زمن السبعينات وانكساراته في رواية مصرية

الكاتب عصام البرعي يفضح تشوهاته في «عظّومة»

زمن السبعينات وانكساراته في رواية مصرية
TT

زمن السبعينات وانكساراته في رواية مصرية

زمن السبعينات وانكساراته في رواية مصرية

يخيم زمن السبعينات بكل انكساراته وأحلامه على رواية «عظومة» للكاتب عصام البرعي، الصادرة حديثاً عن دار ميريت للنشر والتوزيع بالقاهرة، وتنعكس على مرآتها بزوايا مختلفة التحولات التي جرت في مصر خلال مرحلة السبعينات من القرن الماضي، وما تبعها من تغييرات في الواقع وتشوهات في المجتمع، وتصبح موضوعاً لأحداثها التي تدور في محيط مدينة الإسكندرية، وأحيائها الشعبية والفقيرة، وتكشف عن مصائر شخصياتها عما صار من تبدل في الجو العام، أدى إلى أن تكتسي حياة الناس بنوع من التردي والوحدة والخوف والانعزال، ذبلت تحت وطأته أرواحهم، كما أصاب بعضهم بالذاتية والانتهازية التي راحت تضرب في أعماقهم، فقراء كانوا أو أغنياء.
تطرح الرواية كل هذا في أنساق سردية شديدة البساطة والعمق؛ فالتداعيات التي وقعت لم تختص بفئة دون أخرى ولا بطبقة دون سواها، فقد أصابت رياح الضياع الذي طال كل شيء، أبناء الطبقة الوسطى والتجار وأصحاب المهن والمثقفين الذين استشعر البعض منهم ما هو مقبل من أزمات، وراحوا يطوفون على المقاهي يحذرون من وقوع «كارثة» أو «طوفان» يأخذ في طريقه كل شيء. هكذا فعل «عظومة» بطل الرواية الذي تردى به الحال، وتحول من محاسب ناجح في شركة قطاع عام كبرى تتخذ من مدينة الإسكندرية مركزاً لها إلى شخص قعيد معزول يسكن غرفة مظلمة في حي شعبي مشهور بتجارة المخدرات والبلطجة. وقد صار الكثيرون يخشون الحديث معه ويتجنبونه، ويرونه خطراً عليهم لدرجة أن اتهمه البعض بالجنون بسبب تجواله قبل مرضه بين التجمعات وسعيه الدائم لتحذير كان من يجده في طريقه من خطر داهم ومصيبة آتية لا محالة.

صديق الطفولة

تدور الرواية حول شخصين يقوم أحدهما «الراوي» بالبحث عن صديق طفولته وصباه وشبابه «عظومة»، بعد أن عرف صدفة أنه مريض، ويمر بظروف صعبة، تحتم عليه أن يقف إلى جانبه في محنته، ومن خلال تفاصيل تتراكم مع تواصل السرد يتكشف لدى القارئ أن الراوي، الذي يتحرك طوال الأحداث من دون اسم، يشبه صديقه في كثير من أحواله وحياته، فكلاهما تركته زوجته بعد أن طلبت الطلاق، بسبب علاقتها بشخص آخر، وكلاهما رغم ما يملك من ثقافة وإمكانات عاطل وبلا عمل، وكلاهما معزول يشعر بالوحدة حتى قبل أن تغادره أسرته، الفرق الوحيد بينهما أن الراوي كان يعيش حياة متوازنة بسبب تركة ورثها عن والدته، أما عظومة فلم يكن لديه ما يؤمّن له لقمة عيشه بعد أن طرده ملاك الشركة الجدد من العمل رغم أنه كان أحد كبار موظفيها.
ومنذ البداية يضعنا الكاتب عصام البرعي في قلب المأساة حين يصف حال «عظومة» وهو يحتضر في غرفته وحيداً، يقول على لسان الراوي صديق طفولته «بدا لي أنه يعرف أنه في نهاية مشواره، كانت ابتسامته الكبيرة معلقة باستسلام في فراغ شاحب، وغطت عينيه سحابة من الضباب الرمادي، بدا هيكلاً عظميّاً مغطى بجلد باهت تتناثر فيه التقرحات والبقع البنية والسوداء».
ويتحرك الراوي في رحلة بحثه عن صديقه بين مناطق وشوارع تتسم بالعشوائية وتتوزع فيها أكوام القمامة هنا وهناك، يصف البنايات بجدرانها وأبوابها وشرفاتها الكالحة، ليشير إلى أن ما جرى على البشر من تحولات طال أيضاً الكثير من الأماكن التي يعيشون في رحابها، وأن القبح الذي صار يسكن أرواحهم يجد ظلا له فيما يحيط بهم من مساحات جغرافية، بدءاً من شارع فرغلي الذي كان يسكن فيه عظومة قبل مرضه، حتى مؤسسة التوزيع والتسويق المتحدة التي كان يعمل فيها، ثم ميدان محطة مصر والذي يعدّه الراوي أحد أكثر ميادين الإسكندرية كآبة واتسخا، يمتلئ بسيارات الأجرة الجماعية والباعة الجائلين واكوام القمامة، وتحيط به مبانٍ غطتها ترسبات دخان عوادم السيارات، ولا يختلف «حي دنا» ملجأ عظومة الأخير بعد مرضه، عن شارع المواردي الذي ينضح بقبح عفوي، أما سجن الحضرة القريب منه فكان يتميز بطابع خاص، فقد انتشرت حوله أعمال كثيرة مثل الفِطر، فهناك من يعدون «عواميد» الطعام أو يؤجرونها فارغة إلى أقارب السجناء، وهناك من يضعون الطعام والحلوى فوق عربات خشبية تحيط بها سحب كثيفة من الذباب، أما الأهالي الذين يعيشون في شقق قريبة من جدار السجن، فكانوا يؤجرون بعض الغرف بالساعة لعائلات بعض السجناء لمخاطبتهم منها، وكان المسجون يجلس متعلقاً بقضبان نافذة زنزانته يتبادل حديث أقرب إلى الصراخ مع أقربائه في الشقة المستأجرة حتى ينال التعب منهم أو تنفد ساعات إيجار الشقة».

تشوهات في الروح

في رحلة بحثه عن عظومة تكشف الحوارات التي أجراها الراوي مع العديد من الأشخاص عما أصاب شخصياتهم من تشوهات، وقد كانت البداية مع سعيد شقيق طليقة عظومة، وزميله في المؤسسة وقد اكتشف الراوي بعد مقابلة معه حين ذهب إليه يسأله عن أخباره أنه شخص انتهازي، يميل إلى التظاهر، ولديه استعداد لأن يبيع نفسه لمن يدفع، أما جعفر مدمن المخدرات ابن منطقة الحضرة، والذي لجأ إليه عظومة بعد طرده من العمل، فليس أكثر من بلطجي يعمل لصالح أصحاب النفوذ من رجال الأعمال في تخليص مصالحهم، ولا يختلف عن هذا وذاك الأسطى لبيب الحلاق برائحة فمه الكريهة، أما محمد البقال الفتي القعيد الذي يتحرك في دكانه على كرسي متحرك، فقد كان القشة التي قسمت ظهر عظومة، وأدخلته في أزمة قتلته في النهاية، فبعدما تراكمت ديونه عليه، ولم يستطع عظومة الوفاء بها، وتوقف البقال عن مطالبته، بدأت الحكايات تتناثر في المنطقة عن علاقة تربط نوال زوجته بالبقال، وأنها تمنحه بعض لحظات المتعة مقابل ما حصلت عليه من سلع واحتياجات.

مفارقات الحب

يحيلنا ما وقعت فيه نوال وزوجة الراوي من خيانة إلى ماهية الحب والإخلاص الذي طرحه الكاتب في روايته، حيث يقدم النساء في صورة زوجات خائنات وبنات ليل وموظفات على استعداد للتحول وتقديم أي نوع من التنازل من أجل تحقيق مصلحة، أما عن الحب فلم يكن موجوداً لدي عظومة أو الراوي، كان فقط مجرد تصورات ذهنية تحملها ذكرياتهما البريئة. أما خروج الراوي للبحث عن صديق طفولته، والذي يعدّ واحداً من محركات السرد الأساسية في الرواية، فيشكل نوعاً من التحول الجذري في شخصيته، فمنذ البداية يشير إلى أنه يكره مغادرة منزله، ويرهنه فقط باحتياجاته؛ وذلك بسبب ما يسميه «جحيماً متأججاً خارج البيوت»، كان يدرك أن الخروج للبحث عن عظومة يحتاج إلى قدر كبير من الشجاعة، وبلادة الحس لمواجهته، وينبغي أن يتم من دون تهور، ويجب حال حصوله أن يتم البحث بكفاءة وتركيز حتى يستغرق وقتاً قصيراً، ولا تطول معاناته.
دون حساب وبشكل تلقائي جاء قرار عظومة بالخروج لتحذير الناس من كارثة على وشك الوقوع. وقد ترتبت على قراره عواقب وخيمة، كان أبسطها تضييع أسرته وفقد عمله، وأصعبها تعرّضه للاعتقال، فقد تم دون حساب ولا تفكير، وبدأت حكايته عندما التقى رجلاً بالمصادفة في أحد مواقف السيارات، قال له إنه ينتظره منذ وقت طويل وإنه يعرفه جيداً ويعرف أسرته وهناك جماعة يريدون رؤيته سوف يعرفهم حين يراهم، «لم يكن عظومة يعرف الرجل، ولسبب ما وجد نفسه في الطريق إلى المحطة في الموعد تماماً. كان الرجل في انتظاره. قال له إن (الأساتذة) موجودون في مصنع غزل قريب، هناك وجد خمسة أشخاص، وقد أخبروه أن دوام الحال من المحال. وهناك أمور ستحدث. شرحوا له بلهجة واثقة تفاصيل كل شيء، وقالوا إنها شبيه بكرة تتدحرج من تل مرتفع وتحط على الجميع وتغمرهم بالبؤس والدمار، وفي نهاية المقابلة طلبوا منه أن يحذر كل من يراهم من قرب وقوعها، وحمّلوه المسؤولية، قالوا له لا يمكنك الإفلات منها، ونصحوه أن يبقى اللقاء بينهم سراً».
المدهش في أمر عظومة، أنه فور العودة إلى منزله خصص دفتراً صغيراً وضع فيه خطة لمهمته «التي لم تكن صعبة تماماً»، هكذا وصف عظومة قصته للراوي بعد أن عثر عليه في غرفته المظلمة بحي «دنا» العشوائي، كان وحيداً يحتضر، ظل يحكي إلى أن فارق الحياة وهو موقن تماماً أن هناك كارثة مقبلة سوف تحط على الجميع، وكان يحمل معه شعوراً غامراً بالمرارة لأنه لم يجد أحداً يهتم بما يقول، مات وهو جالس أمام غرفته، ودفن في مقابر الصدقة.
في الختام، هذه رواية أولى لكاتب مشغول بهموم الإنسان وأشواقه في العدل والحرية، جدلها عصام البرعي في ضفائر سردية شيقة ولغة سلسة، كأنه مخضرم في عالم الكتابة يعرف منحنيات صعودها وهبوطها في دوائر الصراع المنداحة في أروقة الزمان والمكان، فبدت الرواية وكأنها استراحة محارب، لبطل لا يكف عن الشغف بالحياة.



«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية
TT

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

قد يفاجأ القارئ الاعتيادي الذي يقرأ هذا النص السردي الموسوم بـ«وجوه من حجر النرد»، الصادر عام 2024، كونه لا يمت بصلة لفن الرواية الحديثة، مع أن مؤلفه الروائي حسن كريم عاتي أصرَّ على تجنيسه على غلاف الكتاب بالرواية.

فالكتاب يفتقد المقومات المعروفة للبنية الروائية ومنها الراوي والمروي له، والمتن الروائي بما فيها من حدث وشخصيات وأزمنة وحوارات ومخلوقات من لحم ودم، وقد يدفع هذا القارئ إلى القول بأن هذا الكتاب عبارة عن مدونة تاريخية عن مدينة بغداد، منذ تأسيسها على يد الخليفة أبي جعفر المنصور عام 144 هجرية وحتى اليوم، بلغة تدمج بين التاريخ ولغة السرد الروائي الحديث.

ولكني، مع كل ذلك، وبرغم كل هذه التحفظات أرى أن هذا النص هو حقاً رواية، لكنها رواية من نوع خاص واستثنائي، وربما يُستحضر مفهوم الرواية هنا من الموروث العربي والإسلامي، حيث كان هذا المفهوم ينصرف إلى نقل وتدوين الوقائع والأحداث التاريخية، أو تناقل الأحاديث النبوية مع الاحتفاظ بسندها ورواتها بما يتفق و«علم الجرح» أو «علم الرجال» في الموروث العربي.

هذه الرواية تتخذ من المكان بطلاً، والمكان هنا مدينة بغداد منذ ولادتها وصباها وبلوغها سن الرشد، وسيرورتها نحو الشيخوخة وصولاً إلى الحاضر. لذا يمكن النظر إلى الرواية هذه بوصفها سيرة أو ترجمة يدونها روائي معاصر لمدينة بغداد، بعد أن أشبعها المؤرخون المتقدمون منهم والمتأخرون دراسةً وتدويناً ووصفاً.

ولا يعمد المؤلف، في البنية الزمنية للرواية إلى التسلسل التاريخي الرسمي أو الكرونولوجي للأحداث، بل إلى منطق حجر النرد وأوجهه الستة، مستهلاً روايته بـ6 تساؤلات، بعدد أوجه حجر النرد، ويتساءل في الفقرة السادسة عما إذا كان ما سيرويه يمثل الحقيقة:

«تساؤلات ستة، تمثل وجوه حجر النرد الصقيل الأبيض، عادة الموشومة فوقه علامات ترقيم التساؤلات بأسود فاحم»، (ص7). لذا يعمد المؤلف بين آونة وأخرى إلى تقليب أوجه النرد باستمرار: «فلنحاول مرةً أخرى تقليب وجه آخر من وجوه حجر النرد» (ص10).

كما تتحول وجوه حجر النرد هذه إلى تمفضلات للبنية السردية للرواية على الوجه التالي: كوكب الهوى (يك)، أساور العروس (دو)، هل أتاك حديث المغل (سي)، هناك من يستذكر الملك (جهار)، أم يأكل الأبناء ثديها (بنج)، الدكتاقراطية (شيش). لكن الباب الثالث الموسوم بـ«باب المراد» يتحرر نسبياً من سلطة النرد.

والرواية لا تعتمد على التاريخ الرسمي، في سرد تشكل مدينة بغداد ونموها عبر التاريخ، بل إلى ما هو مهمش وعرضي ومسكوت عنه من تاريخها، كما نجد تناصات كثيرة مستقاة من كتب تاريخية عن بغداد؛ منها «تاريخ بغداد» لابن الخطيب، و«الروض المعطار في خير الأمصار» للصنهاجي، ومن رسائل سلطانية مختلفة، تضع الخطوط العريضة لكيفية قيادة السلطان أو الخليفة أو الوالي لشؤون الرعية، بما يصح أن نسميه بكتاب «الأمير العربي» الذي سبق كتاب «الأمير» للمفكر الإيطالي ميكافيلي.

ويلعب المؤلف لعبة نرد أخرى يكشف فيها عن التمايز الطبقي الحاد بين النخبة والعامة: «وبتقليب وجهٍ آخر من وجوه النرد، تبدو الصورة أقرب إلى الكمال، ولن تكتمل، فإن التوجيه يظهر لنا التمايز الطبقي الحاد بين النخبة والعامة»، (ص11). ويشير إلى أن «هذا النسق من هيمنة السلطة على (الرعية) أو (العامة) هو القانون المتوارث في سياسة السلاطين لتحقيق اجتماع الرعية وسلامة بقائهم يزفه سلطان في فم سلطان»، (ص12).

ويبحث الروائي في الأسباب التي جعلت الخليفة أبا جعفر المنصور يختار مدينة بغداد عاصمةً بديلة له عن الهاشمية التي اتخذ منها أسلافه عاصمة عند تأسيس الدولة العباسية. فقد كان الخوف يتسرب إلى نفسه من ولاءات الأنصار والمدن البعيدة والقريبة. فالشام محكومة الانتماء للدولة المنهارة، والكوفة منتمية إلى دولة سبقتها، انهارت أيضاً؛ ولذا - وبعد استقصاءات طويلة - قرر ترك مدينة الهاشمية التي اتخذها أسلافه عاصمة لهم، والبحث عن مكان بعيد عن الولاءات المعروفة، فكان أن وقع اختياره على مدينة بغداد لتكون عاصمة المملكة. «ذلك ما كان يفكر به الخليفة، ولو قال له اليعقوبي، ما كان له بعد بنائها... لما خطر ببال الخليفة أن تكون كما قال جزيرة بين دجلة والفرات، دجلة شرقيها، والفرات غربيها، مشرعة الدنيا... فهي واسطة العقد، في مدن الزمان، على ما أجمع عليه قول (الحساب) وتضمنته كتب الأوائل من الحكماء»، (ص23). «وبذا كان اختيار الخليفة لعاصمته الجديدة، فترك الهاشمية وبدأ ببناء مدينة بغداد سنة 145»، (ص28).

وعند تقليب حجر النرد على الوجه «دو» يبتدئ فصل «أساور العروس» بدخول الخليفة المؤسس أبي جعفر المنصور، على بغلة بيضاء مرتدياً قلنسوة الحرب السوداء، وهو يشاهد العرض العسكري، يحف به، وخلفه رجال دولته (ص29)، وتدور رحى الحياة بحلوها ومرها، ويتوالى خلفاء بني العباس إلى أن يدخل عليهم الأعاجم ويجتزون رأس آخر خلفائهم ويرفعونه على باب المدينة المقابل للجسر. (ص39).

ويكشف النرد في حركته الجديدة على الوجه «سي» حكاية دخول المغول، أو المغل، بغداد، واحتلالهم مدن الخلافة من الموصل إلى أسوار بغداد، ونشرهم الرعب بين الناس: «فقد وصلتنا قوافل الهاربين من الموصل إلى أبواب دار السلام»، (ص41).

وفي محاولة لمواجهة هذا الغزو المغولي، جمع الخليفة أمام أبواب المدينة جيشاً بـ800 فارس، هي كل القوة التي استطاع جمعها، لكن جيش المغول كان كبيراً ووحشياً؛ لذا فسرعان ما سقطت بغداد عندما حاصرت جيوش المغول أسوار بغداد وأمطرتها بقذائف النفط والحجارة، ووضع المغول الخليفة داخل كيس جلدي وقُتل رفساً، وهكذا انتهت الدولة العباسية واستبيحت بغداد من قبل المغول أيما استباحة. وفي نقلة جديدة لحركة حجر النرد «جهار» ينتقل المؤلف زمنياً، وهو يؤرخ لبغداد، إلى العصر الحديث عندما عين الإنجليز الملك فيصل الأول ملكاً على سوريا، ثم نقل إلى العراق. وكان العراق قد تخلص للتو من ربقة 4 قرون من الاحتلال العثماني الذي حكم زوراً وبهتاناً تحت اسم الخلافة الإسلامية، ليسقط تحت حكم كولونيالي جديد باسم الانتداب البريطاني على العراق، والذي قوبل بثورة شعبية عارمة، هي ثورة العشرين في الثلاثين من يونيو (حزيران) 1920، التي أجبرت الإنجليز على مراجعة خططهم والتخفيف من وطأة الاحتلال بسلسلة من الإجراءات الشكلية، منها تأسيس مجلس النواب، ومجلس الوزراء، وبناء جيش وطني تحت مظلة الدولة العراقية الجديدة.

وفي نقلة جديدة لحجر النرد «بنج» ينتقل المؤلف إلى الثلاثينات من القرن العشرين، وقد فزعت بغداد لمقتل ملكها الشاب غازي بحادث سيارة، يتهم فيه الناس الإنجليز بتدبيره؛ لذا امتلأت الشوارع بالمحتجين والمتظاهرين المنددين بالسيطرة البريطانية، وبالثأر لدم الملك الشاب. ويستمر نضال الشعب العراقي ضد المعاهدات الاستعمارية في وثبة كانون 1948، وانتفاضة 1952، واختتمت بثورة 14 تموز عام 1958 التي قادها الزعيم عبد الكريم قاسم، بإعلان النظام الجمهوري ونهاية الحكم الملكي في العراق. لكن السرد سرعان ما يقودنا إلى صورة الزعيم على شاشة التلفاز مسجى على الأرض بعد انقلاب الثامن من شباط عام 1963 الذي قاده عبد السلام عارف بدعم من البعثيين الذين مارسوا أبشع أنواع التقتيل والاضطهاد بحق العراقيين. ونجد نقلة أخرى سريعة لحكم أحمد حسن البكر، وإرغامه من قبل صدام حسين على التنازل، في مجزرة «قاعة الخلد» المشهورة.

وفي حركة جديدة لحجر النرد «شيش» يدون الروائي سلسلة جرائم البعث وقائده الديكتاتور صدام حسين، ومنها اجتياحه الإجرامي للشقيقة الكويت، وقبل ذلك حربه الدموية مع الجارة إيران، مما جرّ البلاد إلى المزيد من الويلات منها حرب الخليج لطرد جيش صدام من الكويت التي كان ضحيتها الجيش العراقي. ويستمر مسلسل العنف والانهيار حتى دخول قوات المارينز الأميركية لاحتلال العراق وإسقاط نظام صدام حسين عام 2003. وكان إسقاط تمثال الديكتاتور في ساحة الفردوس كناية عن هذا السقوط وانتهاء حكم دولة البعث وهيمنته الكولونيالية الأمريكية.

وفي الفصل الثالث والأخير من الرواية الموسوم بـ«باب المراد» يدون الروائي، بوصفه مؤرخاً، تفاصيل جديدة لم تستخدم في وجوه حجر النرد المعروفة، جانباً من معاناة الأسرة العراقية التي ثكلت بأبنائها، ومظاهر الفجيعة التي طالت الزوجة والأبناء حيث يصرخ طفلٌ اكتشف حقيقة موت أبيه: «هل يعني ذلك أني أصبحت من دون أب؟!» (ص105). ويعمد الروائي إلى توظيف المفارقة الساخرة أمام جثة القتيل، عندما تعلن الزوجة الثكلى، في لون من الكوميديا السوداء، أن هذه الجثة ليست لزوجها: «الجثة التي أتوا بها لم تكن حليقة العانة، وزوجي قبل ذهابه بـ3 أيام قد حلقها»، (ص106).

وينتقل الروائي من سرد المتن الرسمي إلى سرد الهامش وعالم المهمشين في لقطات متتابعة منها لقطة الفتيات وهن يحملن جرار الماء، ويتوقف أمام منظر مدينة من مدن الطين هي مدينة الشاكرية في جانب الكرخ، التي وجدت مثيلاً لها في الكثير من مناطق بغداد آنذاك: «فالشاكرية في كرخها بين العباسية من شمالها الشرقي، وحتى الكاورية في جنوبها الشرقي، ومن أم العظام في جنوبها حتى محطة غربي بغداد لسكك الحديد، مدينة طين»، (ص115). لكن الشاكرية لم تكن مدينة الطين الوحيدة، فقد تكاثرت مدن الطين في شرق العاصمة وغربها، مثل خلف السدة المسماة بـ«العاصمة» في الرصافة، والوشاش في الكرخ. ويكشف الروائي عن ثمرة هذه المعاناة التي تمثلت في الجذور الأولى لحركة الاحتجاج السياسي متمثلة في شخصية «دوسر» ابن الشاكرية الذي فقد عينه بسبب النضال من أجل الصرائف. (ص122).

تتخذ الرواية من لعبة النرد فضاء سردياً تتمثل من خلاله سيرة مدينة بغداد منذ ولادتها وصباها وبلوغها سن الرشد والمخاطر التي واجهتها حتى الحاضر.

وفي مظهر آخر للكوميديا السوداء يقدم لنا الروائي مشهداً لصاحب بغل (مجاري) فَقَدَ بغلَه وقيل له أن يبحث عنه في هذا الباب، إذ شوهد وهو يدخل هذه البناية، التي كانت مبنى لمجلس النواب (ص125). وعندما روى «دوسر» ابن الشاكرية هذه الحكاية نصحه أحدهم بأن يتجنب سرد هذه الحكاية لكيلا يقولوا عنه إنه من المعادين.

وفي الفصل الأخير «هامش سفر النرد» نكتشف أن المؤلف كان قد وضع عنواناً ثانوياً لمؤلفه هو «سفر بغداد»، وكان ينبغي أن يدرج ولا يحذف كما هو الحال. وبعد أن يستشهد بمقولة دالة للتوحيدي، يختتم الرواية بالقول، ملخصاً تاريخها، الذي يتوج الإنسان على قمة التاريخ والمكان: «فما حدث في بغداد حدث في غيرها من بلاد العرب والعجم، وفي دار السلام وفي دار الحرب، فهو يتصل بالإنسان أكثر من اتصاله بالمكان»، (ص127).

ومن هنا نكتشف أننا إزاء رواية من نوع خاص، قد تتجاوز التجنيس الرسمي لفن الرواية، كما أسلفت، لكنها تظل رواية فيها من الطرافة والجدة الشيء الكثير؛ لأنها تعتمد على التخييل والتاريخ معاً، وتتطلع إلى إجازتها مصنفاً معتمداً: «لإشاعتها بين الخاصة والعامة، ونسبتها إلينا، ونستغفر الله لك ولنا وللعامة». (ص128).

إنها حقاً تجربة كتابية جديدة وفريدة لم نشهد لها مثيلاً في التأليف الروائي، نجح فيها الروائي في بناء رواية تاريخية من مداد افتراضي تخييلي، وبطريقة ذكية ونادرة تستحق الإعجاب والثناء.