من فات قديمه تاه». ومهما تطورت أساليب التعبير الفني سيكون هناك من يستقصي عن الأصل ومن يجد فيه ثروة لا تقدَّر بثمن. ولهذا السبب خُلقت المتاحف.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».