«مغامرة مجنونة» أنجبت جورج وسوف بـ {أخطائه ونجاحاته}

جورج وسوف... {هذا أنا بأخطائي وعيوبي}
جورج وسوف... {هذا أنا بأخطائي وعيوبي}
TT

«مغامرة مجنونة» أنجبت جورج وسوف بـ {أخطائه ونجاحاته}

جورج وسوف... {هذا أنا بأخطائي وعيوبي}
جورج وسوف... {هذا أنا بأخطائي وعيوبي}

جلس جورج وسوف على مكتبه أمام شريط الذكريات. سنوات صاخبة، عاشها بالطول والعرض، بشجاعة القلب وطيبته. منذ اللعب الليلي مع الأولاد قرب المقابر، والتنقل الباكر بين محافظات سوريا، إلى المفاخرة بـ«أبو علي»، كما لقّبه والده تيمناً بالقبضايات، ينهش الحياة ويفترسها بنهم. عشق السيارات وساعد الأب في إصلاحها. وعندما تقاضى الراتب الأول، اشترى غسالة لأمه ليخفف عنها آلام الدعك وإرهاق اليدين.
جورج وسوف بأخطائه ونجاحاته، بالصعود والارتكابات، بكرم النفس ووفاء الأحبة، في وثائقي «مسيرتي» (8 حلقات على «شاهد»). وهي مسيرة مجنونة، شقية، مشاغبة، لم ترسُ مراكبها ولم تعرف شواطئها استراحة الأمواج. تخبط وتلاطُم. وصفحات مفتوحة على صفحات.
منذ وعيه، وجورج الوحيد على أربع فتيات، يطارد حياة خارج الصناديق المغلقة. أمامه كوب ماء وفنجان قهوة، وهو في مكتبه يشارك الناس السرد ويترك لممثلين أداء مراحل العمر الشقي لرجل لم يعترف بالسائد ولم يسلم نفسه للأقدار المألوفة. بل شق دربه كما تشق البراعم العنيدة عمق الصخور وتتغلب على خشونتها بالعذوبة.
الأغنية الأولى في المدرسة بين الأساتذة ورفاق الصف: «يا صلاة الزين». لها مكانة في قلبه، فكم دندنتها الوالدة أمام الجرن، تفرك الغسيل وتفوّحه بيديها! ليس الوثائقي لتلميع صورة النجم ولا لتمجيد مزاياه. سلم نفسه للناس بأمانة. كأن يقول: هذا أنا، ولكم الحكم. هذا أنا بأخطائي وعيوبي. بوقوعي وقممي. وهذه صحتي التي خانتني، إلا أنني بالإرادة القوية انتصرتُ على هشاشتها.
روعة الوثائقي أولاً وأخيراً صدقه. لم يمر مشهد يجعلك تستنكر: لِمَ هذه المبالغات؟ لِمَ التمثيل والافتعال؟ يمكن الإحساس بما يُقدم، لا فقط مشاهدته. ويمكن مصادقته والتفكير به بعد المشاهدة. ذلك لأنه مليء بالعبر، لا يخفيها الوسوف ولا يطمس معالمها، ولعله من أجلها وافق على مشاركة السيرة. يرمي أوراقه على الطاولة، الرابحة منها والخاسرة. لا يتقنع ولا يرتدي قفازات. يقولها بصراحة إنه أدمن القمار وتعاطي المخدرات، فأوداه الطيش وإغراء الشهرة إلى الهاوية. صفحة سوداء من حياة جرب فيها كل شيء. فكانت كريمة أقل مما كانت ملعونة. وبقدر ما أكرمته، أعان وساعد.
اتعظْ من رجل أنجبته حمص فلُقب «سلطان الطرب». مال وجاه وأسفار، وسيارات وشقق مفروشة، ثم تتهاوى الصحة ويخون الجسد، فيبقى الإيمان والرجاء. كنزُه قلبه ونفسه الكريمة، يعطي لأن الله أعطاه، ويساعد لأنه احتاج إلى المساعدة، فأمضى الليل في الشارع مفترشاً الأرض.
بدعاء الأم ورضاها عنه، بدأ الخطوة الأولى. استدان 25 ليرة ليطارد الأضواء في حلب. جورج وسوف مندفع، متهور، يضع قدماً ولا يخشى الألغام. ومن حُسن نيته ورضا الوالدة، أتقن النجاة في اللحظة الأخيرة قبل السقوط. كان القدر حليفه في كل مرة تربص له خصم. فوضع في دربه الأخيار، منهم الملحن نور الملاح. ولتهوره، لم يخفق قلبه لاثنين من روائعه: «حلف القمر» و«روحي يا نسمة». طرق الملاح بابه، فرده خائباً بذريعة أنه لا يغني هذا اللون. تدخل القدر، وتدخلاته دائماً لمصلحته.
اليوم، يلعن القمار وساعته: «عيب»! تعمد إظهار السقطة الكبرى ورفض تجميل قبحها. خاف على الشباب مما جربه بنفسه فكلفه الأثمان الباهظة. أموال ضخمة خسرها على طاولات القمار ومع عِشرة السوء في الكازينوهات، فتاب بعدما تلوع وكاد يذهب إلى الهلاك من دون عودة.
حين أحب أم أولاده شاليمار شبلي، اللبنانية الأرستقراطية، ورفض أهلها تزويجها له، اعترف بأنه ليس أهلاً لأن تتزوجه امرأة: «لو لدي ابنة لما زوجتها شاباً مثلي. أحمد الله أن جورج وسوف واحد. اثنان كارثة».
قال ما أراد قوله، محتفظاً بالخصوصية المتعلقة بابنته الوحيدة عيون ووالدتها بطلة الراليات ندى زيدان التي لم يأتِ الوثائقي على ذكرها. اكتفى بإزاحة الستارة عن العراقيل الأولى في الرحلة إلى المجد؛ وستارة الوفاء للعائلة وجنون الحب وعبرة العادات المميتة. مع وعد: «سآتيكم بوثائقي آخر بعد عشر سنوات. سيكون لدي ما أخبركم به».
عمت «ماما يا ماما» أرجاء المحافظات السورية ووصل صيتها إلى لبنان الذي عاش فيه عمراً ويتكلم اليوم لهجته. عرف قيمة نفسه، فوثق بها وحماها من الغرور. عُرف في بداياته بموال «حاصبيا»، أول مواويله المسجلة، «ولما غمزت إمها... حاص بيا»، إلى أن جرفته الأقدار نحو «كلام الناس»، فأعطته ما لم يتخيل.
بشاعرية وحب، أخرج دايفيد أوريان السيرة. وبصوت أصابه التعب وثقل التجارب، يشكر جورج وسوف صناع الوثائقي (إنتاج 2PURE studios) ويعددهم بالأسماء. الشكر الأكبر لله، يحمله في قلبه ويسلمه مصيره. يرمي له قبلة في الهواء، ويرفع عينيه إلى السماء ممتناً لعطاياه.
حياة بين سوريا ولبنان ثم باريس ولندن وأميركا التي وصل إليها ولا يجيد لغتها. تأخر في النضوج، وتعلم الدروس «من كيسه». يستطيع القول بضمير مرتاح إنه وصل بتعبه، لا بملعقة الذهب في فمه. عانقته يوماً أمه وقالت: «اذهب في طريقك، وليُبعد الله عنك أولاد الحرام». يترحم عليها ويستمد القوة من دعائها.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».