لفت الأنظار إليه بعد صدور روايته «ورثة آل الشيخ» التي فازت بجائزة «كاتارا» القطرية للرواية العربية هذا العام. واعتبر عدد من النقاد أن الروائي المصري أحمد القرملاوي يضع يده على بؤرة سردية مهمة في معظم أعماله، تكمن في علاقة البشر بالزمن والتاريخ فأبطاله مغمورون في هذه العلاقة، يحاولون من خلالها استبطان الذات، وطرح هواجسهم وتساؤلاتهم حول معنى الوجود والحياة. القرملاوي من مواليد 1978، يكتب القصة القصيرة والرواية، أصدر خمسة أعمال روائية من أبرزها «أمطار صيفية» الحاصلة على جائزة «الشيخ زايد» للكتاب عام 2018، و«نداء أخير للركاب» التي حصلت على جائزة معرض القاهرة الدولي للكتاب 2019.
هنا حوار معه حول هموم الكتابة وعلاقتها بالواقع والتاريخ في أعماله.
> هل كانت «ورثة آل الشيخ» حلماً قديماً بالكتابة تحت ظلال «شجرة العائلة»؟
بالفعل، فالرواية كانت فكرة قديمة شغلتني لنحو سبع سنوات، قبل أن أقرر إنجازها، وسبب انشغالي بالفكرة هو تلك الأسطورة التي كانت تُتداول بين أجيال عائلتي عن كنز مخبوء في بيت العائلة القديم، وعن «محمد السابع» الذي سيكشف عن الكنز بعدما يتخلص من القرد الأجرب الذي يحرسه. كنتُ أتساءل عن سلطة الأساطير على عقول الناس، وقدرتها على إعادة ترسيم الحدود بين الواقع والخيال، كما كنتُ منشغلاً بالأساطير المنقولة عن أجدادي البعيدين، وعن قدرة الزمن على تجاوز خيباتهم وأخطائهم وإعادة تقديمهم للأجيال اللاحقة كأبطال أسطوريين.
> فكرة اقتفاء الكنز وأثره ورحلة الوصول إليه طالما ألهمت الأدب كثيراً. كيف نظرت لها؟
نظرت إليها كوعدٍ أسطوري، كحافز من صنع الخيال يدفع البشر لمواصلة الحياة، واكتشاف حدودها بحثاً عن هذا الوعد الذي لا يتحقق أبداً، غير أنه يدفع الحدود والجدران أبعد فأبعد، ويُفجر الطاقات المخبوءة في نفوس البشر، حتى يصبحوا هم الكنز الذي يسعون وراءه.
> في أعمالك ثمة استبطان داخلي وبحث طويل عن الذات، موصول بتقليب في تربة التاريخ. حدثنا عن هذا الامتداد.
إحدى مهام الأدب والكتابة الروائية على وجه الخصوص هي استبطان التجربة البشرية والكشف عن الذات الإنسانية، عبر تجارب البشر وصراعاتهم مع الحياة ومع تحولات الزمن القدرية، خصوصاً حين يكون النص رواية أجيال تدور أحداثها خلال فترة زمنية ممتدة تتسع للعديد من التحولات والصعود والهبوط والموت والميلاد، كما يحدث كل ذلك على خلفية من التحولات التاريخية والمجتمعية. هذا ما حاولت اكتشافه، ومن ثم تقديمه عبر رواية «ورثة آل الشيخ».
> يبدو الميراث في روايتك الأخيرة حمال أوجه. كيف اشتغلت على تلك الثيمة أدبياً؟
السؤال نفسه يشتمل على الإجابة في صيغة موجَزة، فنحن لا نرث المال فقط ولا المنقولات، بل الجينات المتوارثة والأسئلة غير المجاب عنها، والأخطاء غير المصوبة، والأحلام غير المتحققة، كما نرث السيرة والسمعة بحلوها ومرها، وغيرها مما يفوق ذلك مهما ادعينا العكس؛ إنها ظاهرة أشبه بتناسخ الأرواح، فكما يعتقد البعض أن الروح الإنسانية تبحث عن جسد جديد تسكن فيه كي تُحقق تحررها، فإن الروح الإنسانية الجمعية تنتقل من جيل لجيل حتى تحرر الإنسان وتُصوب أخطاءه وتكتشف قدراته.
> ما رأيك في إطلاق تعبير رواية أجيال على «ورثة آل الشيخ». وهل خشيت خلال الكتابة من أن يُشتت هذا التدفق في الحكايات القارئ؟
إنها رواية أجيال بحُكم التعريف النقدي، حيث تتوالى الأحداث عبر أجيال متتالية من العائلة نفسها، وأؤمن بأن الرواية تجد قراءها، وكنتُ أدرك تماماً أن روايتي «ورثة آل الشيخ» لن تناسب ذائقة القاعدة العريضة من القراء، إذ هي رواية مفعمة بالشخصيات وبالحكايات وتحتاج لتركيز أعلى نسبياً في أثناء القراءة، وقديماً سمعتُ المخرج يوسف شاهين يقول إن أفلامه ليست من النوع الذي تستطيع مشاهدته وأنت تأكل الفشار؛ ثمة أعمال فنية مركبة وكثيفة بالتفاصيل، تحتاج لذهن صافٍ ورغبة في التلقي العميق، وقد فوجئت بحجم النجاح الذي صادف «ورثة آل الشيخ»، فقد فاق استحسان القراء لها توقعاتي بمسافة بعيدة، والآن بعد حصولها على جائزة كاتارا، أظن أن القارئ سيمنحها المزيد من الصبر والاهتمام.
> شغلك غموض الماضي وتتبع الجذور من قبل في روايتك «نداء أخير للركاب»، ما الفروق التي تمس بطل تلك الرواية وبطل روايتك الجديدة؟
الفروق كبيرة على مستوى رسم الشخصية وبنائها، فبطل «نداء أخير للركاب» مُنكب على ذاته ولا يشغل نفسه كثيراً بماضيه وجذوره، ولم يكن ليخوض هذه الرحلة إلا مُرغماً وباحثاً عن المنفعة المادية قبل أي شيء آخر، غير أنه يتحول رويداً رويداً مع توالي المحطات في رحلة البحث التي يرسمها له أبوه المتوفى قبل رحيله، فيصير الأب غير الموجود هو البطل الحقيقي خلف الأحداث، وإن كان بطلاً شبحياً إن جاز التعبير. أما البطل في «ورثة آل الشيخ» فشخص مهموم أصلاً بالاكتشاف، وبالتساؤل حول أهمية ماضيه في صياغة مستقبله، وعن ضرورة استمساكه بجذوره أثناء رحلته.
> تكررت في الرواية جملة: «جيل ينتج وجيل يحصد ما أنتجه السلف» فبدت كحلقة وصل بين حكايات العائلة المشتتة.
هذا صحيح، وكنتُ أعني الإشارة لهذه المقابلة بين توالي الأجيال وبين تحولات الزمن والتاريخ، فالزمن يسيل على شكل موجات صاعدة وهابطة، ودوامات تدور حول محورها دون توقف، والجملة توحي بحركة الأمواج تلك صعوداً وهبوطاً، وكذلك حركة الدوامات الدائرية، خصوصاً حين تتكرر فتمنح إيقاعاً خاصاً مبنياً على هذه الفكرة.
> لماذا تبدو مشغولاً في أعمالك بفكرة كتابة العابرين للتاريخ؟
بالفعل، أرى الفن الروائي من هذه الزاوية، فكما يكتب المؤرخون تاريخ البشرية من وجهات نظر الساسة والعلماء والأنثربولوجيين، يكتب الروائيون التاريخ من وجهة نظر البشر العاديين، صناع الحياة، والجنود المجهولين خلف كل تحول كبير أو إنجاز هام. فالأدب يمنح الصوت لأولئك الصامتين في كتب التاريخ، وفي حضور السوشيال ميديا التي تمنح الصوت للجميع، تزداد صعوبة مهمة الكتابة الروائية، إذ يصير عليها أن تمنحهم صوتاً أكثر عمقاً وأكثر نفاذاً.
> في أحدث أعمالك «قميص لتغليف الهدايا» عودة للقصة القصيرة بعد محطات روائية لافتة. حدثنا عن تلك العودة.
ليست عودة بالمعنى الدقيق، فأنا أكتب القصص فيما بين الروايات، أحياناً بالتزامن مع الكتابة الروائية حين تواتيني فكرة مُلِحة تناسب القصة القصيرة، وقد قمتُ بنشر عدد من القصص خلال السنوات الماضية التي ركزتُ خلالها على نشر النصوص الروائية، إذ لم أتوقف يوماً عن الاهتمام بفن القصة القصيرة. أما النشر فمسألة لها حسابات أخرى، من حيث التوقيت المناسب لنشر مجموعة قصصية واستعداد جمهور القراء لاستقبالها. والحقيقة أنني ممتن جداً لهذه التجربة التي أثبتت أن القراء في شغف مستمر لقراءة القصص القصيرة، بشرط تقديمها على نحو يُهمهم ويلامس تجاربهم، وأرجو أن يتفق ذلك مع ما قدمته عبر مجموعتي القصصية الأخيرة.
> تعمل في مجال بعيد نسبياً عن الأدب، عرفنا عليه، وكيف تُكرس له وللفن بشكل عام كالموسيقى وقتاً ومناخاً خاصاً في يومياتك؟
أعمل في مجال الهندسة المعمارية والديكور والتصميمات، برغم الضغوط، أحاول باستمرار أن أحافظ على علاقتي بمختلف الفنون التي أهواها، مثل الأدب والموسيقى والشعر وغيرها، عن طريق تنظيم الوقت وعدم ترك فجوات فارغة من أي شيء نافع أقوم به، فدائماً ما أردد لنفسي العبارة القائلة: ما لا يُدرك كله لا يُترك كله، فلا بأس من أن أقضي ولو ساعة في الأسبوع في مداعبة أوتار العود، مهما بدا ذلك غير مشبِع بالنسبة لي، غير أنه قسط صغير أقوم بادخاره في حصالة المحبة، حتى لا تنقطع تماماً علاقتي بما أحب، على أن أستفيد بأي إجازة طويلة في سداد فاتورة المحبة بدرجة أوفى، فأقضي الساعات والساعات يومياً مع العود ومع كتب الشعر وتأليفه، وهكذا. كل ما هناك أن الأمر يحتاج لشيء من التنظيم، والإصرار، والمحبة العميقة للجمال.
> كيف تنظر لحالة الزخم اللافتة في مشهد الرواية المصرية والعربية؟
أتصور أنه يجب أن يتواكب مع زيادة عدد الإصدارات الأدبية اللافتة زيادة في التنوع واكتشاف التجارب المختلفة، فذلك من شأنه أن ينعكس إيجاباً على الإنتاج الروائي في النهاية.