القبيلة في بؤر الصراعات العربية الراهنة

من الاستقرار إلى الاستنفار

القبيلة في بؤر الصراعات العربية الراهنة
TT

القبيلة في بؤر الصراعات العربية الراهنة

القبيلة في بؤر الصراعات العربية الراهنة

60 ألف فرد من أبناء القبائل اغتالتهم ميليشيات الحوثي في اليمن حتى أبريل (نيسان) 2014. وفي غرب العراق قُتل من عشائر البونمر في الأنبار 500 شخص حتى أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 2014، والعشرات من عشائر البوجبارة في نوفمبر من نفس العام، وتبعتها في السلسلة عشيرة البوفراج التي قتلت «داعش» 35 فردًا منهم يوم الجمعة 10 أبريل الماضي 2015. ويُذكر أنه سبق أن تعرضت عشائر الشعيطات الذين اعتبرهم تنظيم داعش طوائف ممتنعة في سوريا خلال أغسطس (آب) 2014 لحملات التنظيم ضدهم بعد اقتحام بيوتهم يومي 2 و3 أكتوبر (تشرين الأول) 2014. وفي ليبيا، أعلنت المنظمات الحقوقية مناطق ورشفانة وتاجوراء «مناطق منكوبة» يوم 20 سبتمبر (أيلول) 2014، بعدما استهدفتهم ميليشيات المتطرفين في ليبيا قبل هذا التاريخ.
عادت القبيلة والعشيرة إلى الواجهة من جديد في البؤر الساخنة على امتداد العالم العربي. لقد عادت في اليمن مجدّدًا مع «عاصفة الحزم» منذ 26 مارس (آذار) 2015، مع «حسم» الكثير من القبائل أمرها متصدّية للخطر المحدق بها وبمجتمعاتها ودولتها، كما سنوضح. كما بدأ توظيف القبيلة في الحرب على الإرهاب في عدد من الدول، وإن اختلفت جوهرية وطبيعة الدور من دولة لأخرى. ففي مصر جرى تأسيس مجلس للقبائل المصرية برعاية حكومية ورسمية في سبتمبر 2014، كما أعلنت هيئة تمثيلية للقبائل الليبية في مصر يوم 21 أكتوبر من العام نفسه.
القبيلة وحدة وحقيقة اجتماعية لكنها غيرية. وهي تحضر في المنافسة مع الآخرين وعند استشعار الخطر، وبخاصة، خطر الميليشيات المنظمة آيديولوجيًا أو اجتماعيًا، ويتأكد حضورها في المناسبات والمنافسات مع آخرين انتخابيًا وسياسيًا. ولقد عززت الثورة المعلوماتية هذا الحضور عبر ظهور مواقع وصفحات للقبائل المختلفة، تجمع أبناءها وأخبارها. ولكننا نرى أنه في غير مواضع الأزمات زادتها التواصلية تشظيًا ولم تزدها تماسكًا. منذ 21 سبتمبر الماضي وسقوط صنعاء بيد ميليشيا الحوثي وعلي عبد الله صالح، أقيمت المؤتمرات القبلية في اليمن في ظل تمددها المفزع وانتهاكاتها للحرمات الاجتماعية والسياسية. وعلى الرغم من توقيعها على التزامات وثيقة «اتفاق السلم والشراكة» في سبتمبر، وملحقه الأمني بعد ذلك، لم تظهر أي التزام فعلي حتى تاريخه بأي اتفاق أو وثيقة حوار.
وفي الشهر الأخير صعد دور القبائل والعشائر اليمنية إلى الواجهة من جديد قبل اندلاع «عاصفة الحزم» في 26 مارس الماضي ضد ميليشيات الحوثي وصالح، بعدما تأكد أنها مصرة على ابتلاع الدولة اليمنية وحصار قادتها واغتيال شرعيتها. وتتوالى مواقف القبائل معلنة عن وجودها ومقاومتها لهذه الميليشيات، نذكر منها على سبيل المثال ما كان أخيرًا من بيان قبائل الصبيحة في لحج وعدن وتعز عن تشكيلها قيادة عسكرية مشتركة، لمواجهة المتمردين الحوثيين. وهو ما أتى بعد أيام من إعلان مجموع قبائل محافظة إب في بيان مشترك عن انتهاء موسم الضيافة للانقلاب الحوثي، وتأييدها ودعمها لشرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي، وعاصفة الحزم ضد ميليشيات الحوثي الانقلابية التي عاثت في الأرض فسادًا حسب وصف البيان، وطالبت أبناء القبائل المنتمين لهذه الحركة الطائفية الانقلابية التخلي عنهم والتزام بيته والحياد.
كذلك أعلنت قبائل مراد في محافظة مأرب في بيانات متوالية، كان أولها عقب اجتماع قبلي في 24 نوفمبر الماضي أنها لن تقف مكتوفة الأيدي في حال أرادت أي جماعة مسلحة الاعتداء على محافظة مأرب، أو تحويل أراضيها إلى طريق للعبور لبث الرعب أو خلق الفوضى في المحافظة الغنية بالنفط، وانتهاك الميليشيات الحوثية الأعراف القبلية والقيم السماوية باعتداءاتها وإقدامها على عمليات السطو المسلح على منزلي محافظ مأرب الشيخ سلطان العرادة ومحافظ الجوف محمد بن سالم عبود، مع تأكيد القبائل على شرعية الرئيس هادي والشرعية في اليمن.
ويذكر أنه في 25 مارس الماضي أرسلت قبائل شبوة، حسب ما أعلن أحد شيوخها، 15 ألف مقاتل للدفاع عن عدن، وأحرزت تقدمًا ضد ميليشيات الحوثي التي سعت للسيطرة على عدد من المناطق التي استردتها منها، وخصوصا منطقة قبائل بيحان حيث سقط 60 عنصرًا حوثيًا أسرى بين أيديهم وغنمت قبائل بيحان عددًا كبيرًا من الأسلحة كان بحوزتهم!
ما بين الميليشيات الحوثية والقبيلة في اليمن، هو ما بين تلك الميليشيات والدولة والمجتمع. فاللون الطائفي والآيديولوجي الدامي الذي يحرّك الحوثيين التزم نهج الانتقام من مخالفيه متجاوزًا كل الأعراف القبلية والاجتماعية في المجتمع اليمني. وحصل هذا سواء في ذلك حروبه الست الأولى أو حربه الحالية السابعة، التي جرى فيها اقتحام منازل شيوخ القبائل في عمران وصنعاء والسطو عليها، وحرق مقرات عدد من الأحزاب، وقتل الحوثيين أسرا بكاملها من معارضيهم. بل لقد فاخر محمد البخيتي، المتحدث باسم ميليشيات الحوثي، بأن جماعته قتلت 60 ألف جندي وعنصر من القبائل اليمنية، ولم تنجح الميليشيا المسلحة والتنظيم المسلح في احتواء القبيلة في أي من تجاربه حتى تاريخه.
القبيلة بين الاستقرار الاستنفار
تبدو القبيلة في العصر الحديث، كوحدة اجتماعية أو حالة استقرار، لكنها تظل قابلة للاستنفار. ومن المهم التذكير بحالة استنفارها التي فجّرت الثورة السورية حين أساء نظام بشار الأسد وشبيحته التعامل مع شيوخ عشائر درعا في مارس 2011 وهم ذوو الأطفال الذين تجرأوا على كتابة شعارات نادت بسقوط الأسد على جدران مدارسهم حينئذ.
كذلك استنفرت العشائر ضد قمع نظام الأسد غير الرشيد في عموم سوريا، كما استنفرت ضد قمع نوري المالكي وسياساته التمييزية ضد المحافظات السنّية في غرب العراق، وفضه الاعتصامات بالقوة في يناير (كانون الثاني) 2013، واستهدافه بعض زعمائها قتلاً واغتيالاً. وهو ما اتخذته «القاعدة» في العراق – ثم «داعش» فيما بعد – مبررًا للتحرك والاستحواذ على حاضنة اجتماعية وسياسية للعودة من جديد. ونذكر أن الظهور الأول لأبي محمد العدناني، المتحدث باسمها، كان في هذا التاريخ. ثم كان ظهوره الثاني بعد السيطرة على مدينة الموصل وإعلان «خلافة» تنظيم داعش يوم 29 يونيو (حزيران) 2014 ليعود الصدام بالعشائر والقبائل من جديد بعد أن أسقطت «دولته» الأولى.
تثبت الحالتان العراقية واليمنية قابلية القبيلة للاستنفار في البؤر الساخنة، طائفيًا وسياسيًا، عندما تتيقن أنها باتت مُستهدَفة ويجري التمييز ضدها أو إهانة رموزها وأفرادها. وغالبًا ما تفشل التنظيمات الآيديولوجية والأنظمة الطائفية في استيعاب هذه الطبيعة المتغيرة، إذ أسست «القاعدة» في العراق «دولتها» عام 2006 عبر تحالف مع عدد من ممثلي العشائر، غير أن سوء ممارساتها وجموح سياساتها وتطرّفها المنفّر أسقطها ثانية عام 2007 إلى أن زالت نهائيًا عام 2008 بفضل «الصَّحوات» التي شكّلها وقادها أبناء العشائر نفسها، وهو ما يتكرّر الآن أيضًا.
تستمد القبائل والعشائر هذه الأهمية الخاصة في بؤر الصراعات ممّا يتوافر لها من مجال جغرافي وتاريخي واجتماعي خاص. وهي تبرز عراقيًا بالذات مع تجربة «الصحوات» (2007 - 2009) التي قضى عليها المالكي 2009 بعدما كانت قد أسقطت له «دولة القاعدة في العراق» وعاصمتها في الأنبار عام 2007.
ثم عادت القبائل والعشائر إلى واجهة الصراع مع «داعش» رغم تأخر احترام الوعد بتسليحها من قبل حكومة حيدر العبادي، الذي خلف المالكي بعد إزاحة الأخير، ورغم حرجها الطائفي ببروز جماعات طائفية شيعية مسلحة مثل «الحشد الشعبي» في مواجهة التنظيمات السنّية المتطرفة مثل «داعش» وأشباهه. ورغم بعض الإجراءات التي قد تعيق تفاعلها، كذلك الحكم الذي صدر بالإعدام عن المحكمة الجنائية المركزية في العراق بحق النائب السابق الدكتور أحمد العلواني. وهو حكم تحفّظت عنه قوى سياسية عدة في محافظة الأنبار في بيان لها غداة صدور الحكم، بينما كانت عشيرته تشارك العشائر الأخرى في خوضها الحرب على «داعش».

تجاوز القبيلة الحديثة للنظرة الخلدونية

قديمًا تناول ابن خلدون (توفي عام 808هـ - 1406م) التاريخ في «مقدمته» ومؤلفه التاريخي القيّم «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر» دور العصبية والقبيلة كعامل محرك للتاريخ وعنصر فاعل في قيام الدول وانهيارها في التاريخ العربي، متناولاً حكم البداوة والخشونة والطموح للسلطة. وهو ما كان واضحًا بالخصوص في بلدان المغرب العربي، ومنها الدولة الحفصية التي نشأ فيها (استمرت بين عامي 626 و981 هجرية). بيد أن «الدولة الحديثة» في العالمين العربي والإسلامي، التي تجاوزت منظومة التغلب والاستيلاء بدرجة كبيرة، تراجع هذا الدور قليلاً خلال العقود الماضية. وصارت القبيلة وحدة اجتماعية «متصالحة» مع الدولة ومختلفة بشكل كبير عن أشكالها الأولى البدائية، حيث أثرت فيها الآيديولوجيا والأفكار الحديثة، وأضعف روابطها التعليم الحديث، بجانب تزايد الاستقرار في الريف والمدن. وفّقت القراءة الخلدونية عند تصوّر قيام الدولة وسقوطها، كصراع بين طوري البداوة والخشونة والتحضر، إلا أن هذا التصوّر لا يصح في التعاطي مع الدولة الحديثة، التي عرفها العالم العربي منذ 200 سنة، وتشرب خبرتها منذ الوجود الاستعماري الغربي، ولقد استقرت مؤسساتها وصارت شرعيتها قائمة على الإنجاز وعلى مطالب عامة ومدنية في مجتمعات مختلطة قبليًا وطائفيًا. ثم إن تأثير مفهوم العشيرة والقبيلة هنا يظل قائمًا اجتماعيًا وثقافيًا وولائيًا، لكنه لا يحضر سياسيًا أو كجزء من صراع إلا إبّان الصراع أو ظهور الخطر الذي يهدّد القبيلة والمجتمع معها كقوة، مثل انتشار الفوضى وأعمال العنف أو الاستهداف الطائفي والآيديولوجي.

القبيلة والميليشيا التنظيمية.. فوارق ثلاثة

ثمة ثلاثة فوارق رئيسية بين القبيلة كوحدة اجتماعية فاعلة في الدولة الحديثة وبين الميليشيا التنظيمية والطائفية يمكن تحديدها فيما يلي:
1 - الميل للاستقرار السياسي: وهو يتعلق بالفعالية السياسية وهو أن مجال القبيلة يظل داخل إطار الدولة وتابعا لها في الغالب متى بقيت شرعيتها ومشروعيتها ولم تستنفرها طائفيا أو تمارس التمييز ضدها اجتماعيا، بينما تظل الميليشيا والتنظيم المسلح جبهوي البنية يستهدف الدولة والسلطة، خاصة في حالات ضعفها كما هو ماثل في راهن ما بعد الثورات والانتفاضات العربية.
2 - القبيلة غير عابرة للدولة: القبيلة في العصر الحديث محدودة بحدود الدولة، وهي إن كان من الممكن أن تتوزّع أو تتمدّد جغرافيا عبر المكان، فهي كفعالية سياسية لا تعبر الأوطان بل تظل داخل الحدود في الدولة الحديثة. هذا بعكس التنظيمات الآيديولوجية والطائفية التي تصطدم بفكرة «الوطن» و«الدولة»، وتكسر الحدود، نحو طموحات إقليمية أو أممية في كثير من الأحيان. بكلام آخر، مفهوم القبيلة، على الرغم من عراقته ورسوخه الثقافي الاجتماعي، المتماهي مع فكرة الحدود منذ القدم، تصالح مع فكرة «الدولة» والتعايش منذ وقت مبكر.
3 - الرابط غير الفكري: إن القبيلة، بخلاف التنظيمات الآيديولوجية والطائفية، تفتقر إلى الأدبيات التأسيسية والشحن الآيديولوجي التي تتسم بها هذه التنظيمات وتختزل شعارات ومقولات وأهدافا توجه وتعبئ عناصرها ضد «الدولة» أحيانا، وربما ضد «القبيلة» و«المجتمع» أحيانا أخرى، وتستعيض عن روابطها بروابط جديدة تهدّد وحداتها ومكوّناتها بالانشطار.
ختامًا، نرى أن هوية القبيلة كوحدة اجتماعية مستقرة وتكافلية هو الباقي منها دون التصوّر الخلدوني، لكنها تظل مستنفرة أوقات الخطر العام أو الخاص بها فقط، ولا يمثل تهديد التسييس أو الأدلجة لها عبر اختراق التنظيم أو الآيديولوجيا مهدّدًا أصيلاً لهذه الهوية بل هو تهديد عابر لا يبقى مع زمنيتها.

* كاتب وأكاديمي مصري



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.