رومن راديف... الجنرال «الأحمر» الذي درّبه الأميركيون

عزّزت نتائج الانتخابات الرئاسية في بلغاريا مواقع الرئيس رومان راديف الذي فاز بولاية ثانية بضربة ساحقة وجهها لخصومه بعدما حصد نحو ثلثي أصوات الناخبين.
المشهد شكّل اختراقاً كبيراً بالنسبة إلى الأوضاع في بلد شهد اضطرابات واسعة وانقسامات حادة، خلال السنوات الأخيرة، ووقف في منعطفات عدة أمام الخيار الصعب بين الاقتراب من روسيا أو مواصلة الاندماج الأوروبي.
لقد أعاد البلغار انتخاب الرئيس الذي أصبح شخصية محورية في حركة «التغيير» في أفقر بلدان الاتحاد الأوروبي. وفي هذه الجمهورية البرلمانية، تقوم الحكومة برسم السياسة ولا يتمتع الرئيس سوى بدور فخري، وفقاً للقانون الأساسي.
لكن رومان راديف، الذي كان حديث العهد في السياسة عندما فاز بالرئاسة للمرة الأولى، في العام 2016 - متجاوزاً بشكل مريح نسبة الحسم بعدما حصد في الجولة الانتخابية الثانية نحو 59 في المائة من الأصوات - أعطى المنصب خلال السنوات الخمس الماضية، حجماً مختلفاً، متجاوزاً قيود الصلاحيات الدستورية.
لقد نجح في فرض نفسه كشخصية لا يمكن تجاوزها في اللعبة السياسية.
فاز رومن راديف، أو «الجنرال الأحمر»، كما يلقبه البعض نظراً لقربه من الحزب الاشتراكي البلغاري، مجدداً برئاسة بلغاريا. ولقد حملته شعارات التغيير في الشارع إلى قمة الهرم السياسي ثانية، بعدما انحاز إلى مطالب الاحتجاجات على الفساد عمّت البلاد، وأضعفت مواقع خصومه.
وفي صيف 2020، خرج الجنرال الآتي إلى الرئاسة من المؤسسة العسكرية، والذي لا يخوله الدستور التعبير عن مواقف سياسية عادة، إلى الحشود رافعاً قبضته وسط ترحيب المتظاهرين من مختلف التيارات السياسية.
ونجح راديف بعد ذلك، بلعب دور حاسم في سقوط رئيس الوزراء المحافظ بويكو بوريسوف بعد عقد من توليه السلطة، ليفرض رؤيته لإدارة سياسة البلاد الداخلية والخارجية.
ودافع «رجل بوتين» في أوروبا، كما يلقبه الخصوم، عن مواقفه السياسية الموالية للكرملين، معلناً أنه «لا يمكن أن تكون روسيا نموذجاً نحتذي به في التنمية، لكنها لا يمكن أيضاً أن تكون عدونا»، داعياً إلى «موقف أكثر براغماتية للاتحاد الأوروبي تجاه موسكو».
- بطاقة هوية
ولد رومين غيورغييف راديف في بلدة ديميتروفغراد بجنوب شرقي بلغاريا يوم 18 يونيو (حزيران) 1963. وفي العام 1982 تخرج في مدرسة الرياضيات في هاسكوفو بميدالية ذهبية. ومنها شق طريقه في المؤسسة العسكرية طالباً في جامعة جورجي بنكوفسكي للقوات الجوية البلغارية التي تخرج فيها بتفوق في العام 1987.
بعد ذلك بخمس سنوات فقط، حدثت تغييرات كبرى في أوروبا والعالم، وسقط خلالها «جدار برلين»، وتبدلت خرائط النفوذ السياسي في العالم. وفي خضم التغيير خلعت بلغاريا عباءة الشيوعية وانتقلت إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو).
في حينه، كان الضابط البلغاري المتفوق قد تخرج في مدرسة ضباط السرب التابعة للقوات الجوية الأميركية في قاعدة ماكسويل الجوية في ولاية آلاباما. وبذلك دشّن طريقه ليغدو من أبرز الجنرالات في بلاده، ومن ثم، يواصل التدريب والتعليم في كلية دفاع وهيئة أركان راكوفسكي، حيث كان أيضاً من الطلاب المتفوقين؛ ما أهله للحصول على درجة الدكتوراه في العلوم العسكرية في مجال تحسين التدريب التكتيكي لأطقم الطيران ومحاكاة القتال الجوي.
راديف توّج مسيرته التعليمية في عام 2003، بالتخرج في الكلية الحربية الجوية في قاعدة ماكسويل الجوية في الولايات المتحدة بدرجة الماجستير في الدراسات الاستراتيجية مع مرتبة الشرف. ولم يمر وقت طويل بعد ذلك حتى غدا الجنرال راديف قائداً لسلاح الجو في بلاده.
- مرشح الرئاسة
في أغسطس (آب) 2016، رشح الحزب الاشتراكي البلغاري المعارض والحزب البديل للنهضة البلغارية راديف رسمياً لخوض الانتخابات على منصب الرئاسة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016. بعد ذلك سحب الحزب البديل للنهضة البلغارية ترشيح الجنرال راديف، لكن هذا لم يمنعه من تحقيق فوز في الجولة الثانية من الانتخابات على منافسته تسيتسكا تساشيفا دانغوفسكا، مرشحة حزب «مواطنون من أجل التنمية الأوروبية» في بلغاريا. وكانت هذه بداية الطريق نحو اتضاح معالم الصراع الداخلي بين الأطراف البلغارية المؤيدة للتقارب مع موسكو والأحزاب المتمسكة بطريق الاندماج الأوروبي.
- أي دور لموسكوفي وصوله للسلطة!
لقد تمسك الرئيس البلغاري المنتخب حديثاً، بمواقفه المثيرة للجدل حول سياسة بلاده، على الرغم من الحملات القوية التي شنتها أوساط بلغارية عليه، والتي وصلت إلى درجة «التأكيد» أن ترشيحه وانتخابه تمّا وفقاً لـ«سيناريو» أٌعد بدقة في أوساط الأجهزة الخاصة الروسية.
إذ تشير روايات إلى أن أصل الصعود القوي للجنرال راديف في عالم السياسة العليا، بدأ في يونيو 2016، عندما حضر نيكولاي مالينوف رئيس «الحركة الوطنية للروسوفيليين» (حركة تضم التيار المسيحي المطالب بالتقارب مع موسكو) في بلغاريا منتدى لحزب «روسيا الموحدة» الحاكم. وبعد ذلك بشهر واحد، طلب مدير المعهد الروسي للدراسات الاستراتيجية ليونيد ريشيتنيكوف (الذي مُنع لاحقاً من دخول بلغاريا لمدة عشر سنوات بعد اتهامه بصلات مع جهاز المخابرات الخارجية) من مالينوف وضع دراسة اجتماعية مكرّسة لملف انتخاب الرئيس البلغاري. ووفقاً للدراسة؛ جرى تحديد الصفات والمؤهلات المطلوبة بأن يكون المرشح الرئاسي القادر على الفوز «رجلاً لا يزيد عمره على 60 سنة. حقق مسيرة مهنية ناجحة، لكنه ليس مثقفاً. ليس مرتبطاً بهياكل الفساد. وشجاعاً في الدعوة إلى استقلال أكبر لبلغاريا في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي».
وكما تقول دراسات نُشرت لاحقاً حول هذا الموضوع، «أمكن العثور على الشخص المطلوب بسرعة كبيرة. وبالفعل في الأول من أغسطس، استقال الجنرال رومن راديف من منصب عسكري رفيع، وبدأت أوساط حزبية واجتماعية في التحدث عنه كمرشح رئاسي».
كان ملاحظاً في تلك الفترة أن مراكز البحث الروسية أعربت عن أمل عميق في «أن يقوم الرئيس البلغاري الجديد بإعادة توجيه البلاد، وتحويلها إلى مسار التقارب مع روسيا». ولكن مهما كان الموقف من صحة هذه الروايات، التي وجدت تداعيات مختلفة لاحقاً، من بينها أن مالينوف واجه اتهامات بالخيانة العظمى في بلاده والتجسس لصالح موسكو، فالثابت أن أداء راديف برز بشكل قوي. وبخاصة أنه خاض مواجهة شرسة مع خصومه من التيار المحافظ، واستخدم شعارات محاربة الفساد ببراعة لمواجهة تحركات رئيس الوزراء بوريسوف.
- مواجهة داخلية شرسة
وحقاً، منذ تولي راديف الرئاسة، فإنه واصل توجيه انتقادات لاذعة ضد بويكو بوريسوف؛ إذ اعتبره شخصاً يسمح بالفساد من خلال أسلوب قيادته «المتهور»، فضلاً عن محاولته تضييق الخناق على معارضيه السياسيين.
ولتعزيز هذا التوجه، استخدم راديف حق النقض مراراً ضد المقترحات التشريعية التي تقدم بها حزب بوريسوف «مواطنون من أجل التنمية الأوروبية» في بلغاريا إلى البرلمان البلغاري. وأصدر ما مجموعه تسعة عشر حق نقض في أول سنتين ونصف السنة من فترة رئاسته. وفي المقابل، اتهم بوريسوف في كثير من الأحيان راديف بالسعي إلى «تخريب عمل الحكومة».
في خطاب العام الجديد الذي ألقاه راديف أمام الشعب البلغاري عام 2019، والذي أُذيع على جميع القنوات التلفزيونية البلغارية تقريباً، ذكر أنه يرى حكومة بوريسوف غير ناجحة في معالجة الفساد. واتهمها بوضع البلاد في حالة ركود اقتصادي مع ارتفاع الأسعار وانخفاض الأجور؛ ما أسفر عن تقويض نزاهة الانتخابات، بالإضافة إلى تراجع القانون والعدالة.
وفي يونيو 2019، استخدم راديف حق النقض ضد عقد حكومي كبير لشراء طائرات مقاتلة عدة من طراز «إف - 16» من الولايات المتحدة بتكلفة تبلغ نحو ملياري ليف بلغاري. لقد انتقد راديف الصفقة بشدة متهماً الحكومة بالسلطوية، وأعرب عن اعتقاده بأن الحكومة وافقت على خفض درجات إلكترونيات الطيران والعتاد الحربي للطائرات، للحصول على سعر شراء أقل، وهو ما اعتبره أيضاً باهظاً جداً مقارنة بالقيمة الفعلية.
وتابع راديف، أنه، بصفته طياراً سابقاً وقائداً للقوات الجوية، لم يؤمن بأن الصفقة تصب في مصلحة بلغاريا. وبالنتيجة، رفضت الغالبية المؤيدة للحكومة في الجمعية الوطنية البلغارية حق النقض الذي تقدم راديف به، وجرى التوقيع على الصفقة رغم ذلك.
هذان المثالان يعكسان طبيعة المنافسة القوية وروح المواجهة التي سيطرت عملياً على كل الولاية الرئاسية الأولى لراديف في مواجهة التيار المحافظ في بلغاريا، قبل أن يستفيد بقوة من تدهور الوضع المعيشي الذي أسفر عن نزول مئات الالوف إلى الشوارع العام الماضي مطالبين بالتغيير وبسياسة واضحة لمكافحة الفساد وتحسين الأحوال المعيشية.
عندها فقط وجّه «الرئيس - الجنرال» ضربته القاضية ولعب دوراً حاسماً صيف العام الماضي في إسقاط حكومة بوريسوف. وساعد أكثر في ذلك، اندلاع صراع مباشر بين راديف وبوريسوف، نُشرت خلاله أدلة تدين رئيس الوزراء بالفساد، ورداً على ذلك، حرك رئيس الوزراء دعوى قضائية أسفرت عن مكتب المدعي العام بدهم وتفتيش الإدارة الرئاسية. ولقد حصل ذلك على وقع الاحتجاجات الغاضبة في الشارع، وبدا أن هذا الصراع عزّز أكثر مواقع راديف.
- الانقلاب على الغرب
رومين راديف، على الرغم من سنوات التدريب العسكري في الولايات المتحدة، يعد سياسياً موالياً لروسيا. وحقاً، تسبب ترشيحه للرئاسة مجدداً في «قلق عميق» في واشنطن وبروكسل (مقر الاتحاد الأوروبي و«ناتو»)... وفقاً لتقارير إعلامية غربية. ولعل ما يعزز هذا الكلام، أن الرئيس - الجنرال ربط مواقفه وتحركاته بتصريحات مثيرة، فهو أعلن غير مرة أن بلاده، على الرغم من كونها عضواً في «ناتو»، ارتكبت خطأً استراتيجياً بالابتعاد عن روسيا. وأردف «بلغاريا عضو في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، ولا بديل لنا. لكن هذا لا يعني أن علينا أن نخلق أعداء خارج إطار التعاون هذا. لا تعني أوروبا رهاب روسيا. الحقيقة هي أننا نعاني حالياً من خسائر اقتصادية».
وهنا، لا يخفى أن بلغاريا ترتبط فعلاً بعلاقات وثيقة مع موسكو. وفضلاً عن التعاملات التجارية الواسعة، يكفي القول إن هذا البلد الأوروبي يعتمد بشكل كلي تقريباً (أكثر من 95 في المائة) من وارداته من الغاز الطبيعي على الصادرات الروسية. بيد أن الأحوال الاقتصادية الهشة للبلاد، من بين أسباب كثيرة أخرى، لم تسمح بأن يكون لصوفيا صوت مسموع في السجالات السياسية الدائرة في أوروبا حول نمط العلاقة المطلوب مع روسيا.