لماذا نقرأ نجيب محفوظ الآن؟

منافسات مستمرة بين دور النشر لنشر أعماله

إطلاق طبعة جديدة من أعمال نجيب محفوظ
إطلاق طبعة جديدة من أعمال نجيب محفوظ
TT

لماذا نقرأ نجيب محفوظ الآن؟

إطلاق طبعة جديدة من أعمال نجيب محفوظ
إطلاق طبعة جديدة من أعمال نجيب محفوظ

أعلنت دار الشروق المصرية الأربعاء الماضي عن إطلاق طبعة جديدة من أعمال نجيب محفوظ، رغم أن عقد الدار ينتهي في أبريل (نيسان) القادم، وقد جاء إطلاق الطبعة الجديدة عشية الإعلان عن فوز مكتبة «ديوان» بحقوق النشر الورقي والصوتي لأعمال الكاتب لمدة خمسة عشر عاماً، بعد منافسة استمرت خلال الشهرين الماضيين بين دور النشر المصرية للفوز بحقوق نشر عميد الرواية العربية بعد انتهاء عقد الشروق.
اللافت للانتباه أن المنافسة بين دور النشر استمرت، حتى بعد توقيع أم كلثوم ابنة الكاتب عقداً لمدة خمسة وثلاثين عاماً مع مؤسسة هنداوي الثقافية غير الربحية لإتاحة المؤلفات مجاناً على الإنترنت، ثم انتهى السباق لصالح مكتبة «ديوان» التي ستبدأ خوض تجربة النشر لأعمال الكاتب الكبير.
بلغ عقد هنداوي، ستة ملايين جنيه مصري، ولم يُكشف عن عقد ديوان، لكنه يدور حول تسعة ملايين. وهذا التنافس، ليس عبثاً لكنه يعكس ترسخ اسم نجيب محفوظ بوصفه رمزاً وطنياً، باختيار شعبي، ومن خلال إقبال على قراءته يتزايد يوماً بعد يوم، دون أي مساندة من سلطة رسمية أو سلطة نقد لم تعد موجودة، ولم تكن مع محفوظ قبل أن يفوز بنوبل.
وهذا يبرر السؤال: «لماذا نقرأ نجيب محفوظ الآن؟». جميعنا نتذكر سؤال إيتالو كالفينو: «لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟» وقد اقترح تعريفاً مبتكراً لذلك الأدب؛ فهو ما نقول إننا بصدد إعادة قراءته، خجلاً من إظهار أننا لم نقرأه، أو نقرأه للمرة الأولى. ربما كان في تنامي قراءة نجيب محفوظ شيء من ذلك الخجل، وشيء من الرغبة في الاعتذار المتأخر للرجل الذي تعرض فوزه بنوبل إلى غمز ولمز، وربما لم يزل هناك من يتصور أن وراء فوزه عام 1988 أسباباً سياسية تتعلق بموقفه من الصلح مع إسرائيل!
من بين ألقاب نجيب محفوظ، عميد الرواية العربية، وكاتب نوبل، لكن لقبه الأسبق والأكثر تغلغلاً هو «كاتب الحارة المصرية». كل هذه الألقاب القادمة من زمن سابق لا تعني شيئاً لدى أجيال جديدة من القراء اختلفت نظرتها للأدب، وتقرأ محفوظ بحدسها فحسب.
وليس نجيب محفوظ وحده كاتب الحارة المصرية؛ فالأدب المصري في معظمه غني بمحتواه الاجتماعي والسياسي، والعدد الأكبر من الروائيين إما يكتبون عن الحارة أو القرية، والأدب يُقرأ عند نشره بسبب ما يقوله بشكل ظاهر، لكنه لا يجتاز اختبار الزمن إلا بفضل المخفي فيه الذي قد لا يتكشف في القراءة الأولى.
والمخفي في روايات وقصص نجيب محفوظ كثير، تفاجئنا طبقاته من قراءة إلى أخرى. لا يقتصر الأمر على رواياته الكبيرة، بل يشمل جميع رواياته حتى تلك التي طالما نظر إليها النقد بوصفها من الروايات البسيطة.
لنأخذ على سبيل المثال، رواية «حضرة المحترم» التي كتبها عام 1975 عن كفاح بطلها الموظف عثمان بيومي، من التحاقه بوظيفة صغيرة في أرشيف إحدى المؤسسات الحكومية إلى موته البائس دون أن يستمتع بحلمه الوظيفي الذي أوقف حياته عليه.
لا ينظر النقد إلى «حضرة المحترم» باعتبارها من الروايات المحفوظية المهمة. وهي رواية مخادعة؛ على سطحها كل التفاصيل الدرامية التي تعشقها السينما والدراما التلفزيونية في أعمال نجيب محفوظ؛ فهناك الكفاح الملحمي لشاب من قاع المجتمع، ووصولية ونفاق الموظف، وقصص الحب والعلاقات الغرامية!
يكاد قارئ الرواية يرى ذلك الموظف التعيس ويحس أنفاسه، وربما أغرت واقعيته المتلقين الأوائل للرواية بالبحث عن موظف واقعي محدد يهجوه محفوظ من بين الموظفين الذين عرفهم في مسيرته الوظيفية. حكاية مروية جيداً عن عمر مديد قطع فيه ذلك الموظف درجات السلم الوظيفي من الدرجة الثامنة مترقياً إلى الأولى، يمكن أن نرى فيها هجائية للبيروقراطية وللنفاق، لكن نفاق عثمان بيومي وتملق رؤسائه لم يصل إلى حد الدياثة كحال محفوظ عجب في «القاهرة الجديدة». كان من متفوقي الشهادة المتوسطة «البكالوريا» عندما عُين في قسم المحفوظات، ثم اجتهد وحصل على شهادة الحقوق الجامعية في أثناء عمله، كما اجتهد في تعلم اللغات الأجنبية، الأمر الذي مكنه من أن يكون مترجماً وأن يكتب خطابات رؤسائه فتنال الإعجاب، ويكتب ديباجة ميزانية المؤسسة فيتبناها الوزير، وديباجة لميزانية الوزارة تدخل في تاريخ البيروقراطية لشدة جمالها!
هناك من يرى في الرواية تحذيراً من عبودية الوظيفة التي أتلفت حياة بطلها المثير للشفقة، وهناك التساؤل عن معنى الحياة وجدوى الركض فيها، وهذا معنى نجده لدى محفوظ باستمرار، وهذا صحيح كذلك، حيث تترك الرواية لقارئها تحذيراً كبيراً من نسيان الكينونة وتفويت فرص السعادة، من خلال سيرة هذا المتطلع النهم الذي لم يصل إلى حلمه إلا ليرحل بين يدي زوجة سرية لم يكد يهنأ بزواجه منها.
وتحت كل هذه الطبقات من التأويل التي تتيحها الرواية يبقى المغزى الفلسفي الأعمق في «حضرة المحترم».
يحاول محفوظ في هذه الرواية اختبار المذهب الإنساني في الفلسفة الذي يتفرع لاتجاهات مختلفة تشترك في أصل عريض ولد في إطار الثورة على تغول الكنيسة، جاعلاً من الإنسان مركزاً للكون، ومن الكفاءة طريقاً للتحقق، ومن الاستدلال العلمي طريقاً للحقيقة.
من الجملة الأولى في هذه «النوفيلا» نستشعر مجازاً مختفياً في اللغة يجعل من غرفة المدير أمثولة للحياة كلها ومن المدير شخصاً كلي القدرة: «انفتح الباب فتراءت الحجرة متنامية لا نهائية. تراءت دنيا من المعاني والمثيرات لا مكاناً محدوداً منطوياً في شتى التفاصيل. آمن بأنها تلتهم القادمين وتذيبهم». من تراءت له هذه الصور وآمن هذا الإيمان هو الشاب الجديد عثمان بيومي، وأما تصرفه أمام هذه اللانهائية فكان: «كالوليد عليه أن يذرف الدمع الغزير قبل أن يملي إرادته. وتلبية لإغراء لا يقاوم خطف نظرة من الإله القابع وراء المكتب ثم خفض البصر متحلياً بكل ما يملك من خشوع».
في مطالع الروايات يضع محفوظ مفتاحاً للصناديق المخفية بالداخل، وإلا كان الإخفاء عماءً. وفي رواياته المنذورة للأفكار الكبرى نطالع تلك اللغة المجازية، التي تأخذنا إلى أبعد من المشهد.
يرى عثمان المدير كائناً كلي القدرة، ويحاول أن يقف على سر السحر الذي يُخضع به الجميع فيجعلهم طوع إشارة منه «هذه هي القوة المعبودة وهي الجمال أيضاً - الرواية». وقد وضع في ذهنه أن يحوز هذه القوة، مدركاً أن الحياة قصيرة تتلخص في كلمتين: «استقبال وتوديع» لكنها في الوقت نفسه لا نهائية وتحتاج إلى إرادة لا نهائية كذلك.
سأله رئيسه حمزة السويفي في مناقشة عابرة: ما الهدف من الحياة في نظرك؟ وأجاب عثمان بيومي باعتزاز: الطريق المقدس. سأله الرجل: وما الطريق المقدس؟ أجابه: هو طريق المجد، أو تحقيق الألوهية على الأرض!
تحقيق ألوهية الإنسان على الأرض الذي يريده الإنسانيون، اختبره دوستويفسكي في «الجريمة والعقاب» عبر عبادة القوة الغاشمة، بينما يختبره محفوظ في «حضرة المحترم» عبر المهارة والصبر والحيلة، تمصيراً لطموح الإنسان السوبر، حيث يتناغم سعي بطل محفوظ مع ثقافة بيروقراطية مصرية تبدأ من الفراعنة.
بطل محفوظ يعي ذلك ويحدث به نفسه «الوظيفة في تاريخ مصر مؤسسة مقدسة كالمعبد، والموظف المصري أقدم موظف في تاريخ الحضارة. إن يكن المثل الأعلى في البلدان الأخرى محارباً أو سياسياً أو تاجراً أو رجل صناعة أو بحاراً فهو في مصر الموظف». هكذا يرينا نجيب محفوظ أن اختياره للموظف لتحقيق ألوهية الإنسان في محله، بينما انطلق راسكولنيكوف بطل دوستويفسكي من المحارب، فقد تماهى مع قوة نابليون عندما توجه لقتل المرابية، حيث يحق للمميزين القتل، من أجل أن يحققوا الانعطافات التاريخية الكبرى.
برأي عثمان تكمن مأساة الإنسانية (الآدمية بلغة الرواية) في أنها تبدأ من الطين، وعليها أن تحتل مكانتها بعد ذلك بين النجوم. ولكي تفعل ذلك لا بد من الفلسفة البراغماتية أو الذرائعية والنفعية، فهي التي تقود البطل لتحقيق مجده الشخصي. والبراغماتية في أبسط تعريفاتها هي انقلاب على فلسفة المفاهيم؛ فهي لا تصل إلى النتائج من خلال مفهوم تعتقد بصدقه وخيره، بل تبدأ بالنتائج، وتقيس على أساسها مفاهيم الخير والشر والحقيقة في الوسائل. الاختصار الأكثر ابتذالاً لهذه الفلسفة «الغاية تبرر الوسيلة» وقد كانت غاية قطع درجات الترقي الوظيفي هي الهدف الذي ينظر من خلاله عثمان إلى كل شيء بما في ذلك الحب والزواج والأسرة: «العروس الجميلة إما أن تكون هدية مجد مبكر أو ذريعة إلى المجد المستعصي» ويعود ليكرر المعنى نفسه بكلمات أخرى.
البطل يشعر بتفوقه وعزلته: «لطالما شعر بأنه بلا صديق حقيقي في الدنيا، وبأنه وحيد متعالٍ عن الضعف البشري!» وهذا بالضبط كان شعور راسكولنيكوف قبل أن يرتكب جريمته ثم يسعى بنفسه إلى العقاب. لكن محفوظ يوفر على بطله هذا المستوى من اختبار الألم، ولكن جعله يموت بعد أيام قليلة من وصوله إلى الهدف الذي استغنى به عن لذة العيش.
ولم يضع محفوظ بطله في تضاد مع الدين، إذ جعله يردد دائماً أن سعيه للمجد في ظل الله وبركته مقترباً في رؤيته من مفهوم «خلافة الإنسان لله على الأرض» وليس ألوهية الإنسان.
«بلزاك العرب» واحدة من تسميات محفوظ الشائعة، وتنطلق هذه التسمية من النظرة إلى السطح الواقعي لرواياته باعتباره وصافاً، لكنه أقرب إلى دوستويفسكي منه إلى بلزاك أو أي من الكلاسيكيين، من زاوية محاولاته الدائبة لتذويب التيارات الفلسفية في تمثيلات روائية وفي النظرة الدينية إلى الألم والحزن باعتبارهما ضرورة من ضرورات فهم الحياة. في أعمال دوستويفسكي يسعى الأبطال إلى الألم سعياً، لكن عثمان بيومي يتحمله فحسب، فنقرأ في «حضرة المحترم»: إن الله لم يخلقنا للراحة ولا للطريق القصيرة... وإن أحزان الدنيا توجد لا لتثبط الهمة ولكن لتشحذها، وبالحزن يتقدس الإنسان ويعد نفسه للفرح الإلهي.



قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب
TT

قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

عن دار «طيوف» بالقاهرة صدر كتاب «مرايا الفضاء السردي» للناقدة المصرية دكتورة ناهد الطحان، ويتضمن دراسات ومقالات نقدية تبحث في تجليات السرد العربي المعاصر عبر أجيال متباينة، من خلال عدد من النصوص القصصية من السعودية وسوريا والعراق ومصر.

ومن الدراسات والمقالات، كتبت الناقدة عن الكاتب السعودي حسين سنوسة الذي استطاع عبر أسلوب انتقادي تهكمي، ونظرة تحليلية، ملامسة زوايا إنسانية لافتة، وأن ينسج خيوطاً متينة لنصوصه في مجموعته القصصية «أقنعة من لحم» التي تبدأ بقصة بنفس العنوان حول شخص يستيقظ ذات يوم وقد تحول وجهه الوسيم إلى وجه كلب. ورغم هذا فإن أسرته وزملاءه في العمل لا يرون هذا الوجه، وإنما يرونه رجلاً وسيماً كعادته. وعندما ينعته أحد المتعاملين معه في العمل بأنه وفيّ مثل الكلب، يستيقظ في اليوم التالي وقد عاد وجهه وسيماً كما كان يراه دائماً، في الوقت الذي تُصدم فيه زوجته لأنها تراه بوجه هذا الحيوان الأليف.

وفي المجموعة القصصية «الرقص» للكاتبة السورية عبير عزاوي، تتضح دائرية الزمن، كما تقول، من خلال العنوان الذي يتماس مع الفضاء السردي في انفتاحه على معانٍ إنسانية عميقة تتآلف مع غربته وافتقاده الأحبة والمشاعر الدافئة ورغبته في التحليق بعيداً عن عالمه الأرضي الضيق والخانق، عبر نصوص مثل «الرقص»، «فالس في القمرية»، «راقصة الباليه»، «ارقص أزرق». ويشكل الرقص هنا بحركاته التعبيرية والدائرية إشارة سيميائية زمنية تسعى لتجاوز اللحظة الراهنة وتفتيتها بكل قسوتها، وربما نفيها من وعينا، لتكشف لنا تشكيلاً فنياً وإبداعياً يتناص مع انكساراتنا وأزماتنا المحفورة بداخلنا.

وفي قصة «الخروج عن السطر»، من مجموعة «مثل رتينة كلوب قديمة» للكاتب حاتم رضوان، تقول ناهد الطحان إن الشخصية الرئيسية تسعى إلى الخروج من عالمها المثقل بالروتين بغية التصالح مع الذات من خلال التسكع في شوارع وسط القاهرة، أكل ساندويتشات الفول في مطاعم شعبية، مشاهدة فيلم سينمائي قديم، النوم في أحد الفنادق. لكن تفشل الشخصية في تحقيق تلك الأشياء البسيطة على النحو الذي يرضيها؛ حيث يصطدم البطل بحالته الصحية من جهة وبفيلم غير جدير بالمشاهدة لأن الأفلام القديمة لم تعد تعرض، وبحريق في مكان ما، فيهرع لركوب التاكسي مختاراً العودة لعالمه الأول الروتيني الآمن، مستسلماً للراحة والطمأنينة اللتين لم يكن يدركهما من قبل.

وفي قصة «متحف الذكريات»، من المجموعة ذاتها، تشعر الشخصية الرئيسية - الجد بالاغتراب من جهة، واختيار العودة لعالمه الماضوي المألوف من جهة أخرى، المتمثل في الراديو القديم، التلفزيون الأبيض والأسود، ألبوم الذكريات، السرير الذي يرتاح في النوم عليه وغير ذلك. يجد الجد الملجأ الآمن في غرفته فوق السطح، التي كان استأجرها وهو طالب في الجامعة بإحدى البنايات القديمة والمجاورة لمدفن أحد الأولياء في حي قديم بما تحتويه من كنوز، فيعدها راحة لذاته من أزمته، وهو فعل يكرره كثيراً دون علم عائلته. وفي النهاية ينسحب للمرة الأخيرة من عالمه من أجل حضور خاص وأبدي في عالمه الماضوي، فيتوحد مع تلك الحالة ويموت على سريره القديم.

وفي قصة «الغرفة»، من مجموعة «بريد الآلهة» للكاتب العراقي ميثم الخزرجي، يتحول الراوي - البطل إلى معادل لكل المؤرقين الذين يهربون من واقعهم المرير وقسوة مصائرهم إلى أي واقع موازٍ أو عالم بديل. ويحاول الرسام هنا الهروب من المخاوف والأسئلة الوجودية، فيعود محاصَراً داخل لوحاته التي تنضح بعدمية مسجونة داخل حدودها، إزاء عالم واسع كبير ومنغِّص يصيب العصافير بالقلق، والناس بالهلع وكأنه يوم القيامة.

وفي قصة «صراخ متئد» من نفس المجموعة، يتحول الماضي إلى أسطورة، لأنه لن يعود مرة ثانية، وتصبح الأماكن أزمنة تحاصر حاضرنا أو واقعنا المفجع، أو كما قال الراوي على لسان أحد شخصيات النص: «الحياة سجن كبير، نحن نشيخ وأوجاعنا فتية».