مدرسة الإسكندرية السينمائية... حاضنة رواد التصوير

المدينة أعطتها الخصوصية والأجانب أسسوا بداياتها

مدرسة الإسكندرية السينمائية... حاضنة رواد التصوير
TT

مدرسة الإسكندرية السينمائية... حاضنة رواد التصوير

مدرسة الإسكندرية السينمائية... حاضنة رواد التصوير

في كتاب «مدرسة الإسكندرية للتصوير السينمائي» يسعى الباحثان المصريان إبراهيم دسوقي وسامي حلمي لإبراز العناصر التي تؤكد وجود مدرسة سكندرية لتصوير السينما في مصر، مختلفة في سماتها وخصائصها عن تلك التي تَميز بها مصورو السينما القاهريون. وقام المؤلفان من أجل ذلك بالتنقيب والبحث في أصول المدرسة السكندرية والتفتيش في جذورها خاصة وبداياتها على أرض المدينة، كما عملا على توثيق ملامح وخصائص وأسلوب التصوير السينمائي السكندري، وتتبعا بالتحليل والدراسة أفلام مجموعة من المصورين الأجانب الذين كانوا يقيمون هناك، وامتهنوا في بداياتهم التصوير الفوتوغرافي؛ أمثال دوريس، وأورفانيللي، وكياريني، وغيرهم من الذين أسسوا لنهضة وصناعة السينما المصرية مع تلاميذهم من المصريين، كما قام المؤلفان بتوثيق جهود مدير التصوير عبد الحليم نصر، صاحب الدور الرائد في هذا المجال، وكذلك شقيقه الفنان محمود نصر، وفي نهاية كل فصل من فصول الكتاب الأربعة قدم الباحثان فيلموجرافيا منقحة وشاملة ضمت أعمال رواد فن التصوير السينمائي في مصر، ووضعا فيها الكثير من الإضافات لأعمال مجهولة لم تكن معلومة من قبل.
ملامح سينما دوريس
تَركز الفصل الأول من الكتاب على إبراز ملامح سينما «دوريس» المعلم الأول للتصوير السكندري، والذي قدم فيلماً وحيداً هو «أنشودة الفؤاد»، وقال المؤلفان إن هناك الكثير من المشاهد الخارجية المميزة لمدرسة التصوير السينمائي ظهرت في هذا العمل، وتمثلت في أسلوبه في تصوير البادية أو الصحراء وغيرها من الأماكن، لافتين النظر إلى أن المصور السكندري من أصل إيطالي «أمبرتو مالافلاس دوريس» كان الأنشط والأكثر حركة بين فناني عصره، فقد جمع حوله مجموعة من المساعدين لم يظهروا بأسمائهم في الشرائط المصورة للأحداث العامة والرياضية والوطنية المختلفة، أما ما تبقى من وثائق فكان مجموعة من الصور الفوتوغرافية التي تؤكد حضوره في الحقل السينمائي والأفلام الروائية.
طبيعة التصوير السكندري
ورغم قلة المصادر التي استند إليها المؤلفان في كتابهما، فإنهما وعبر قراءة الكثير من قصاصات الصحف والوثائق حاولا تتبع إسهامات مجموعة من المصورين الإيطاليين والفرنسيين، من أجل إثبات مكانتهم ودورهم في صناعة السينما المصرية، وهي محاولة غير مسبوقة في ظل عدم وجود أرشيف وثائقي يحفظ التاريخ الماضي، وقد حاولا تقديم بحث تاريخي يردّ الفضل لأصحاب الريادة الأولى، ويوثّق أدوارهم المهمة في التصوير السكندري.
وذكر المؤلفان أن مصوري وفناني مدرسة الإسكندرية استفادوا من البحر والأفق المفتوح والطبيعة الكوزموبوليتانية، وهو ما ظهر في التصوير الخارجي، والبراح المتمثل في التعايش بين الأعراق والأديان، والذي يمكن ملاحظته في سينما أمبرتو دوريس، وألفيزي أورفانيللي، ومحمد بيومي، وتوجو مزراحي، وعبد الحليم نصر، كما أن هناك عنصراً آخر مهماً لم تتم الإشارة إليه هو الأداء التمثيلي من نجوم وكومبارس الإسكندرية، فقد كانوا مختلفين تماماً، عمَّا قدمه أقرانهم في الفترة نفسها من إنتاجات سينما مدرسة القاهرة، وقد أكدوا بأعمالهم مكانة سينما تميزت بسمات خاصة بهم عبر الأعمال الوثائقية والإخبارية التي أبدعوها طوال الفترة من عام 1897 حتى عام 1930، وكانت تتسم بكثافة الإنتاج وتعدده وامتلاك ناصية الحرفة وسرعة التنفيذ والابتكار.
وذكر المؤلفان أن الإسكندرية كانت تملك أكثر من معمل واستديو تصوير سينمائي وجيشاً من الفنانين والفنيين الذين أسهموا في إبداع ملامح سينمائية تخص المدينة وحدها، أسهم في تطويرها واستمرارها توفر التمويل الذي قدمه رجال إعمال لعبوا دوراً لا يقل أهمية في دعم صناعة السينما إنتاجاً وتمويلاً وساعدوا في خلق نوع من الرواج صاحَب عمليات الإبداع ودفع عجلة الإنتاج السينمائي نحو مسارها المتعارف عليه تاريخياً.
سمات مصوري الإسكندرية
وتركز أبرز فصول الكتاب الذي جاء بعنوان «أسطوات تصوير مدرسة الإسكندرية في السينما المصرية» حول سمات وملامح التصوير السينمائي الذي كان يعتمد على الضوء الغامر الساطع للشمس، وكانت الاستديوهات وقتها، وبسبب ذلك، تُبنى في حدائق القصور أو تُنشأ محاطة بالزجاج أو فوق أسطح البنايات. وقد استطاع المصورون رغم الإمكانيات الفقيرة أن يقدموا الشكل الأمثل للأشخاص، ويضبطوا حركتهم في إطار الكادر المتفق عليه، وقد دفعهم ذلك فيما بعد لاستحداث مهنة مدير التصوير لإدارة دفة العمل بدقة وحرفية لرصد كل من يتحرك أمام الكاميرا التي كانت تدار باليد.
هذه المهارات اكتسبها فنانو الإسكندرية، حسبما جاء في الكتاب، من خلال الخروج إلى الشارع وتسجيل الحياة اليومية عبر الشرائط الإخبارية، وهو ما ساعدهم على ترسيخ أقدامهم خلف الكاميرات التي اعتمدت على وجود إضاءة أمامية تعطي للصورة وحدة اتزان، وتمنحها تكويناً بصرياً مقبولاً لدى المشاهد، يعتمد على نقل البورتريه إلى الشاشة في اللقطات الكبيرة للتعبير عن الموقف من خلال انفعالات الوجه، وقد بدا ذلك واضحاً في لقطات متنوعة متوسطة أضاف إليها المصورون مسحة جمالية ظهرت في أفلام توجو مزراحي الأولى «المندوبان»، و«فرحات»، و«العز بهدلة».
وهناك سمات مهمة أخرى برزت لدى فناني الإسكندرية تبدّت في إتقان العمل بين الكاميرا وحركة الممثل معاً؛ وقد وجدها المصور ضرورة فنية وتقنية عند التسجيل في الشوارع، وكان ضرورياً استخدام الضوء بشكل أمثل من أجل تقديم صورة سينمائية مختلفة لم يشاهدها المتفرج من قبل مثل الملاعب ومحطات القطار والكورنيش الحديث الذي بُنِي بعد عام 1935، وميدان المنشية، وسيدي جابر، وطريق الحرية حالياً، ومحطة مصر سابقاً، وغيرها. كذلك وجد المصورون أن تنفيذ المشاهد الداخلية في استديو ألفيزي وتوجو مزراحي، يعتمد على ضوء بدائي في مكوناته، ويستند بشكل رئيسي إلى المكون الأساسي في الفوتوغرافيا بعد تطويرها وإضافة العواكس من خلال منهج مدروس يضمن إضاءة المكان والديكور وعناصر الممثلين. ويُلاحظ في إنتاجات تلك الفترة أن الاعتماد كان أساساً على التصوير الخارجي في أكثر من مكان، أما استخدام الاستديو أو البلاتوه فكان يتم عند الضرورة القصوى وفي عدد محدود من الديكورات البدائية.
أرقى نماذج التصوير
أما الفصل الثالث «عبد الحليم نصر... تلميذ الخواجة» فقد تخصص في سينما مدير التصوير عبد الحليم نصر، وتتبع حياته ونشأته، ومسيرته التصويرية منذ بدايته في استديو ألفيزي أورفانيللي معلمه الأول عام 1929، وحتى فيلمه «البحار» الذي قدمه بعد ست سنوات من التحاقه بالعمل في التصوير، وقد ظهرت موهبته مبكراً، وذاع صيته وكان وقتها لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره.
كانت الصور الإبداعية التي كوّنها عبد الحليم نصر عبر تاريخه الطويل، وصاغ من خلالها أعماله السينمائية متجددة، وتطورت عبر مسيرته، وزخرت في النهاية بعالمه الفريد المتمكن في التعبير عن النص الروائي بقماشة سينمائية تحمل الكثير من الدلالات التعبيرية الخاصة به ومن خلال عينه التي قدمت أفلاماً مثل «ميرامار» عام 1969 من إخراج كمال الشيخ، ربط نصر بين «بنسيون ميرامار» وبين الحالات الدرامية المختلفة التي تدور داخله بشخصياته المعقدة المتنافرة، وبين العالم الذي يموج خارجه، وقد ظهر أسلوبه الكلاسيكي في رسم وقائع الحركة عبر منظور الصور الخارجية، ليؤكد عمق وترابط الموضوعات المقدمة من الشخصيات مع حكايات الإسكندرية في الكازينوهات والصالات، والكثير من المعالم البارزة وصولاً إلى قلعة قايتباي.
ولم يغفل الكتاب الحديث عن فيلم «الأرض» الذي صوّره نصر أيضاً، وركز على اللقطة الأخيرة والحل البصري والنهاية المؤلمة والحزينة التي عرضها لتلك اليد التي تتمسك بالأرض بينما الدماء تنزف منها. كما تحدث الكتاب عن المصور محسن نصر الشقيق الثالث لعبد الحليم، والذي صوّر أعمالاً مبدعة للمخرج يوسف شاهين، تمثل علامات فارقة في تاريخ السينما المصرية منها «إسكندرية ليه» و«حدوتة مصرية» و«وداعاً بونابرت» فضلاً عن بعض أعمال المخرج علي بدرخان مثل «شفيقة ومتولي»، و«أهل القمة».
وتضمن الكتاب حديثاً مفصلاً عن المشاهير الأُوَل في التصوير السكندري ومنهم ديفيد كورنيل، وتوليو كياريني، وأشلي بريمافيرا، وجوليو دي لوكا، وفيري فاركاش، وكليليو شيشفيللي، ومحمود نصر، وبرونو سالفي، وكذا إبراهيم لاما وإبراهيم شيب، والذين كانوا نجوم البدايات التي تميزت بإنتاج الفيلم الروائي الطويل الصامت، وقد جعلوا معامل واستديوهات «ألفيزي» مدرسة لتعلم الطبع والإظهار والتحميض، وعملوا داخل القصور الملكية فترات طويلة، وقد ترك بعضهم المهنة مع دخول الحلفاء أراضي مصر في أثناء الحرب العالمية الثانية وغادروا البلاد، ومنهم من قضى بعض الوقت في سجن الأجانب، كما استمرت نخبة منهم حتى قيام ثورة يوليو (تموز) 1952، ثم هاجر معظمهم بعد تأميمات يوليو عام 1961، تاركين بصمات كبيرة وأعمالاً سينمائية مهمة.



العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف
TT

العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف

«ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المأكل والملاذ والمشارب وطيبها. والأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد. وإذا فسد الإنسان في قدرته، ثم في أخلاقه ودينه، فقد فسدت إنسانيته وصار مسخاً على الحقيقة».

لم أعثر على استهلال لهذه المقالة التي تتناول شؤون الحب والعشق في العصر العباسي أفضل مما كتبه ابن خلدون في مقدمة «كتاب العبر»، الذي رافق بالنقد والتحليل انتقال المجتمعات البشرية من طور إلى طور. ذلك أن أي قراءة معمقة لمآلات الحب وتعبيراته، لا يمكن أن تتجاهل الخلفية العقائدية والسياسية للسلطة الجديدة، إضافة إلى النسيج الفسيفسائي المعقد للمجتمع العباسي. ففي حين شكل العرب العمود الفقري للدولة الأموية، وطبعوها بطابعهم على المستويات كافة، بدت التركيبة السكانية للدولة العباسية خليطاً متنوعاً من الإثنيات والأعراق التي شملت، إضافة الى العرب، كلاً من الفرس والترك والروم وغيرهم. وإذ انخرطت هذه الإثنيات في نسيج الدولة الفتية، وصولاً إلى المشاركة الفاعلة في نظام الحكم، فإن كلاً منها قد أدخل معه عاداته وتقاليده، بحيث اختلط حابل المذاهب والمعتقدات بنابل الحياة اليومية. ومع الغلبة الواضحة للفرس في عقود الخلافة الأولى، كان لا بد للثقافة الفارسية أن تتغلغل في مفاصل ذلك المجتمع المترع بالتباينات، وأن تعمل على وسمه بطابعها الخاص، بما يتضمنه ذلك الطابع من عناصر وتقاليد محلية ما قبل إسلامية.

طه حسين

وإذا كان العصر العباسي الأول هو عصر التحولات الكبرى فهو في الوقت ذاته عصر المفارقات بامتياز، حيث تنافست على الأسبقية حركات التجديد والمحافظة، العقل والنقل، الفلسفة والفقه، كما تعايشت نزعات الزهد والتنسك مع نزعات التهتك والاستهتار. ولعل من الضرورة بمكان الإشارة إلى أن السلطة الحاكمة التي أحاطت نفسها برعيل حاشد من الشعراء والفلاسفة والفقهاء وعلماء الكلام والمترجمين، هي نفسها التي شرعت الأبواب واسعة أمام شتى صنوف اللهو والمجون واصطياد الملذات، كما لو أنها أرادت إرساء توازنٍ ما، بين روح الحضارة وجسدها، أو بين أثينا المعرفة وروما الرغبات.

ومع أن باحثين كثراً قد أسهبوا في تناول تلك الحقبة بالدراسة، فقد حرص طه حسين على رد ظاهرة العبث وطلب الملذات إلى عاملين اثنين، يتعلق أولهما بما تستدعيه الحضارة من مظاهر الترف والمجون، فيما يتعلق ثانيهما بدور العقل النقدي والفلسفي في زحزحة اليقين من مكانه، الأمر الذي دفع البعض إلى زرع بذور الشك في الثوابت، والحث على المجون والحياة اللاهية. وليس من الغريب تبعاً لحسين «أن يظهر في لهو هؤلاء وعبثهم، كل من مطيع بن إياس وحماد عجرد وابن المقفع ووالبة بن الحباب، إنما الغريب أن يخلو منهم ذلك العصر، ولا يظهر فيه سوى الفقهاء وأهل الزهد والنساك».

كما لا بد من ملاحظة أن التفاوت الاقتصادي والاجتماعي البالغ بين الحواضر الكبرى، ومناطق الأطراف الفقيرة، قد انعكس تفاوتاً مماثلاً في مراعاة سلّم القيم وقواعد السلوك وأحكام الدين. ففي حين تحولت عاصمة الخلافة، في ظل الرخاء والازدهار اللذين رافقا اتساع الدولة، إلى برج بابل جديد من الهويات والرطانة اللغوية وأشكال الفسق، كان ثمة في أحيائها الفقيرة، وفي الأطراف المتباعدة للإمبراطورية، من يتمسك بأهداب الفضائل والاعتدال السلوكي وأحكام الدين الحنيف. وإذا كان تصيد الملذات قد بات عنوان الحياة في بغداد في العصر العباسي الأول، فاللافت أن الخلفاء أنفسهم قد انخرطوا في هذه الورشة الباذخة، دامغين إياها بالأختام الرسمية، ومحولين قصور الخلافة إلى مرتع للشعر والمنادمة والغناء. وكان من الطبيعي تبعاً لذلك أن يحتفي المحظيون من الشعراء والمغنين بالحياة الجديدة أيما احتفاء، بعد أن وفرت لهم الإقامة في كنف البلاطات كل ما يحتاجونه من متع العيش وأطايبه وملذاته.

ومع اتساع رقعة الإمبراطورية المنتصرة، استطاعت مدينة المنصور أن تجتذب إلى حاناتها ودور لهوها أعداداً كبيرة من الجواري والقيان، سواء اللواتي جيء بهن كغنائم حرب، أو اللواتي اجتذبهن طوعاً ازدهار المدينة ورخاؤها المتسارع. وقد ازدهرت في تلك الحقبة تجارة الرقيق ودور النخاسة والقيان إلى الحد الذي جعل أبا دلامة يحث الشعراء الباحثين عن الربح على ترك الشعر والاشتغال بالنخاسة، كما يظهر في قوله:

إن كنتَ تبغي العيش حلواً صافياً

فالشعر أتركْهُ وكن نخّاسا

وهو عين ما فعله أبو سعيد الجزار في حقبة التدهور العباسي اللاحق، حين تأكد له أن الشعر، بخاصة الذي لا يمتهن التكسب في البلاطات، لا يطعم خبزاً ولا يغني من جوع، فاختار أن يهجره ويعمل في الجزارة لكي يتمكن من توفير لقمة العيش. وحين عُوتب على فعلته قال:

كيف لا أهجر الجزارة ما عشتُ

حياتي وأهجر الآدابا

وبها صارت الكلابُ ترجّيني

وبالشعر كنتُ أرجو الكلابا

على أن حرص الخلفاء والوزراء والنخب المحيطة بهم، على الإعلاء من شأن الأدب والفن، جعلهم يتطلبون من الجواري والقيان، مواهب ومواصفات لا تقتصر على شرطي الجمال والأنس، بل تتعداهما إلى الثقافة والاطلاع وحفظ الشعر، وصولاً الى نظمه. وهو ما حققته بشكل لافت كل من عريب جارية المأمون، ودنانير جارية البرامكة، وعنان جارية الناطفي، وأخريات غيرهن.

وحيث بدا الشعراء المشمولون برضا السلطة، وكأنهم قد أصابوا كل ما يتمنونه من الإشباع الجسدي، بات شعرهم تأريخاً شبه تفصيلي للحظات عيشهم وطيشهم وفتوحاتهم الغرامية، ولم يترك لهم الواقع المستجد، عدا استثناءات قليلة، ما يسوغ الحديث عن لوعة الحب أو مكابدات الفراق. وفي ظل هذا العالم الذي استقى منه مؤلفو «ألف ليلة وليلة» العديد من الليالي المضافة، لم يكن مستغرباً أن يفضل الشعراء والكتاب، القيان على الحرائر، ليس فقط بسبب جمالهن المغوي والمتحدر من مساقط مختلفة، بل لأن الجواري بخضوعهن الكامل لهم كن يشعرنهم بالخيلاء والاستحواذ الذكوري ومتعة التملك.

وإذا كان من التعسف بمكان وضع نزعات الفسق برمتها في سلة الشعوبية، فإن تجاهل هذا العامل والقفز عنه لن يكون إلا نوعاً من قصر النظر المقابل. ولا حاجة إلى تكرار المقطوعات والأبيات التي نظمها أبو نواس وغيره في ذم العرب والغض من شأنهم، بوصفهم نبتاً بدوياً غارقاً في التصحر، لا تمكن مقارنته بالمنجز الحضاري الفارسي. كما أننا لا نستطيع التغاضي عن الجذور الفارسية لنزعات الزندقة والمجون التي تجد تمثلاتها الأصلية في المجوسية والمانوية والمزدكية، حيث النيران التي لا تنطفئ لرغبات الجسد وملذات الوجود الأرضي. ولعلنا نجد في النقد العربي القديم والحديث، بدءاً من الجاحظ وأبي الفرج الأصفهاني وصولاً إلى شوقي ضيف، من يلقي المسؤولية الرئيسية عن «الهستيريا» الانحلالية التي اخترقت المجتمع العباسي في صميمه، على عاتق الفرس الراغبين في التقويض الكامل للحكم العربي. إلا أن من التعسف بمكان رؤية الأمور من الزاوية الشعوبية دون سواها من الزوايا. وإذا كان علينا الأخذ في الحسبان المصادر الفلسفية الأبيقورية لهذه الظاهرة، خصوصاً وأن العرب قد ذهبوا بعيداً في التفاعل مع الفلسفات اليونانية المختلفة التي وصلتهم عن طريق الترجمة، فينبغي أن نتذكر في الوقت ذاته أن المغنين والشعراء لم يكونوا بأجمعهم من الفرس. فمقابل بشار وأبي نواس وابن المقفع، كان في الجوقة عرب كثيرون، من أمثال زرياب ووالبة ومطيع بن إياس والحسين بن الضحاك وحماد عجرد ومسلم بن الوليد.

ومع ذلك فقد كان من السهل على الكتاب المتعصبين للعرب أن يضعوا هؤلاء جميعاً في خانة الشعوبية، أو يردوا بعضهم إلى أصول فارسية بناءً على الشكل وملامح الوجه. ففي ذروة التهاجي المتبادل بين أبي العتاهية ووالبة بن الحباب، لم يجد الأول ما يهجو به الثاني سوى أنه في شقرته البادية وسحنته البيضاء، أشبه بالموالي المدسوسين على العرب، فيسأل متعجباً:

أترون أهل البدو قد مُسخوا

شقراً، أما هذا من المنكر؟