وفاء الكيلاني تسرد «سيرة» عاصي الحلاني وتقلّب صفحاتها

عاصي الحلاني ووفاء الكيلاني في «السيرة»
عاصي الحلاني ووفاء الكيلاني في «السيرة»
TT

وفاء الكيلاني تسرد «سيرة» عاصي الحلاني وتقلّب صفحاتها

عاصي الحلاني ووفاء الكيلاني في «السيرة»
عاصي الحلاني ووفاء الكيلاني في «السيرة»

يختم عاصي الحلاني الموسم الثاني من برنامج «السيرة» مع وفاء الكيلاني بسرد يختار له عنوان «سيرة فارس لن يسقط عن صهوة جواده». في مكتب داخل مكتبة، حيث نوستالجيا الداكتيلو والغراموفون، يعود طفلاً في التذكُر والحكايا. تفتح محاورته كتابه، وتواجهه مع صفحات العمر. وقد كان شيّقاً، مكثّفاً بالتجارب. فردٌ في عائلة تتكوّن من 13 أخاً وأختاً، اسمه الحقيقي محمد، حلم بين سنابل القرية بنجومية ظنّ بلوغها مستحيلاً. تكلّف والده براتب شهر ليشتري عوداً له، هو المتأكد منذ الصغر بأنّ الأحوال ضيّقة لكن الأحلام بحجم الكون.
ضيفها لاعب ماهر مع الظروف، تحاول التسديد فيصدّها. سكن 15 فرداً في منزل من غرفتين، فتعلّم محمد القناعة خارج معزوفة التذمر والشكوى. باكراً تحمّل المسؤولية وراح يبحث عن مصدر دخل. بلمعان الأسئلة وذكاء التمهّل أمام المحطات، تنقّب الكيلاني في أعماق الحلاني. يردّ بابتسامة على أكثر فصول الحياة مرارة، كالخطف في الحرب الأهلية أو خسائر الأحبة في العائلة. كأنّ بعض أثقال الماضي تستعيد خفّتها لمجرد تحوّلها درساً في الصلابة وأمثولة في القوة.
تقلّب أمامه الصفحات، منها خفقان القلب وشعور الأبوّة وسُلّم الفن وقسوة الصعود حين تخذله الظروف. الكيلاني فنانة تفاصيل، تلاحق الصغيرة والكبيرة. لا تهدأ حتى تتسرّب وتتشرّب. ولا تغفل عن جانب في الضيف، أكان معتماً أم مضيئاً، متوافراً أم يتطلب التنقيب والحفر. بدا الحلاني كتاباً مفتوحاً أمامها. وتقريباً، سلّمها نفسه لاختراقها والتنزّه في صميمها. تحضّه على النطق حيث بعض الصمت، وعلى قصّ الحكايا للمرة الأولى. لم يطل عاصي الحلاني ليقدّم «سيرة» مثالية. فهو ابن اللحظات الفقيرة والعمل في سن مبكرة. يفتح كتابه ليفاخر بما خطّه بعرق جبينه منذ عمله مساعداً لحلواني ولم ترقه الحرفة، فاستبدلها بعد ثلاثة أشهر بعمله مساعداً لنجار في «منشرة» جعلته يحصل على راتب يؤكد إحساسه بالرجولة. لا تطرح محاورته سؤالاً لتنال جواباً. تطرحه لتطوي صفحة بعد المداواة بالبوح. وهذه هوايتها المفضلة أمام الكاميرا: أن تقتحم الطابق المستور، ثم ترتّب دواخل الضيف بعد محاولات تفكيك غالباً ما تنتهي بالإبهار والتفرُّد.
إن أعاد مشاهدة الحلقة («دي إم سي») سيقف مذهولاً أمام فصول حافلة بالوصول. علّمت على وجهه صفعة الأب الأولى حين شعر بأنّ الابن يتقاعس في الدراسة. وعوض مصارحته بحقيقة الرسوب، باغته بأكذوبة النجاح، فاكتشف الأمر وسدّد «الكف»، أو «القلم» باللهجة المصرية. أراده، كبراءة الآباء في مصادرة شغف الأبناء، أن يصبح مهندساً أو طبيباً. لم يخطر له أن يصبح «فارس الأغنية»، بالفولكلور الذي ميّزه في «استوديو الفن» والأغنية الشعبية اللبنانية وصدى المواويل في حقول السنابل: «كلما السنونو فارقت قرميدها بغيب من عمري سنة... وكلما العريشة بكيت عناقيدها بترحل دِني بتبقى دِني».
تحدّثه طويلاً في الحب والزواج والعائلة، وعلى طريقتها في «المكر» الإعلامي، تسأله لِمَ أبقى زواجه من ملكة جمال لبنان السابقة كوليت بولس سراً لسنة؟ هل لأنها المراهقة التي يرغب في امتداد فصولها؟ أم لأنها «ضرورات» الشهرة لإرضاء خفقان المعجبات؟ يتجنّب افتعال أي جواب، وفي الحلاني كثير من العفوية. 25 سنة مرت على زواجه، ووفق الكيلاني: «قمر أنجبت ثلاثة أقمار»، اثنان ميّالان للفن وفسحاته وثالثة اختارت باريس لاحتراف الطبخ بدعم من الوالد المُدرك أنّ النصيحة تنفع والإرشاد ينفع، لكن إرغام الأبناء والاستبداد بخياراتهم سيؤول إلى الفشل.
ابن مِزْين الحلاني الذي رفض المجيء بضرّة لمريم المتـأخرة في إنجاب الذكور. تلك الأم التي باعت سلسلة ذهبية لتساند الابن الموهوب في تسجيل أغنية. يستوقف محاورته وجود اسمين في الرجل: «متى تكون محمداً ومتى تكون عاصياً؟ ولِمَ يغلب عاصي محمداً؟». يردّ بفرح على أسئلتها، وإن استنكر «تهماً» توجّهها إليه لتُخرج منه حقيقة صورته عن نفسه. يرفض أنه تخلّى عن محمد ونزعه منه، وإن احتل عاصي مساحة أوسع. محمد الذي عمل باكراً لتدبير أقساط المعهد، والذي سعى بجهد خلف الفرص الأولى، يعتزّ به ولم يُرد له اسما آخر. لكنها موضة تلك الأيام، تجلّي النجومية بأسماء أخرى، فاختار عاصي تيمّناً بعاصي الرحباني المتوفّي في اليوم نفسه لولادة محمد باسم عاصي الحلاني.
برغم بساطتها، اتخذت الأم قراراً صارماً بمنع شبابها الثلاثة من الالتحاق بميليشيات الحرب الأهلية اللبنانية. جنّبتهم الاقتتال الطائفي وروائح الذبح على الهويات. ومع ذلك، لم يسلم محمد المراهق، فاختطفه مسلّحون مع رفيق له كانا يصطادان في الجبال، وأرغموهما مع تكبيل الأيدي على الإجهار بالانتماء لحزبهم. «إنه أصعب أيام الحياة»، يقول ابن الحلانية في مدينة بعلبك البقاعية. وينعت الطائفية بالجرثومة. هي اليوم، كالأمس، علّة الوجود اللبناني وخرابه.
وسرد الذكريات الطريفة كمشاغبات الطفولة وسرقة البطيخ في الليالي. وماذا أيضاً؟ «الذرة» ونسمّيها في لبنان «العرانيس» والحمّص الأخضر ونسمّيه «أم قليبانة». ابنه الوليد على خطاه في مغامرات الليل على الحقول المجاورة. وفي الغناء والموهبة، ابن أبيه.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».