على الرغم من أننا نزحف بتؤدة نحو عالم رقمي نظري، يشحنه تطور علمي سريع الإيقاع، وتسارع اكتشاف تقنيات غير معهودة تحبس الأنفاس، فإن رغبة الإنسان في أن يتسلى ويروّح عن نفسه الضاجّة بالأسئلة، تظل عارمة وملحّة... فهل من الغرابة أن تهفو نفس الإنسان إلى «الكرة»؟ بخاصة لعبة كرة القدم ذات الشعبية منقطعة النظير... كرة القدم التي هي اللغة المحلية - العالمية المشتركة بين جميع عشاقها المكتظة بهم الأركان الأربعة من الكوكب؟
نعم كرة القدم هي اللغة المحلية - العالمية بامتياز، يتحدثون بها دون تكلف ولا صعوبة ولا لكْنَة أجنبية. مئات الملايين عبر العالم من مختلف الألوان والثقافات والديانات والمعتقدات. لغة لا تُتَحدَّث باردة، بل حارة متقدة محمومة تتحرك لنطقها الحبال الصوتية فتتداعى لها سائر الأعضاء.
ثم لا شك أن العلم يعِدُ البشرية برفع حجب كانت مسدلة لدُهور، ويخترق من خلالها الأنماط التقليدية ويتجاوزها في طرق التعامل مع شؤون الحياة، فيصبح لكل كائنٍ واقعي كائنٌ افتراضي آخر يكمّله، ويمثله في حياة برزخية بين الواقع والافتراض، فليس ثمة مستحيل أن يقوم من خلال هذه الحياة بزيارة الكواكب أو التسوّق أو... لكن أغلب الظن أن أمنيات الإنسان الأقرب إلى قلبه هي أن يصبح عضواً افتراضياً في فريق لكرة القدم...
لا بد أنك وأنت تتفرج الآن على إحدى مباريات كأس العرب لكرة القدم ستقول: ياه... ما أغرب ذلك، سيكون رائعا فعلاً لو تحقق. ثم لماذا نعشق كرة القدم؟
صحيح ما أغربه... معك حق. إلا أن كل هذا لا يزيدنا إلا رغبة في الانكباب على تاريخ هذا الكائن البشري ومحاولة تحليله وتفسيره وفهمه.
فمنذ بدء خليقة الإنسان وضع القدر في طريقه كُرتين. بل رمى في شباكه كُرَتين. واحدة من طين وأخرى من ريح. يأتي إلى الوجود يجدهما تنتظرانه وهما تتدحرجان ضاحكتين بلؤم. كلاهما نزقة لا تثبت على جنب. كلاهما مدورة، زئبقية، قلقة ولا تستقر على ضلع. وبلا ضلع.
في البدء يسقط رأسه في الأولى: كرة الطين العظيمة المدهشة. الأرض. مسقط رأسه. ذات الأربعة مليارات ونصف المليار من السنوات، من طين وماء وحجر وشجر ودرّ في أحشائها كامن، وثروات عجيبة لا تُحصى ولا تُعد. تدوّخه كرة الطين. تتحرك تحت قدميه. تذكِّره بأنه ذاهب لا محالة نحو حتفه وعليه أن يركض، أو يرقص، أو يلعب، تُفقده توازنه تارةً وتارةً ترده إليه.
أما الكرة الأخرى، كرة الريح فقد جاءت من بعيد أيضاً، حين عبَرتْ فكرة طريفة خيالَ أجداده السابقين في بلاد الصين منذ القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، كانوا يرومون قليلاً من التسلية، فصنعوا كرة من القطن والريش، ولأن كرة الطين متحركة فقد وصلت كرة الريح في القرون الوسطى إلى بلاد النورماندي على أطراف بحر المانش ثم وضع لها الإنجليز قوانينها التي ستعرف تغييرات مع الزمن ومع نضج التجربة، وتبدأ أول مباراة بين فريقين في كرة القدم في بريطانيا 1860 لتصبح لعبة كرة الريح الأكثر شهرة بين الألعاب فوق ظهر كرة الطين، في مستطيل الشكل، حسب القانون رقم واحد لكرة القدم، بتسعين إلى مائة وعشرين متراً طولاً، وخمسة وأربعين إلى تسعين متراً عرضاً.
ها أنت ترى، لم تخفت دهشة البشر بسحرها منذ عصر الصين حتى أيامنا هذه ونحن نتفرج بكامل الحماسة على مباريات كأس العرب.
صحيح أنها من الجِلد ومشتقاته، وليس في أحشائها سوى الريح، إلا أنها إذ تلعب بها الأقدام فهي تلعب بالرؤوس.
يحدث أن تتحدى كرة الريح كرة الطين الأرضية فتعبث بقوانينها. ساخرةً منها تراها غريبة الأطوار، شُقت فوقها حدود وخرائط ملونة. خطوط طول وخطوط عرض وجمارك. وعليها متاريس، وأسلاك شائكة، وأسلحة فتاكة وجيوش جرارة، وحراس حدود، وحدود مرسومة بدقة وبغير دقة، ومسالك عبور ضيّقة وصارمة الحراسة. لكنها في غمرة كبريائها تنسى كرة الريح أنها كوِّرت على شاكلتها ومنها استوحى الإنسان، اللاعب بطبعه، فكرة تصميم كرة اليد، وكرة القدم، وكرة المضرب، والكرة الطائرة والزاحفة والعائمة، وأغلب الظن أنه استوحى منها تصميم القنبلة، والقنبلة الموقوتة، والقنبلة النووية...
ثم إن مباريات كرة الريح في رمزيتها إنما هي حروب صغيرة وهمية في حياة البشر منذ أزمنة بعيدة، تذكّر بالحروب الحقيقية الناشبة في أمكنة شتى من كرة الطين. حروب يوجد بها دوماً خاسر ورابح، ومتفرجون حزانى وآخرون يُبدون السعادة والانتصار. وكثيراً ما تتبدل الأدوار، فيضحى الرابح خاسراً والخاسر رابحاً، والحزانى القدامى يُشهرون سعادتهم في وجوه السعداء القدامى الذين أمسوا حزانى جدداً.
وإنها الحكمة؛ تقول جدتي الحكيمة: الحمد لله... من حكمة التنزيل أن الخرائط والحدود ليست مرسومة بحذافيرها في الكتب السماوية!
نعم... لعله تمرين لمدى قدرة البشر في تجربتهم العسيرة لقبول غيرهم من البشر، والتعامل الطيب مع غيرهم من المخلوقات على هذه الكرة الأرضية. لعله امتحان أبديٌّ للإنسان، لقدرته على التعايش وعلى الاختلاف، وتأقلمه مع المجموعات البشرية التي انقسمت منذ آدم أو منذ نوح عليهما السلام، كما تنقسم الخلية.
قدر الإنسان كرتان. يلعب الزمن بالأولى تدور في كون لا متناهٍ من الأجرام والكواكب والنجوم، يركلها فتدور في الفلك. أما الثانية فيلعب بها الإنسان، يركلها فتلعب به.
تمحو الثانية الحدود التي رسمها البشر على ظهر الأولى وتجمع الشمل حين تفرّقه السياسات. ويحدث أن تخلط أوراق السياسيين المطوية بحرص شديد، والمواثيق الرسمية وغير الرسمية التي تحفر هوة العداء بين الشعوب.
فلتُرفع كأس العرب نكايةً في جهالة حرب داحس والغبراء، وفي صحة المحبة بين الشعوب التواقة للحرية والحلم والمحبة والسلام. ولتُرفع الجسور فوق الهاويات التي حفرتها السياسة ونَزعات التفرقة، والصراعات.
ولأن لا أحد منّا يملك القوة التكنولوجية ولا مفتاح القوة النووية وأزرارها، أو كود أسلحة الدمار الشامل، فبكل بساطة لا مجال للاستعراض، فالقوة توجد في مكان آخر. إذاً فلنترك اللعبة المسلية تجمع الشعوب ولا تفرقها أكثر وتساعدها في الإقبال على الحياة ومواجهة مصاعبها ولو إلى حين.
لتُرفع «كأسُ العرب» نخْبَ الأخوّة والسّلام!
في محبّة كرة القدم وسحرها العابر للحدود
لتُرفع «كأسُ العرب» نخْبَ الأخوّة والسّلام!
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة