في ظرف عربي غاية في الصعوبة، وعلى مفترق تاريخي يعيشه العالم، تصدر «مؤسسة الفكر العربي» بمناسبة العيد العشرين لانطلاقتها، كتابين علميين بمثابة هدية لكل معني بالتطوير والتحديث في المنطقة العربية. الكتاب الأوّل باللّغة العربية تحت عنوان: «العرب وتحديات التحول نحو المعرفة والابتكار»، والثاني باللغة الإنجليزية ويحمل عنوان:
«Empowering Knowledge and Innovation: Challenges for the Arab Countries»
المؤلفان هما: الدكتور معين حمزة، خبير ومستشار في السياسات العلمية والتنموية وبرامج البحوث والابتكار والموارد البشرية، والدكتور عمر البزري مستشار سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار، والتنمية المستدامة في الدول العربية والشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
يمثّل هذان الإصداران مرجعين موثوقين وموثّقين يمكن للمعنيين بشؤون البحث العلمي وأنشطة التكنولوجيا والابتكار في العالم العربي الإفادة منهما. والكتاب الإنجليزي ليس ترجمة عن العربي، كما يمكن أن يخيل للبعض، وإنما كتب كل منهما ليكون مستقلاً عن الآخر. وهما يغطيان الدول العربية كافة، ويجمعان بين التوصيف والتحليل والاستشراف المستقبلي.
من الصعب تلخيص الكتاب العربي، المكون من أكثر من 400 صفحة بحثية متشعبة الموضوعات، موجودة في 4 أبواب رئيسية. فكل نقطة تستحق التوقف عندها، لكنه يذهب إلى خلاصة مفادها بأن السنوات الأخيرة بين 2012 - 2018 شهدت تراجعاً نسبياً عما جرى تحقيقه من إنجازات، ولو كانت محدودة في العقد الأول من الألفية الحالية. ويمكن القول إن «نكسة أصابت الانطلاقة المعرفية في دول الخليج والمشرق والمغرب العربيين، تسببت بها عوامل داخلية وخارجية عديدة». فمن غير الممكن الحديث عن تطور جدي كمي ونوعي تم تحقيقه في السنوات الأخيرة. «وعدم التقدم والثبات في الموقع الضعيف أصلاً، يعني تراجعاً كبيراً، خاصة في ظل التطور المتسارع على الصعيد العالمي». هذا لا يعني بالضرورة أن التاريخ سيعيد نفسه وأن الفشل محتوم، لكن الشرط هو تغيير الاستراتيجيات، والتعلم من التجارب العربية الناجحة، كما الإفادة من التجارب الأجنبية بما يتناسب وطبيعة الخصوصية المحلية.
يقدّر عدد سكان العالم العربي بـ415 مليون نسمة أي 5.5 في المائة من سكان العالم، بنسبة كبيرة منهم من الشباب. وهذه بحد ذاتها نعمة، إذا ما أحسن استثمارها، لكنها تتحول إلى نقمة في العديد من البلدان العربية بسبب الأوضاع المتعثرة. ويقدر الناتج المحلي للدول العربية بنحو 6.8 تريليون دولار أميركي. ثروة حقيقية؛ تصطدم بمشكلات منها أن خطط تنويع مصادر الدخل لم تؤد بعد إلى النتائج المنشودة، يضاف إلى ذلك استشراء الفساد، مما يفاقم من تحديات التنمية.
يصف الكتاب منظومات البحث العلمي والتطوير التكنولوجي العربية بأنها تعاني من «ضبابية في الرؤية، وتنتهج سياسات قاصرة». ورغم تنامي عدد الجامعات العربية إلى حد غير مسبوق، فإنه من غير المؤكد أنها قادرة على تقديم الخدمات المجدية، حصوصاً أن كثيراً منها نشأت بغاية الربح؛ وبالتالي فما نحن بحاجة ماسة إليه هو «أنظمة رقابة نوعية، في شتى مؤسسات التعليم العالي العام والخاص».
إذا انتقلنا إلى مجال البحث العلمي، نجد أن تونس تتربع على رأس الدول العربية من حيث عدد الأبحاث، لكن في الوقت نفسه، كل ما نشر في العالم العربي يصل إلى 68 في المائة مما نشرته إيران وحدها. و5 دول إقليمية جارة لنا تنشر مجتمعة ضعف ما تنشره 22 دولة عربية. وإذا كان ثمة اهتمام عربي بالفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة، بحيث تمثل 90 في المائة من جميع المنشورات، فإن نسبة الأبحاث في مجالات البيئة وعلوم الأرض التي باتت غاية في الأهمية لا تتعدى 10 في المائة من مجمل المنشورات.
أما العلوم الإنسانية؛ فهي تستقطب الطلاب الأقل تحصيلاً، ولا تستثمر نتاجاتها في معالجة ما يجابه المجتمعات العربية من مشكلات اجتماعية. وكما في الأبحاث؛ كذلك في براءات الاختراع، حيث إنه رغم ازدياد عدد براءات الاختراع العربية، فإن عددها لا يقارن مع ما تسجله الدول المحيطة بنا. وتبين دراسة بيانية أن نسبة عدد خريجي العلوم الإنسانية والقانون والفنون في الدول العربية، أدنى من عدد خريجي هذه الفروع في دول الجوار؛ علماً بأن هذه الاختصاصات واستثمارها ضرورة «بما لها من قدرة كبرى على ترسيخ قيم الحرية والديمقراطية ودعم الوجدان الكلي للمجتمع... وتؤدي أدواراً مركزية في تحقيق التناغم، وتقوية أحاسيس الفرد بذاته وبالآخرين».
حول ما يخص الابتكار، فإن بلداناً مثل مصر والسعودية والإمارات والأردن والمغرب، حققت شركات ناشئة فيها إنجازات في مجال المعلومات والتكنولوجيا، إلا إنها، بحسب الكتاب، «ما زالت قليلة العدد، ومتواضعة التأثير على الناتج المحلي الإجمالي، وضمن المحيط الإقليمي».
يعالج الباب الأوّل من الكتاب أبرز التحدّيات التي تواجهها التنمية العربية الشاملة والمستدامة، والتوجّهات المأمولة لسياساتٍ واستراتيجيّاتٍ طموحة وفاعلة، تنفّذها أطرٌ شابّة منفتحة على آفاق العلوم والتكنولوجيا والابتكار. وفي الباب الثاني نقرأ عن أنشطة البحث والتطوير ومواردها ومخرجاتها والبيئات الحاضنة لاكتساب التكنولوجيا وآليّات تحفيز الابتكار، واستثماره في البلدان العربية. ويركز الباب الثالث على التحوّلات المعرفية المستجدة المرتكزة على التكنولوجيات الرقمية، والتكنولوجيا الحيوية والموادّ المستحدَثة.
أما الباب الرابع فهو عن كيفية تمكين المجتمع من التفاعل البنّاء مع المعارف العلمية وانعكاساتها على مختلف المستويات الاجتماعية والاقتصادية، وتتناول دور اللّغة العربية في امتلاك ناصية المعارف العلمية والتكنولوجية، ودور المرأة في حيازة هذه المعارف وتكوينها واستثمارها، وتعزيز الثقافة والإعلام العلمي العربيين. كما يتضمّن الكتاب خاتمة حول التحدّيات المعرفية في التحوّل نحو الابتكار، فضلاً عن ملحقٍ لأبرز أنشطة البحث والتطوير في 22 دولة عربية.
ويركز الدكتور البزري؛ أحد مؤلفي الكتاب، على أهمية «توفر الحكم الرشيد، وقيام الجهات التشريعية بمواكبة تنفيذ المبادرات العلمية والتكنولوجية. وأن يقوم الإعلام بدوره في نشر المعارف الثقافية والتقنية». ويشدد على ضرورة «تبني منظومات تضمن أخلاقيات سليمة في مضمار العلوم والتكنولوجيا، وهو ما نفتقد إليه بشكل كبير».
ومن الموضوعات المهمة، تدريس العلوم باللغات الأجنبية. وهو ما قد يكون مفيداً للطلاب بصفتهم أفراداً يسهل أمامهم فرص العمل أو كسب المال، لكنه رهان خاسر على مستوى الاقتصاد العام؛ إذ إن المعرفة العلمية في هذه الحالة، تبقى حكراً على النخبة، ولا تعمم على الناس. فيما التدريس باللغة العربية في الجامعات للمواد العلمية، يتيح للعلوم أن تنتشر وتنتقل، وهو ما يحقق تفاعلها. ومن المؤسف أن يكون فرق بين الدساتير التي تؤكد على أهمية اللغة العربية والممارسات التي لا تترجم ذلك على نحو كافٍ.
ويحذر مؤلف الكتاب الدكتور حمزة بأن «العرب يواجهون تحدياً مصيرياً. وأن الإنتاج العلمي جيد وموجود، لكنه ليس كافياً، ومشكلته الرئيسية أنه لا يترجم بتطبيقات مفيدة ومحسوسة»، وإنما يبقى نظرياً وفي الأدراج.
وإذا كان الكتاب العربي الذي أصدرته «مؤسسة الفكر العربي» ضرورة لكل باحث معني ببيئته، فإن الكتاب الإنجليزي «سيفسح في المجال أمام المؤسسات والمنظمات الدولية أن تتعرف على أوضاع العالم العربي» حسب البرفسور هنري العويط، مدير عام «مؤسسة الفكر العربي»، الذي يرى أن «الكتاب سيكون مفيداً أيضاً للجامعات التي نتعاون معها ونقيم معها شراكات للاطلاع على محاوره، وفهم حاجات العالم العربي».
وقد أقيمت ندوة حوارية ببيروت في «جامعة القديس يوسف» لمناقشة محتوى الكتابين، كما أن ندواتٍ إضافية ستعقد في بلدان أخرى.
كتابان يرسمان «خريطة طريق» علمية لنهضة عربية
في الذكرى الـ20 لانطلاقة «الفكر العربي»
كتابان يرسمان «خريطة طريق» علمية لنهضة عربية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة