فنزويلا: تشرذم المعارضة أهدى مادورو انتصاراً ثميناً

في اختبار الانتخابات الإقليمية للمزاج الشعبي

فنزويلا: تشرذم المعارضة أهدى مادورو انتصاراً ثميناً
TT

فنزويلا: تشرذم المعارضة أهدى مادورو انتصاراً ثميناً

فنزويلا: تشرذم المعارضة أهدى مادورو انتصاراً ثميناً

أسفرت الانتخابات الإقليمية التي أجريت يوم الأحد الفائت في فنزويلا عن ترسيخ سيطرة النظام اليساري الذي فاز مرشّحوه في 20 ولاية من أصل 23 ولاية، في حين لم تتجاوز نسبة الإقبال على الاقتراع 42 في المائة من السكان البالغين. وفي المقابل، للمرة الأولى منذ 15 سنة شاركت بعثة من الاتحاد الأوروبي في مراقبة هذه الانتخابات التي ما أن أُعلنت نتائجها الأولية حتى سارعت الولايات المتحدة إلى اتهام حكومة نيكولاس مادورو بتزويرها.
المعارضة، المدعومة من واشنطن، التي شارك بعض أطيافها في هذه الانتخابات للمرة الأولى منذ 4 سنوات، منيت بهزيمة قاسية، إذ دفعت ثمن عجزها عن تشكيل لوائح موحّدة ودعوتها إلى الامتناع عن التصويت. وهو الأمر الذي أدى إلى زعزعة ثقة نسبة عالية من المواطنين بها، وبالتالي، قرروا الامتناع عن المشاركة، يقيناً منهم بأن نتائجها لن تؤدي إلى أي انفراج في الأفق السياسي المسدود في فنزويلا منذ سنوات.
صرّح الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو في إطلالته الأولى للاحتفال بالفوز بعد صدور نتائج الانتخابات الإقليمية بقوله: «إنني أناشد الجميع، الفائزين وغير الفائزين، احترام النتائج والذهاب إلى الحوار من أجل إعادة الوحدة الوطنية».
أما بالنسبة للمعارضة، ففي حين لم يصدر أي تصريح بعد عن الزعيم الوازن في المعارضة إنريكي كابريليس، ظهر «الرئيس المؤقت» خوان غوايدو - الذي كان متوارياً عن الأنظار منذ شهرين - ليعلن قائلاً: «إن فنزويلا اليوم ما زالت تحت نظام يحاول التنكّر بشرعية لا وجود لها، لأن مادورو لا يزال قيد التحقيق في المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية».
وتابع غوايدو، الذي يعيش في العاصمة الفنزويلية كاراكاس، لكنه يتنقل باستمرار ولا ينام ليلتين متتاليتين في المكان نفسه، القول: «إن نسبة المشاركة الضئيلة لهي أوضح تعبير عن صمت المواطنين وانعدام ثقتهم بهذه الانتخابات. ومَن ينظر إلى المشهد السياسي اليوم يخرج بانطباع أن النظام يحظى بتأييد غالبية المجتمع، لكن الواقع هو عكس ذلك تماماً». ومن ثم، اتهم غوايدو الحكومة اليسارية بـ«إلغاء ترشيحات» وتمويل تنظيمات وأحزاب للمشاركة في الانتخابات تحت شعارات معارضة، بينما هي موالية للنظام.
مادور، من جهته، ردّ على كلام غوايدو متجاهلاً اتهاماته، قائلاً: «أمدّ يدي إلى جميع الفائزين في هذه الانتخابات كي نعمل سوياً من أجل فنزويلا وتحقيق الرفاه الجديد الذي سنبنيه معاً. لقد قال الشعب كلمته وحدّد الطريق نحو المصالحة».
جدير بالذكر أن غالبية الأحزاب والقوى المعارضة في المنفى كانت دعت إلى الامتناع عن المشاركة في الانتخابات. وقال الرئيس السابق لبلدية العاصمة أنطونيو ليديسما مشككاً بنزاهة الانتخابات: «مرة أخرى خسرت الديمقراطية في فنزويلا على يد النظام وطوابيره الخامسة».
- أبرز النتائج
أما على صعيد قراءة النتائج، فكانت من أقسى الهزائم التي أصيبت بها المعارضة في هذه الانتخابات هزيمتها المريرة في ولاية تاشيرا (غرب البلاد) المحاذية لجمهورية كولومبيا. إذ فاز في تاشيرا فريدي برنال، النجم الصاعد في الحركة الثورية التي أسسها الرئيس السابق هوغو تشافيز، والذي يرى فيه كثيرون المنافس الرئيس لنيكولاس مادورو داخل التيّار المؤيد للنظام. وكان برنال قد تولّى مرتين رئاسة بلدية العاصمة كاراكاس، كما سبق له أن ترأس جهاز الاستخبارات العسكرية الواسع النفوذ على عهد تشافيز. وهو يشرف منذ العام 2016 على هيئة توزيع المساعدات الغذائية في الأحياء والمناطق الفقيرة. وهذه الأحياء والمناطق تحوّلت بفعل الأزمة المعيشية الخانقة إلى الماكينة السياسية الأساسية التي يستند إليها النظام في خطط توسيع دائرة نفوذه وترسيخها في الأوساط الشعبية.
مقابل ذلك، تمكّنت المعارضة من انتزاع ولاية زوليا، وهي أغنى الولايات وأكبرها من حيث عدد السكان، هذا بعدما كان أنصار مادورو قد فازوا فيها خلال الانتخابات الماضية. ولقد قاد فوز المعارضة في هذه الولاية المتاخمة أيضاً لكولومبيا والتي توجد فيها ثروات نفطية كبيرة، مانويل روساليس الذي سبق له أن نافس هوغو تشافيز في الانتخابات الرئاسية عام 2006. وكانت مشاركة روساليس في تلك الانتخابات التي خسرها أمام تشافيز في حينها، أول محاولة جدّية للوحدة تقوم بها المعارضة التي ما زالت تتعثّر في رصّ صفوفها ضد النظام. وبعدها، في العام 2009 وجّهت النيابة العامة الفنزويلية تهمة الإثراء غير المشروع إلى روساليس، الذي لجأ إلى البيرو قبل أن يعود في العام 2015 ويُسجن لمدة سنة واحدة قبل الإفراج عنه.
أما في العاصمة كاراكاس، فقد تمكّن النظام من الفوز وتجديد سيطرته عليها. وكان الفوز بمنصب الحاكم في كاراكاس من نصيب وزيرة الداخلية السابقة الأميرال كارمن ميلينديز.
- فشل للمعارضة المعتدلة
يرى المراقبون أن المعارضة المعتدلة التي دعت إلى المشاركة في الانتخابات الإقليمية بهدف تجديد زعاماتها، فشلت في تحقيق هذا الهدف في ضوء الهزيمة القاسية التي منيت بها، والتي لن يكون من السهل أن تنهض منها في القريب المنظور. ويُبرز مراقبون من بين الأسباب التي أدت إلى هزيمة القوى المعارضة في هذه الانتخابات، أن مواقف زعمائها الأساسيين كانت تتباين بشدّة حول المشاركة في الانتخابات، وهو ما انعكس سلباً على ثقة المواطنين الذين عزفوا عن الإقبال على الاقتراع.
جدير بالإشارة أن القيادة السياسية للمعارضة لم تتخذ قراراً بالمشاركة في الانتخابات إلا قبل أسابيع قليلة فقط من موعد إجرائها. وهو ما حال فعلياً دون تمكنها من تشكيل لوائح موحّدة، وكذلك التوافق حول شعارات وبرامج سياسية متناسقة. ثم، بالإضافة إلى السببين المذكورين آنفاً، ثمة سبب ثالث مهم جداً هو شحّ الموارد الذي تعاني منه المعارضة.
ولدى مراجعة معارك بعض الولايات الكبرى، يتبيّن أن قوى المعارضة المتشرذمة خاضت الانتخابات بـ4 لوائح متنافسة. وهو أتاح الفرصة لفوز مرشّحي النظام بفارق بسيط وانتزاع ولايات رئيسة، كان من المفترض – ولو نظرياً - أن تفوز بها المعارضة. وهكذا، بهذه الهزيمة، تكون المعارضة قد فشلت أيضاً في محاولتها استنباط قيادة جديدة وأرضية صلبة تواجه بهما النظام بقوة في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
- اليسار القارّي يحتفل
كما كان متوقعاً سارعت القوى والأنظمة اليسارية في أميركا اللاتينية إلى الاحتفاء بنتيجة الانتخابات الفنزويلية التي وصفها مادورو بأنها «انتصار تاريخي للثورة». إذ صرّح الزعيم البوليفي ورئيس بوليفيا الأسبق إيفو موراليس مهللاً: «أقدم التهنئة للشعب الفنزويلي الشقيق بهذا النصر المبين الذي حققته الحركة التشافيزية. إنه انتصار الثورة البوليفارية في فنزويلا بقيادة الرئيس نيكولاس مادورو ضد الحصار الإجرامي الذي تفرضه الولايات المتحدة وعملاؤها السياسيون».
ومن كوبا، وجّه الرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل، الحليف الرئيس للنظام الفنزويلي: «تهاني الثورة الكوبية إلى الشعب الفنزويلي على هذا النصر الساحق». غير أن اللافت جداً كانت التصريحات التي صدرت عن حزب «بوديموس» اليساري (والشريك الحكومي حالياً) في إسبانيا، الذي تؤخذ عليه دائماً علاقاته الوثيقة بالنظام الفنزويلي. إذ قال «منظّر الحزب» والناطق باسمه بابلو إيتشينيكي: «من العلامات الإيجابية في هذه الانتخابات أن المعارضة شاركت فيها للمرة الأولى منذ سنوات. ونحن بانتظار معرفة تقييم بعثة المراقبة التي أوفدها الاتحاد الأوروبي لنتبيّن إذا كانت الانتخابات الإقليمية أجريت بشفافية وحريّة بعد الاتهامات التي صدرت عن بعض زعماء المعارضة بتزويرها».
- واشنطن تشجب وتدين
بعد إعلان النتائج الرسمية للانتخابات، طبعاً، بعكس ترحيب اليسار، صدر عن وزارة الخارجية الأميركية بيان يتهم نظام مادورو بأنه «حرم الفنزويليين مرة أخرى من المشاركة في عملية انتخابية حرة وعادلة». وكان وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن قد قال في تصريح له: «إن النظام الفنزويلي، خوفاً من صوت الناخبين الأحرار، تلاعب بشكل فاضح بالانتخابات ليضمن نتائجها قبل إجرائها».
واعتبر بلينكن «أن الاعتقالات الاعتباطية والمضايقات التي تعرّضت لها القيادات السياسية والمدنية، والملاحقات القضائية والأمنية التي استهدفت زعماء الأحزاب السياسية، ومنع مرشّحي المعارضة من المشاركة في الحملة الانتخابية، والتلاعب بتشكيل اللوائح، والرقابة المستمرّة على وسائل الإعلام... كل ذلك ألغى التعددية السياسية، وقضى على الآمال بأن تعكس هذه الانتخابات الإرادة الحقيقية للشعب الفنزويلي وتطلعاته».
وبعد إدانتها العملية الانتخابية، جدّدت الإدارة الأميركية دعمها لزعيم المعارضة خوان غوايدو، وعزمها على «مواصلة العمل مع الشركاء الدوليين لاستخدام جميع الوسائل الاقتصادية والدبلوماسية اللازمة للضغط على مادورو». وأردف بلينكن: «إن الولايات المتحدة تدعم الشعب الفنزويلي في رغبته وتطلعاته لاستعادة الديمقراطية بالطرق السلمية عبر انتخابات حرة وعادلة، واحترام كامل لحرية التعبير والتظاهر السلمي»، مؤكداً أن واشنطن لم تغيّر سياستها الداعمة لغوايدو الذي تعترف به أكثر من 60 دولة رئيساً مؤقتاً لفنزويلا.
- لا تشكيك أوروبياً
في موازاة الموقف الأميركي، نشرت البعثة التي أوفدها الاتحاد الأوروبي لمراقبة الانتخابات الفنزويلية تقريرها الأوليّ يوم الأربعاء الفائت، وجاء فيه «أن الانتخابات الإقليمية التي أجريت يوم الأحد الماضي في فنزويلا شهدت تحسّناً مقارنة بالانتخابات الثلاثة الأخيرة لجهة مشاركة أحزاب المعارضة الرئيسة. الأمر الذي يعتبر عاملاً أساسياً في إعادة بناء الحياة السياسية في البلاد». وذكرت النائبة البرتغالية في البرلمان الأوروبي ورئيسة البعثة إيزابيل سانتوس: «رغم ذلك ما زالت هناك شوائب هيكلية مهمة كانعدام استقلالية القضاء في البلاد، واستخدام النظام موارد الدولة لدعم مرشحيه في الحملة الانتخابية، ومنع المعارضة من الظهور في وسائل الإعلام الرسمية».
أيضاً أشار تقرير بعثة المراقبة الأوروبية إلى وجود «تحسّن يسمح بالتفاؤل في تشكيل هيئة انتخابية أكثر توازناً بمشاركة ممثلين عن المعارضة، ونظام الفرز واحتساب الأصوات الذي كان يخضع للتدقيق من هيئات مشتركة يشكّل خطوة في الاتجاه الصحيح».
هذا، ولدى تقديم سانتوس تقرير البعثة يوم الأربعاء في العاصمة الأوروبية بروكسل، قالت النائبة إنه «كان من المستحيل التلاعب بنتائج الانتخابات استناداً إلى ما عاينه المراقبون». ويذكر أن النظام كان قد اتخذ موقفاً غامضاً من البعثة الأوروبية. إذ كان يرحّب أحياناً بوجودها ثم يلمّح إلى أنها تشكّل تدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية لفنزويلا وانتهاكاً لسيادتها واستقلالها.
كذلك وصفت سانتوس موقف الرئيس الفنزويلي مادورو من البعثة بأنه «خاطئ». وأعربت عن أملها في أن يعدّله عند اطلاعه على محتوى التقرير، مؤكدة: «إن بعثات المراقبة ليست وسيلة للتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان، لأن الفنزويليين وحدهم، وجميعهم، هم الذين يقرّرون المستقبل السياسي للبلاد في عملية حوار سياسي كاملة».
- ملاحظات واستدراكات للبعثة الأوروبية لمراقبة الانتخابات
> أكدت النائبة البرتغالية الأوروبية إيزابيل سانتوس، رئيسة البعثة الأوروبية، أنها لا تأبه للضغوط من أي جهة كانت، وذكرت صراحة أن «الحملة الانتخابية اتسمت باستخدام موارد الدولة لمصلحة المرشحين الذين يدعمهم النظام. والهيئة الانتخابية الوطنية المكلّفة تنظيم الانتخابات ما كانت تملك الوسائل لردع هذا التصرّف، ما يبيّن ضرورة إصلاح هذه الهيئة ومدّها بالوسائل والصلاحيات اللازمة للقيام بمهامها»
أيضاً، في حين أشار تقرير البعثة الأوروبية إلى أن «الإطار القانوني للانتخابات في فنزويلا يستوفي غالبية المعايير والشروط الدولية»، فإنه أشار إلى «وجود بعض الشوائب الأساسية التي تؤثر على نزاهة العملية الانتخابية وشفافيتها. من هذه الشوائب أن النائب العام مخوّل، بواسطة إجراء إداري، تعليق مشاركة مرشّح في الانتخابات، كما حصل مع بعض مرشّحي المعارضة، وأيضاً مع عدد لا بأس به من حلفاء النظام الذين كانوا يرغبون في الترشّح بصورة مستقلة».
وجاء في التقرير «أن انعدام كل من استقلالية القضاء واحترام سيادة القانون، والاستنسابية في توزيع الموارد الرسمية، أثّرا سلباً على تكافؤ الفرص والشفافية والعدل في هده الانتخابات».
هذا، ومن المقرر أن تعود البعثة إلى فنزويلا في نهاية يناير (كانون الثاني) المقبل لتقديم تقريرها النهائي وتوصياتها لتحسين العمليات الانتخابية في المستقبل. وتجدر الإشارة أن هذه الانتخابات التي شاركت فيها المعارضة للمرة الأولى منذ 5 سنوات، هي الأولى التي تراقبها بعثة من الاتحاد الأوروبي منذ قيام الثورة البوليفارية اليسارية بقيادة هوغو تشافيز قبل 22 سنة. وإدراكاً من النائبة سانتوس بأن تقرير البعثة سيكون حاسماً في إضفاء الشرعية على العملية الانتخابية، أو نزعها عنها، قالت رئيسة البعثة الأوروبية: «إن التقرير لا يمكن أن يستخدم كأداة في التجاذبات السياسية، فهو ليس سوى مقاربة تقنية للعملية الانتخابية ووسيلة لتساهم في تحسينها. ومن جانبنا سنقاوم كل محاولة مغرضة لتفسير ملاحظات البعثة في خدمة مصالح وغايات حزبية لا علاقة لنا بها».
- هل سيطيل هذا النصر الانتخابي عمر النظام؟
> لا يشكّ متابعو الوضع في فنزويلا في أن نيكولاس مادورو سيستغلّ هذا الانتصار الانتخابي في الانتخابات لتعزيز موقعه في المفاوضات الجارية مع المعارضة في المكسيك، التي كان النظام قد قرر الانسحاب منها بصورة أحادية إثر تسليم أليكس صعب إلى القضاء الأميركي. ويذكر أن مادورو كان ترنّح في السلطة عام 2019 عندما أعلن الزعيم المعارض خوان غوايدو نفسه رئيساً مؤقتاً للبلاد بدعم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وما يزيد عن 50 دولة. غير أنه تمكّن لاحقاً من تجاوز تلك المرحلة. وفي الوقت الراهن، لا يبدو خروجه من السلطة قريباً، علماً بأنه منذ وصوله إلى الرئاسة بعد وفاة هوغو تشافيز، تراجع الاقتصاد الفنزويلي بنسبة 80 في المائة، وهاجر أكثر من 5 ملايين مواطن، بينهم عدد كبير من النخب العلمية والأكاديمية.
والواقع أنه منذ أكثر من 10 سنوات لم تعد السياسة بين الهموم الرئيسة للمواطن الفنزويلي الذي يرزح تحت وطأة أزمة معيشية طاحنة. هذا ما حصل بعدما أصبح أكثر من نصف السكان يعيشون على المعونات الغذائية، في اقتصاد يقوم على التداول المكشوف بالدولار الأميركي، إثر الانهيارات المتتالية للعملة الوطنية، حتى أصبح راتب الأستاذ الجامعي لا يكفي عائلة من 4 أشخاص لتأمين احتياجاتها الغذائية.
في العقد الأخير من القرن الماضي، كانت فنزويلا مقصداً للمهارات العلمية والمهنية من أميركا اللاتينية، ومن عدد من البلدان الأوروبية مثل إسبانيا وإيطاليا والبرتغال. لكن بعد عقدين من الثورة البوليفارية التي قادها هوغو تشافيز، ثم وريثه الحالي نيكولاس مادورو، أصبحت من أفقر بلدان المنطقة رغم الثروات النفطية والمعدنية الهائلة التي تختزنها.
يقول القيادي المعارض إنريكي ماركيز إن هذا المشهد الاقتصادي والمعيشي المأساوي، مضافاً إلى انسداد أفق الحوار السياسي واليقين بأن النظام لن يتراجع عن مواقفه، هو الذي دفع ببعض أحزاب المعارضة إلى المشاركة في هذه الانتخابات، إذا كان يعتبرها السبيل الوحيد المتاح حالياً للإطاحة بالنظام الديكتاتوري الذي يقوده مادورو وإعادة بناء المؤسسات الديمقراطية، أو في أسوأ الأحوال لإبطاء سرعة الانحدار نحو التدمير الذاتي الكامل الذي تسير فيه فنزويلا منذ سنوات.



ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.