أحمد القرملاوي: الكتابة أسطورة أبني من خلالها جسراً يربط الواقع بالخيال

الروائي المصري يكتب القصص بالتزامن مع الرواية حين تلح فكرة تناسبها

ألكاتب أحمد القرملاوي
ألكاتب أحمد القرملاوي
TT

أحمد القرملاوي: الكتابة أسطورة أبني من خلالها جسراً يربط الواقع بالخيال

ألكاتب أحمد القرملاوي
ألكاتب أحمد القرملاوي

لفت الأنظار إليه بعد صدور روايته «ورثة آل الشيخ» التي فازت بجائزة «كاتارا» القطرية للرواية العربية هذا العام. واعتبر عدد من النقاد أن الروائي المصري أحمد القرملاوي يضع يده على بؤرة سردية مهمة في معظم أعماله، تكمن في علاقة البشر بالزمن والتاريخ فأبطاله مغمورون في هذه العلاقة، يحاولون من خلالها استبطان الذات، وطرح هواجسهم وتساؤلاتهم حول معنى الوجود والحياة. القرملاوي من مواليد 1978، يكتب القصة القصيرة والرواية، أصدر خمسة أعمال روائية من أبرزها «أمطار صيفية» الحاصلة على جائزة «الشيخ زايد» للكتاب عام 2018، و«نداء أخير للركاب» التي حصلت على جائزة معرض القاهرة الدولي للكتاب 2019.
هنا حوار معه حول هموم الكتابة وعلاقتها بالواقع والتاريخ في أعماله.

> هل كانت «ورثة آل الشيخ» حلماً قديماً بالكتابة تحت ظلال «شجرة العائلة»؟
بالفعل، فالرواية كانت فكرة قديمة شغلتني لنحو سبع سنوات، قبل أن أقرر إنجازها، وسبب انشغالي بالفكرة هو تلك الأسطورة التي كانت تُتداول بين أجيال عائلتي عن كنز مخبوء في بيت العائلة القديم، وعن «محمد السابع» الذي سيكشف عن الكنز بعدما يتخلص من القرد الأجرب الذي يحرسه. كنتُ أتساءل عن سلطة الأساطير على عقول الناس، وقدرتها على إعادة ترسيم الحدود بين الواقع والخيال، كما كنتُ منشغلاً بالأساطير المنقولة عن أجدادي البعيدين، وعن قدرة الزمن على تجاوز خيباتهم وأخطائهم وإعادة تقديمهم للأجيال اللاحقة كأبطال أسطوريين.
> فكرة اقتفاء الكنز وأثره ورحلة الوصول إليه طالما ألهمت الأدب كثيراً. كيف نظرت لها؟
نظرت إليها كوعدٍ أسطوري، كحافز من صنع الخيال يدفع البشر لمواصلة الحياة، واكتشاف حدودها بحثاً عن هذا الوعد الذي لا يتحقق أبداً، غير أنه يدفع الحدود والجدران أبعد فأبعد، ويُفجر الطاقات المخبوءة في نفوس البشر، حتى يصبحوا هم الكنز الذي يسعون وراءه.
> في أعمالك ثمة استبطان داخلي وبحث طويل عن الذات، موصول بتقليب في تربة التاريخ. حدثنا عن هذا الامتداد.
إحدى مهام الأدب والكتابة الروائية على وجه الخصوص هي استبطان التجربة البشرية والكشف عن الذات الإنسانية، عبر تجارب البشر وصراعاتهم مع الحياة ومع تحولات الزمن القدرية، خصوصاً حين يكون النص رواية أجيال تدور أحداثها خلال فترة زمنية ممتدة تتسع للعديد من التحولات والصعود والهبوط والموت والميلاد، كما يحدث كل ذلك على خلفية من التحولات التاريخية والمجتمعية. هذا ما حاولت اكتشافه، ومن ثم تقديمه عبر رواية «ورثة آل الشيخ».
> يبدو الميراث في روايتك الأخيرة حمال أوجه. كيف اشتغلت على تلك الثيمة أدبياً؟
السؤال نفسه يشتمل على الإجابة في صيغة موجَزة، فنحن لا نرث المال فقط ولا المنقولات، بل الجينات المتوارثة والأسئلة غير المجاب عنها، والأخطاء غير المصوبة، والأحلام غير المتحققة، كما نرث السيرة والسمعة بحلوها ومرها، وغيرها مما يفوق ذلك مهما ادعينا العكس؛ إنها ظاهرة أشبه بتناسخ الأرواح، فكما يعتقد البعض أن الروح الإنسانية تبحث عن جسد جديد تسكن فيه كي تُحقق تحررها، فإن الروح الإنسانية الجمعية تنتقل من جيل لجيل حتى تحرر الإنسان وتُصوب أخطاءه وتكتشف قدراته.
> ما رأيك في إطلاق تعبير رواية أجيال على «ورثة آل الشيخ». وهل خشيت خلال الكتابة من أن يُشتت هذا التدفق في الحكايات القارئ؟
إنها رواية أجيال بحُكم التعريف النقدي، حيث تتوالى الأحداث عبر أجيال متتالية من العائلة نفسها، وأؤمن بأن الرواية تجد قراءها، وكنتُ أدرك تماماً أن روايتي «ورثة آل الشيخ» لن تناسب ذائقة القاعدة العريضة من القراء، إذ هي رواية مفعمة بالشخصيات وبالحكايات وتحتاج لتركيز أعلى نسبياً في أثناء القراءة، وقديماً سمعتُ المخرج يوسف شاهين يقول إن أفلامه ليست من النوع الذي تستطيع مشاهدته وأنت تأكل الفشار؛ ثمة أعمال فنية مركبة وكثيفة بالتفاصيل، تحتاج لذهن صافٍ ورغبة في التلقي العميق، وقد فوجئت بحجم النجاح الذي صادف «ورثة آل الشيخ»، فقد فاق استحسان القراء لها توقعاتي بمسافة بعيدة، والآن بعد حصولها على جائزة كاتارا، أظن أن القارئ سيمنحها المزيد من الصبر والاهتمام.
> شغلك غموض الماضي وتتبع الجذور من قبل في روايتك «نداء أخير للركاب»، ما الفروق التي تمس بطل تلك الرواية وبطل روايتك الجديدة؟
الفروق كبيرة على مستوى رسم الشخصية وبنائها، فبطل «نداء أخير للركاب» مُنكب على ذاته ولا يشغل نفسه كثيراً بماضيه وجذوره، ولم يكن ليخوض هذه الرحلة إلا مُرغماً وباحثاً عن المنفعة المادية قبل أي شيء آخر، غير أنه يتحول رويداً رويداً مع توالي المحطات في رحلة البحث التي يرسمها له أبوه المتوفى قبل رحيله، فيصير الأب غير الموجود هو البطل الحقيقي خلف الأحداث، وإن كان بطلاً شبحياً إن جاز التعبير. أما البطل في «ورثة آل الشيخ» فشخص مهموم أصلاً بالاكتشاف، وبالتساؤل حول أهمية ماضيه في صياغة مستقبله، وعن ضرورة استمساكه بجذوره أثناء رحلته.
> تكررت في الرواية جملة: «جيل ينتج وجيل يحصد ما أنتجه السلف» فبدت كحلقة وصل بين حكايات العائلة المشتتة.
هذا صحيح، وكنتُ أعني الإشارة لهذه المقابلة بين توالي الأجيال وبين تحولات الزمن والتاريخ، فالزمن يسيل على شكل موجات صاعدة وهابطة، ودوامات تدور حول محورها دون توقف، والجملة توحي بحركة الأمواج تلك صعوداً وهبوطاً، وكذلك حركة الدوامات الدائرية، خصوصاً حين تتكرر فتمنح إيقاعاً خاصاً مبنياً على هذه الفكرة.
> لماذا تبدو مشغولاً في أعمالك بفكرة كتابة العابرين للتاريخ؟
بالفعل، أرى الفن الروائي من هذه الزاوية، فكما يكتب المؤرخون تاريخ البشرية من وجهات نظر الساسة والعلماء والأنثربولوجيين، يكتب الروائيون التاريخ من وجهة نظر البشر العاديين، صناع الحياة، والجنود المجهولين خلف كل تحول كبير أو إنجاز هام. فالأدب يمنح الصوت لأولئك الصامتين في كتب التاريخ، وفي حضور السوشيال ميديا التي تمنح الصوت للجميع، تزداد صعوبة مهمة الكتابة الروائية، إذ يصير عليها أن تمنحهم صوتاً أكثر عمقاً وأكثر نفاذاً.
> في أحدث أعمالك «قميص لتغليف الهدايا» عودة للقصة القصيرة بعد محطات روائية لافتة. حدثنا عن تلك العودة.
ليست عودة بالمعنى الدقيق، فأنا أكتب القصص فيما بين الروايات، أحياناً بالتزامن مع الكتابة الروائية حين تواتيني فكرة مُلِحة تناسب القصة القصيرة، وقد قمتُ بنشر عدد من القصص خلال السنوات الماضية التي ركزتُ خلالها على نشر النصوص الروائية، إذ لم أتوقف يوماً عن الاهتمام بفن القصة القصيرة. أما النشر فمسألة لها حسابات أخرى، من حيث التوقيت المناسب لنشر مجموعة قصصية واستعداد جمهور القراء لاستقبالها. والحقيقة أنني ممتن جداً لهذه التجربة التي أثبتت أن القراء في شغف مستمر لقراءة القصص القصيرة، بشرط تقديمها على نحو يُهمهم ويلامس تجاربهم، وأرجو أن يتفق ذلك مع ما قدمته عبر مجموعتي القصصية الأخيرة.
> تعمل في مجال بعيد نسبياً عن الأدب، عرفنا عليه، وكيف تُكرس له وللفن بشكل عام كالموسيقى وقتاً ومناخاً خاصاً في يومياتك؟
أعمل في مجال الهندسة المعمارية والديكور والتصميمات، برغم الضغوط، أحاول باستمرار أن أحافظ على علاقتي بمختلف الفنون التي أهواها، مثل الأدب والموسيقى والشعر وغيرها، عن طريق تنظيم الوقت وعدم ترك فجوات فارغة من أي شيء نافع أقوم به، فدائماً ما أردد لنفسي العبارة القائلة: ما لا يُدرك كله لا يُترك كله، فلا بأس من أن أقضي ولو ساعة في الأسبوع في مداعبة أوتار العود، مهما بدا ذلك غير مشبِع بالنسبة لي، غير أنه قسط صغير أقوم بادخاره في حصالة المحبة، حتى لا تنقطع تماماً علاقتي بما أحب، على أن أستفيد بأي إجازة طويلة في سداد فاتورة المحبة بدرجة أوفى، فأقضي الساعات والساعات يومياً مع العود ومع كتب الشعر وتأليفه، وهكذا. كل ما هناك أن الأمر يحتاج لشيء من التنظيم، والإصرار، والمحبة العميقة للجمال.
> كيف تنظر لحالة الزخم اللافتة في مشهد الرواية المصرية والعربية؟
أتصور أنه يجب أن يتواكب مع زيادة عدد الإصدارات الأدبية اللافتة زيادة في التنوع واكتشاف التجارب المختلفة، فذلك من شأنه أن ينعكس إيجاباً على الإنتاج الروائي في النهاية.



طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين
TT

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

يحتلّ موقع الدُّور مكانة كبيرة في خريطة المواقع الأثرية التي كشفت عنها أعمال المسح المتواصلة في إمارة أم القيوين. بدأ استكشاف هذا الموقع في عام 1973، حيث شرعت بعثة عراقية في إجراء حفريّات تمهيديّة فيه، وتبيّن عندها أن الموقع يُخفي تحت رماله مستوطنة تحوي بقايا حصن. جذب هذا الخبر عدداً من العلماء الأوروبيين، منهم المهندس المعماري البريطاني بيتر هادسون، الذي قام بجولة خاصة في هذا الموقع خلال عام 1977، وعثر خلال تجواله على طبق نحاسي علاه الصدأ، فحمله معه، واتّضح له عند فحصه لاحقاً أنه مزيّن بسلسلة من النقوش التصويرية تتميّز بطابع فنّي رفيع.

وجد بيتر هادسون هذا الطبق في ركن من جهة جنوب شرقي الموقع، وحمله بعد سنوات إلى الشارقة حيث كشفت صور الأشعّة عن ملامح حلية تصويرية منقوشة غشيتها طبقة غليظة من الصدأ. نُقلت هذه القطعة المعدنية إلى كلية لندن الجامعية، وخضعت هناك لعملية تنقية وترميم متأنية كشفت عن تفاصيل زينتها التصويرية بشكل شبه كامل. يبلغ قُطر هذه القطعة الفنية نحو 17.5 سنتيمتر، وعمقه 4.5 سنتيمتر، وتتألّف قاعدة حليته التصويرية من دائرة ذات زينة تجريدية في الوسط، تحوطها دائرة ذات زينة تصويرية تزخر بالتفاصيل الدقيقة. تحتل الدائرة الداخلية الصغرى مساحة قاع الطبق المسطّحة، ويزينها نجم تمتدّ من أطرافه الخمسة أشعة تفصل بينها خمس نقاط دائرية منمنمة. تنعقد حول هذا النجم سلسلتان مزينتان بشبكة من النقوش، تشكّلان إطاراً لها. ومن حول هذه الدائرة الشمسية، تحضر الزينة التصويرية، وتملأ بتفاصيلها كل مساحة الطبق الداخلية.

تتمثّل هذه الزينة التصويرية بمشهد صيد يحلّ فيه ثلاثة رجال، مع حصانين وأسدين، إضافةً إلى أسد مجنّح له رأس امرأة. يحضر رجلان في مركبة يجرها حصان، ويظهران متواجهين بشكل معاكس، أي الظهر في مواجهة الظهر، ويفصل بينهما عمود ينبثق في وسط هذه المركبة. يُمثّل أحد هذين الرجلين سائق المركبة، ويلعب الثاني دور الصياد الذي يطلق من قوسه سهماً في اتجاه أسد ينتصب في مواجهته بثبات، رافعاً قائمته الأمامية اليسرى نحو الأعلى. من خلف هذا الأسد، يظهر صياد آخر يمتطي حصاناً، رافعاً بيده اليمنى رمحاً طويلاً في اتجاه أسد ثانٍ يرفع كذلك قائمته الأمامية اليسرى نحوه. في المسافة التي تفصل بين هذا الأسد والحصان الذي يجرّ المركبة، يحضر الأسد المجنّح الذي له رأس امرأة، وهو كائن خرافي يُعرف باسم «سفنكس» في الفنين الإغريقي والروماني.

يحضر كل أبطال هذا المشهد في وضعية جانبية ثابتة، وتبدو حركتهم جامدة. يرفع سائق المركبة ذراعيه نحو الأمام، ويرفع الصياد الذي يقف من خلفه ذراعيه في وضعية موازية، ويبدو وجهاهما متماثلين بشكل متطابق. كذلك، يحضر الأسدان في تأليف واحد، ويظهر كل منهما وهو يفتح شدقيه، كاشفاً عن لسانه، وتبدو مفاصل بدنيهما واحدة، مع لبدة مكونة من شبكة ذات خصل دائرية، وذيل يلتفّ على شكل طوق. في المقابل، يفتح «سفنكس» جناحيه المبسوطين على شكل مروحة، وينتصب ثابتاً وهو يحدّق إلى الأمام. من جهة أخرى، نلاحظ حضور كائنات ثانوية تملأ المساحات الفارغة، وتتمثّل هذه الكائنات بدابّة يصعب تحديد هويتها، تظهر خلف الأسد الذي يصطاده حامل الرمح، وطير يحضر عمودياً بين حامل القوس والأسد المواجه له، وطير ثانٍ يحضر أفقياً تحت قائمتَي الحصان الذي يجر المركبة. ترافق هذه النقوش التصويرية كتابة بخط المسند تتكون من أربعة أحرف، وهذا الخط خاص بجنوب الجزيرة العربية، غير أنه حاضر في نواحٍ عديدة أخرى من هذه الجزيرة الواسعة.

يصعب تأريخ هذا الطبق بشكل دقيق، والأكيد أنه يعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد، ويُشابه في الكثير من عناصره طَبَقاً من محفوظات المتحف البريطاني في لندن، مصدره مدينة نمرود الأثرية الواقعة قرب الموصل في شمال العراق. كما على طبق الدُّوْر، يحضر على طبق نمرود، صيادٌ برفقة سائق وسط مركبة يجرها حصانان، ملقياً بسهمه في اتجاه أسد يظهر في مواجهته. يحضر من خلف هذا الأسد صياد يجثو على الأرض، غارساً رمحه في قائمة الطريدة الخلفية. في المسافة التي تفصل بين هذا الصياد والحصانين اللذين يجران المركبة، يحضر «سفنكس» يتميّز برأسٍ يعتمر تاجاً مصرياً عالياً.

ينتمي الطبقان إلى نسق فني شائع عُرف بالنسق الفينيقي، ثمّ بالنسق المشرقي، وهو نسق يتمثل بمشاهد صيد تجمع بين مؤثرات فنية متعددة، أبرزها تلك التي تعود إلى بلاد الرافدين ووادي النيل. بلغ هذا النسق لاحقاً إلى جنوب شرق الجزيرة العربية حيث شكّل نسقاً محلياً، كما تشهد مجموعة من القطع المعدنية عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في مواقع أثرية عدة تعود اليوم إلى الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان. وصل عدد من هذه القطع بشكل كامل، ووصل البعض الآخر على شكل كسور جزئية، وتشهد دراسة هذه المجموعة المتفرّقة لتقليد محلّي تتجلّى ملامحه في تبنّي تأليف واحد، مع تعدّدية كبيرة في العناصر التصويرية، تثير أسئلة كثيرة أمام المختصين بفنون هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر مشهد صيد الأسود في عدد من هذه القطع، حيث يأخذ طابعاً محلياً واضحاً. يتميّز طبق الدُّوْر في هذا الميدان بزينته التي يطغى عليها طابع بلاد الرافدين، ويمثّل كما يبدو مرحلة انتقالية وسيطة تشهد لبداية تكوين النسق الخاص بجنوب شرقي الجزيرة العربية.