نيويورك: قضية إرهاب تجدد الجدل بشأن ضربات «الدرون»

مطاردة «الفريخ» انتهت باعتقاله في باكستان وترحيله قبل رصده عدة مرات بطائرة من دون طيار

مهند الفريخ كما ظهر في محكمة فيدرالية أميركية أول من أمس (نيويورك تايمز)
مهند الفريخ كما ظهر في محكمة فيدرالية أميركية أول من أمس (نيويورك تايمز)
TT

نيويورك: قضية إرهاب تجدد الجدل بشأن ضربات «الدرون»

مهند الفريخ كما ظهر في محكمة فيدرالية أميركية أول من أمس (نيويورك تايمز)
مهند الفريخ كما ظهر في محكمة فيدرالية أميركية أول من أمس (نيويورك تايمز)

مَثُل رجل ولد في ولاية تكساس، يشتبه في أنه عنصر من عناصر تنظيم القاعدة، أمام قاضي فيدرالي في بروكلين خلال الشهر الحالي. وقبل عامين من هذا الحدث، كانت الحكومة تتجادل بشأن ما إذا كان ينبغي قتله في هجوم بطائرة من دون طيار في باكستان أم لا. وتأتي مطاردة مهند محمود الفريخ، الذي تم إلقاء القبض عليه في باكستان خلال العام الماضي، استنادًا إلى معلومات استخباراتية قدمتها الولايات المتحدة، بعد جدل استمر عام داخل الحكومة الأميركية حول ما إذا كان يصح قتل مواطن أميركي في الخارج دون محاكمة أم لا.
يذكر أن هذه الخطوة الاستثنائية لم تتخذ إلا مرة واحدة في السابق عندما قتلت الاستخبارات المركزية الأميركية رجل الدين المتطرف أنور العولقي في اليمن عام 2011.
كذلك يأتي ظهور الفريخ في المحكمة وسط محاولات حثيثة تقوم بها إدارة أوباما من أجل وضع إرشادات جديدة لعمليات القتل التي تتخذ طابع الاستهداف. وعزز قرار الاستعانة بجهاز استخبارات حليف في القبض على الفريخ، الطرح الذي يتبناه البعض والذي يؤيد القبض على المشتبه فيهم من الرجال المسلحين لا قتلهم حتى ولو كان ذلك في أبعد مكان في العالم، مشيرين إلى أن هذا مجد أكثر مما تشير إليه الأوامر الصادرة بتنفيذ مئات الهجمات الجوية التي تتم بطائرات تعمل من دون طيار. ويقول ميكا زينكو، باحث في مجلس العلاقات الخارجية يدرس هجمات مكافحة الإرهاب: «هذا مثال يدل على أن عمليات القبض ممكنة». وبدأت مناقشات إدارة أوباما بشأن مصير الفريخ، الذي يستخدم الاسم المستعار «عبد الله الشامي»، تزداد حدة عام 2012 وطوال الأشهر التي أعقبت مراقبة الاستخبارات المركزية، ووزارة الدفاع، لتحركاته بمنطقة القبائل في باكستان. وتمكنت الطائرات التي تعمل من دون طيار من رصده عدة مرات خلال الأشهر الأولى من عام 2013، واستخدمت أجهزة الاستخبارات تصريحًا صادرا عن محكمة مراقبة الاستخبارات الفيدرالية يسمح بمراقبة اتصالاته. وطلبت وزارة الدفاع أن يتم إدراج الفريخ على قائمة المطلوب قتلهم من المشتبه في قيامهم بأعمال إرهابية، وحثت الاستخبارات المركزية البيت الأبيض على السماح بقتله.
مع ذلك، كانت وزارة العدل، وعلى وجه التحديد إيريك هولدر ممثل الادعاء العام، متشككة في ملف الاستخبارات الخاص بالفريخ، وكانت تتساءل عما إذا كان يمثل بالفعل خطرا محدقا على الولايات المتحدة، وما إذا كان طرفًا مؤثرًا في تنظيم القاعدة، كما ذكرت كل من وزارة الدفاع، ووكالة الاستخبارات المركزية. كذلك اعتقد هولدر ومعاونوه أنه من الممكن القبض على الفريخ وإحضاره إلى قاعة المحكمة. وأثيرت تلك المناقشات بعد أقل من عامين من قتل العولقي عام 2011، وكان مسؤولو وزارة العدل يشعرون بحساسية تجاه أي نقد يوجه إلى الوزارة على خلفية موافقتها على تنفيذ هذه الضربة الجوية. وقال مسؤول سابق رفيع المستوى: «لأنه كان مواطنا أميركيا، كنا بحاجة إلى مزيد من المعلومات. وكان هناك توتر شديد بشأن هذا الأمر بعد عملية قتل العولقي». وظهر عامل آخر يزيد تعقيد الأمر في مايو (أيار) عام 2013، عندما فرض الرئيس قوانين جديدة تحكم عمليات القتل، التي تتم بالاستهداف، وأعلن بعض القواعد في خطاب بجامعة الدفاع القومي.
وفي وقت الخطاب أعلن البيت الأبيض مقتل أربعة مواطنين أميركيين في هجمات بطائرات تعمل من دون طيار خلال مدة رئاسة أوباما، لكن العولقي كان هو الوحيد الذي تم استهدافه، في حين تم قتل الثلاثة الآخرين في هجمات كانت لها أهداف أخرى. وأشار البيت الأبيض إلى أن وزارة الدفاع، لا الاستخبارات المركزية، هي التي ينبغي عليها توجيه ضربات جوية مميتة ضد مواطنين أميركيين مشتبه في ارتكابهم أعمالا إرهابية. وتم وضع هذا البند، على الأقل نظريًا، من أجل السماح لمسؤولين حكوميين بالحديث بحرية أكبر عن أي عملية بعد تنفيذها. مع ذلك، تم منع وزارة الدفاع لفترة طويلة من تنفيذ هجمات باستخدام طائرات تعمل من دون طيار، في باكستان في إطار اتفاق مع السلطات الباكستانية عام 2004 يقضي بقيام الاستخبارات المركزية بتنفيذ تلك الهجمات لما تتمتع به من سلطة القيام بأعمال سرية، وهو ما يتيح لباكستان نفي حدوث تلك الهجمات علنًا، ويتيح للمسؤولين الأميركيين التزام الصمت.
وتستند هذه الرواية إلى المقابلات التي أجريت مع عدد كبير من مسؤولين سابقين رفيعي المستوى في سلطات تطبيق القانون، وأجهزة الاستخبارات، والأجهزة العسكرية، ومكافحة الإرهاب، لكنهم رفضوا ذكر أسمائهم في المقال بسبب عدم حسم القضية الجنائية. ورفض متحدث باسم وزارة العدل، ومتحدث باسم الاستخبارات المركزية، التعليق على الأمر، وكذلك رفض أي مسؤول باكستاني التعليق.
وقال نيد برايس، متحدث باسم البيت الأبيض: «بوجه عام، أكدت الإدارة سلطات وزارة العدل الأميركية في مرات كثيرة. ويقدم القبض على المتهم في الخارج وإعادته إلى الولايات المتحدة من أجل المثول أمام المحاكمة، دليلا على مثابرتنا في مواجهة ومطاردة من يسعون إلى الإضرار بالولايات المتحدة ومصالحها».
تجمد الجدال بشأن ما ينبغي عمله تجاه الفريخ، مما أثار حنق أعضاء في الكونغرس. وخلال اجتماع مغلق للجنة الاستخبارات بمجلس النواب في يوليو (تموز) عام 2013، وجه المشرعون انتقادات لاذعة إلى مسؤولين عسكريين واستخباراتيين بشأن عدم قتل الفريخ. وقال مايك روجرز، العضو الجمهوري عن ولاية ميتشغان والذي كان رئيس اللجنة آنذاك، بحسب شخص حضر الاجتماع: «لم نر مثل هذه الفوضى والتخبط من قبل». ومنح القبض على الفريخ السلاح الذي يمكن أن يستخدمه خبراء قانونيون يرون أن القبض على المشتبه فيهم خيار أفضل.
ووصف جميل جيفر، نائب المدير القانوني لاتحاد الحريات المدنية الأميركي، الاجتماعات السرية التي تتم خلالها مناقشة أمر قتل مواطنين أميركيين بأنها «مثيرة للقلق». وقاضى جيفر إدارة أوباما لمناقشتها علنا الأطروحات القانونية التي تتعلق ببرنامج القتل، وأشار إلى أن دعم بعض الجهات داخل الحكومة لعملية قتل الفريخ رغم تبين إمكانية تنفيذ عملية القبض، أمر له دلالة واضحة. وقال جيفر: «أكد بعض مسؤولي الاستخبارات للرأي العام أن عمليات القتل التي تتم بطائرات من دون طيار هي الخيار الأخير، لكن لا يبدو أن الاستخبارات المركزية ووزارة الدفاع تتبنى هذا المبدأ». مع ذلك، يقول الكثير من المتخصصين في مكافحة الإرهاب إن القبض على المشتبه في ارتكابهم أعمالا إرهابية كثيرا ما يعتمد على حلفاء ينبغي عدم الوثوق فيهم. وقال فيليب ماد، مسؤول سابق رفيع المستوى في مكتب التحقيقات الفيدرالي والاستخبارات المركزية: «الاعتماد على شريك في رصد الهدف أمر يتضمن مقامرة».
وتم اقتياد الفريخ، وهو رجل ذو لحية وتعبير وجه بائس، للمثول أمام محكمة فيدرالية في 2 أبريل (نيسان) الحالي، لكن لم يتم الكشف عن كثير من التفاصيل المتعلقة بخلفيته.

* «نيويورك تايمز»
* شارك مات أبوزو وسكوت شين في إعداد هذا التقرير



رياح اليسار تهب مجدداً على أميركا اللاتينية

رياح اليسار تهب مجدداً على أميركا اللاتينية
TT

رياح اليسار تهب مجدداً على أميركا اللاتينية

رياح اليسار تهب مجدداً على أميركا اللاتينية

هل عادت رياح اليسار تهب من جديد على أميركا اللاتينية بعد موجة الانتصارات الأخيرة التي حصدتها القوى والأحزاب التقدمية في الانتخابات العامة والرئاسية؟
من المكسيك إلى الأرجنتين، ومن تشيلي إلى هندوراس والبيرو، ومؤخراً كولومبيا، خمسة من أقوى الاقتصادات في أميركا اللاتينية أصبحت بيد هذه الأحزاب، فيما تتجه كل الأنظار إلى البرازيل حيث ترجح الاستطلاعات الأولى فوز الرئيس الأسبق لولا دي سيلفا في انتخابات الرئاسة المقبلة، وإقفال الدائرة اليسارية في هذه المنطقة التي تتعاقب عليها منذ عقود شتى أنظمة الاستبداد العسكري والمدني، التي شهدت أبشع الديكتاتوريات اليسارية واليمينية.
بعض هذه الدول عاد إلى حكم اليسار، مثل الأرجنتين وهندوراس وبوليفيا، بعد أن جنح إلى الاعتدال، ودول أخرى لم تكن تتصور أنها ستقع يوماً في قبضة القوى التقدمية، مثل تشيلي وكولومبيا، فيما دول مثل المكسيك وبيرو ترفع لواء اليسار لكن اقتصادها يحتكم إلى أرسخ القواعد الليبرالية.
هذه الموجة تعيد إلى الأذهان تلك التي شهدتها المنطقة مطلع هذا القرن مع صعود هوغو تشافيز في فنزويلا، وتحت الظل الأبدي الوارف لفيديل كاسترو، فيما أطلق عليه يومها «اشتراكية القرن الحادي والعشرين». ومن المفارقة أن الدوافع التي كانت وراء ظهور هذه الموجة، نجدها غالباً في تمايزها عن تلك الموجة السابقة التي كان لارتفاع أسعار المواد الأولية والصادرات النفطية الدور الأساسي في صمودها. فيما محرك التغيير اليوم يتغذى من تدهور الوضع الاجتماعي الذي فجر احتجاجات عام 2019 وتفاقم مع ظهور جائحة «كوفيد». يضاف إلى ذلك أن تطرف القوى اليمينية، كما حصل في الأرجنتين وكولومبيا وتشيلي وبيرو، أضفى على الأحزاب اليسارية هالة من الاعتدال ساعدت على استقطاب قوى الوسط وتطمين المراكز الاقتصادية.
ومن أوجه التباين الأخرى بين الموجتين، أنه لم يعد أي من زعماء الموجة الأولى تقريباً على قيد الحياة، وأن القيادات الجديدة تتميز ببراغماتية ساعدت على توسيع دائرة التحالفات الانتخابية نحو قوى الوسط والاعتدال كما حصل مؤخراً في تشيلي وكولومبيا.
حتى لولا في البرازيل بحث عن حليفه الانتخابي في وسط المشهد السياسي واختار كمرشح لمنصب نائب الرئيس جيرالدو آلكمين، أحد زعماء اليمين المعتدل، الذي سبق أن هزمه في انتخابات عام 2006.
ولى زمن زعماء اليسار التاريخيين مثل الأخوين كاسترو في كوبا، وتشافيز في فنزويلا، وإيفو موراليس في بوليفيا، الذين اعتنقوا أصفى المبادئ الاشتراكية وحاولوا تطويعها مع مقتضيات الظروف المحلية، وجاء عهد قيادات جديدة تحرص على احترام الإطار الدستوري للأنظمة الديمقراطية، وتمتنع عن تجديد الولاية، وتلتزم الدفاع عن حقوق الإنسان والحفاظ على البيئة.
لكن مع ذلك لا يستقيم الحديث عن كيان واحد مشترك تنضوي تحته كل القوى التقدمية الحاكمة حالياً في أميركا اللاتينية، إذ إن أوجه التباين بين طروحاتها الاقتصادية والاجتماعية تزيد عن القواسم المشتركة بينها، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل حول طبيعة العلاقات التي ستقيمها هذه القوى التقدمية مع محيطها، وأيضاً مع بقية دول العالم.
وتشير الدلائل الأولى إلى ظهور توتر يتنامى بين رؤية القوى التقدمية الواقعية والمتعددة الأطراف للعلاقات الدولية، والمنظور الجيوستراتيجي للمحور البوليفاري. ومن المرجح أن يشتد في حال فوز لولا في البرازيل، نظراً لتمايز نهجه الدبلوماسي عن خط كوبا وفنزويلا، في الحكم كما في المعارضة.
ويلاحظ أن جميع القوى اليسارية الحاكمة اليوم في أميركا اللاتينية، وخلافاً لتلك التي حكمت خلال الموجة السابقة، تعتمد أسلوباً دفاعياً يهدف إلى صون، أو إحداث، تغييرات معتدلة من موقع السلطة وليس من خلال التعبئة الاجتماعية التي كانت أسلوب الأنظمة اليسارية السابقة، أو البوليفارية التي ما زالت إلى اليوم في الحكم. ولا شك في أن من الأسباب الرئيسية التي تدفع إلى اعتماد هذا الأسلوب الدفاعي، أن القوى اليسارية والتقدمية الحاكمة غير قادرة على ممارسة الهيمنة السياسية والآيديولوجية في بلدانها، وهي تواجه صعوبات كبيرة في تنفيذ برامج تغييرية، أو حتى في الحفاظ على تماسكها الداخلي.
ويتبدى من التحركات والمواقف الأولى التي اتخذتها هذه الحكومات من بعض الأزمات والملفات الإقليمية الشائكة، أن العلاقات مع كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا ستكون مصدراً دائماً للتوتر. ومن الأمثلة على ذلك أن الرئيس الكولومبي الجديد غوستافو بيترو، ونظيره التشيلي، اللذين كانا لأشهر قليلة خلت يؤيدان النظام الفنزويلي، اضطرا مؤخراً لإدانة انتهاكات حقوق الإنسان التي يمارسها نظام نيكولاس مادورو، علماً بأن ملايين الفنزويليين لجأوا في السنوات الأخيرة إلى كولومبيا وتشيلي.
وفي انتظار نتائج الانتخابات البرازيلية المقبلة، وبعد تراجع أسهم المكسيكي مانويل لوبيز لوبرادور والتشيلي بوريتش لقيادة الجبهة التقدمية الجديدة في أميركا اللاتينية، برزت مؤخراً صورة الرئيس الكولومبي المنتخب الذي يتولى مهامه الأحد المقبل، والذي كان وضع برنامجه الانتخابي حول محاور رئيسية ثلاثة تمهد لهذا الدور، وهي: الحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية وتغير المناخ، والدور المركزي لمنطقة الكاريبي والسكان المتحدرين من أصول أفريقية، والميثاق الإقليمي الجديد الذي لا يقوم على التسليم بريادة الولايات المتحدة في المنطقة لكن يعترف بدورها الأساسي فيها.