مذكرات أولغا بيرغولتس تحفر في أيام الستالينية

مذكرات أولغا بيرغولتس  تحفر في أيام الستالينية
TT

مذكرات أولغا بيرغولتس تحفر في أيام الستالينية

مذكرات أولغا بيرغولتس  تحفر في أيام الستالينية

أكثر من ثمانمائة يوم خلال الحرب العالمية الثانية، عانت مدينة لينينغراد من حصار ساحق على يد القوات الألمانية. مات ما يقرب من مليون مدني، معظمهم من الجوع. ووسط الدمار كانت أولغا بيرغولتس تقرأ قصائدها على محطة إذاعية واحدة متبقية، حاثّة المستمعين على ألا يفقدوا الأمل. عندما بدأ الحصار كانت البلاد قد عانت بالفعل من عقود من الثورة والحرب الأهلية والانهيار الاقتصادي وعمليات التطهير التي قام بها ستالين. بيرغولتس نفسها تعرضت للاعتقال، والإجهاض بعد تعرضها للضرب في أثناء الاستجواب، ووفاة زوجها وأطفالها، خلال عمليات التطهير في أواخر الثلاثينات.
كتبت بيرغولتس مذكراتها «نجوم النهار» الصادرة ترجمتها لأول مرة إلى العربية عن دار «المدى» بترجمة عدنان مدانات، بعد وفاة ستالين، فاحتفلت بمُثُل الثورة وبطولة الشعب السوفياتي، وفي الوقت نفسه انتقدت الرقابة على الكتاب وسجلت شكوكها ويأسها. فكان الكتاب بمثابة سيرة ذاتية لمؤلفة مهمة من الحقبة السوفياتية.
وأولغا بيرغولتس شاعرة سوفياتية بارزة، عُرفت بجرأتها. تم القبض عليها وتعذيبها خلال عمليات التطهير في أواخر الثلاثينات. ولكنها في أثناء حصار لينينغراد في الحرب العالمية الثانية، أصبحت الصوت المحبوب لراديو لينينغراد، وكان لخطاباتها صدى لدى مواطنيها وقد أسهمت في شهرتها الأدبية.
بدأت بيرغولتس مذكراتها «نجوم النهار» فور وفاة ستالين، في نثر غنائي مليء بالشك بل حتى اليأس.
لم تكن تتحدث كفرد، ولكن كممثلة لجيلها -الجيل الذي وُلد في أوائل القرن العشرين والذي نشأ في عز الثورة. ويشكل العنوان «نجوم النهار» استعارة مجازية لجهودها في قول حقيقة جيلها، وسرد انتصاراته وأحزانه. تكتب عن طفولتها: «تعلمت عن نجوم النهار. فبسبب شروق الشمس يمكن رؤيتها منعكسة في المياه الراكدة للآبار العميقة».
ويكمن أيضاً اعتبار «نجوم النهار» نصّاً روائياً على شكل سيرة مفعمة بالحسّ الشعري والإنساني العميق، تستعيد فيه الكاتبة حياتها بأكملها بصدق منذ اللحظات الأولى لوعيها وهي طفلة. وهي تعد هذا الكتاب كتابها الأهم، كما تقول في أحد أهم فصول كتابها، المعنون «الكتاب الرئيس»: «إنه حلم كلّ كاتب يظل يسعى طوال حياته لإنجازه».
في طفولتها، كانت أسرة أولغا بيرغولتس تعيش في منزل قديم في ضواحي نيفسك. وتسببت الثورة الروسية والحرب الأهلية في إبعاد والدها الطبيب الجراح عن حياته المدنية، إذ اضطر للالتحاق بالجبهة. واضطرت بقية الأسرة بسبب الجوع وغياب الأب إلى الرحيل إلى أوغليتش حيث استقروا في غرفة باردة كانت ذات يوم صومعة في دير قديم. عانت أولغا مع أسرتها كلّ هموم زمن الحرب بما فيها نقص الغذاء والفقر. بعد عودته من الحرب، أعاد الأب أسرته إلى بتروغراد.
وتتحدث بيرغولتس عن انضمامها في الخامسة عشر من عمرها إلى نادي العمال، حيث كان الشبان والمراهقون الذين يتدربون على كتابة الشعر، ويلتقون مع كبار الأدباء، ومنهم الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي، الذي كان يلقّب بـ«أستاذ الكلام الشعري». كانوا يتقاسمون معه خبرته، ويستمع هو إلى قصائدهم، ويقدم لهم النصيحة. ثم بدأت بيرغولتس بكتابة المقالات والتحقيقات والقصص. لكن هذه المرحلة من حياة الأديبة ابتُليت بسلسلة من الحوادث المأساوية. ففي عام 1937 شنّت الصحف السوفياتية حملة ضد مجموعة من الأدباء بتهمة «أعداء الشعب» ومن ضمنهم زوجها السابق بوريس كورنيلوف. تبع ذلك فصل أولغا بيرغولتس من اتحاد الكتاب، وبعد ثلاثة أشهر جرى فصلها من العمل واعتقالها لينتزعوا منها تحت التعذيب اعترافات تُدينها، وهذا ما كان يعرّضها لعقوبة الإعدام بالرصاص. ثم جاءتها المساعدة من حيث لا تتوقع من الكاتب ألكسندر فادييف صاحب رواية «الحرس الفتي»، والذي انتحر بعد سنوات بسبب إحساسه بالذنب تجاه الأدباء الذين اضطهدوا أيام ستالين.


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما
TT

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما» Simon Schama، في كتابه «قصة اليهود» The story of the Jews الصادر عن دار نشر «فينتغ بوكس» في لندن Vintige Books London، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين في دلتا النيل في مصر سنة 475 قبل الميلاد حتى نفيهم من إسبانيا سنة 1492 ميلادية. وهو يذكر أنهم في البداية كانوا عبيداً في مصر وطُردوا بشكل جماعي، وهم حتى اليوم يحتفلون بذكرى تحررهم من العبودية في مصر. وقد أمرهم إلههم بعدم العودة إلى مصر لكنهم عصوا أمره وعادوا مراراً وتكرارً إليها. واعتماداً على أسفار موسى الخمسة، وعلى آثار عمليات التنقيب في مصر، كانت بين يدي الكاتب مادة خصبة أعانته على جمع أدلة تفيده في نثر كتابه الذي يتناول مدة زمنية أسهمت في تكوين مصير مَن حُكم عليهم بالعيش حياة الشتات في الشرق والغرب.

ويذكر الكاتب أن اليهود عاشوا حياة الشتات، وأنهم أقلية مسحوقة دائماً بين قطبين، وبين حضارتين عظيمتين؛ بين الحضارة الأخمينية وحضارة الإغريق، بين بابل ووادي النيل، بين البطالمة والسلوقيين، ثم بين الإغريق والرومان.

وهكذا عاشوا منغلقين في قوقعة في أي مجتمع يستقرون فيه ، فمثلاً فترة انتشار الإمبراطورية الإغريقية وجدوا صعوبة في الحصول على المواطَنة الإغريقيّة لأنها كانت تعتمد على ثلاث ركائز: المسرح، والرياضة (الجيمانيزيوم) التي لا يمكن أن تتحقق من دون ملاعبَ العريُ التامُّ فيها إلزاميٌّ، الشيء الذي لا يتماشى مع تعاليم اليهودية، والدراسة الأكاديمية، التي لا يمكن أن يصلوا إليها.

صحيح أنهم عاشوا في سلام مع شعوب المنطقة (سوريين، وإغريقاً، وروماناً، وفُرساً، وآشوريين، وفراعنة، وفينيقيين) لكن دائماً كانوا يشعرون بأن الخطر على الأبواب، حسب الكاتب، وأي حدث عابر قد يتحول إلى شغب ثم تمرُّد ثم مجزرة بحقهم. ومن الطبيعي أن تتبع ذلك مجاعة وصلت أحياناً إلى تسجيل حالات أكل الأحذية وحتى لحوم البشر، ومذابح جماعية تشمل الأطفال والنساء وتدنيس المقدسات. ويضرب الكاتب هنا مثلاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها القديس ياسون على الملك السلوقي أنطيوخس إبيفانيوس الرابع، فتحول هذا الأخير إلى وحش، وأمر بقتل كل يهودي في شوارع القدس وهدم المقدسات، وقدَّم الخنازير أضحية بشكل ساخر بدلاً من الخراف، وأجبر اليهود على أكل لحم الخنزير، وأخذ آلاف الأسرى لبيعهم في سوق النخاسة. وبعد فترة استقرار قصيرة في القدس، وأفول الحضارة الإغريقيّة لتحل مكانها الحضارة الرومانية، ذهب وفد من اليهود إلى الملك الروماني لمناشدته منح اليهود في القدس حكماً ذاتياً.

طبعاً هذه كانت مماطلة لا تُلغي وقوع الكارثة لكن تؤجلها. حتى إن الملك غاليكولا أمر ببناء تمثال له على هيئة إله وتنصيبه وسط معبد اليهود الذين كانوا يَعدّون ذلك من الكبائر.

حتى جاء اليوم الذي وقف فيه على أبوابها الملك الروماني بومبي الكبير فارضاً حصاراً دام عامين انتهى باصطحابه الأسرى اليهود مقيدين بالسلاسل لعرضهم في شوارع روما، تلت ذلك هجرة جماعية كانت آخر هجرة لهم. وهم فسروا ذلك بوصفه عقاباً إلهياً «لأنه لا يمكن أن يكون الله قد تخلى عنهم في وقت السلم كما في وقت الحرب. لأن السلم لم يكن سلم عزٍّ بل كان ذلاً».

وفي أوروبا العصور الوسطى، كان مفروضاً عليهم ارتداء شعار خاص لتمييزهم أيضاً عن باقي الناس، ومُنعوا من العمل في الوظائف الرسمية الحكومية مثل مهن الطبيب والمحامي والقاضي، حتى المهن الحرفية تم حرمانهم من التسجيل في نقاباتها. هذا بالنسبة ليهود الأشكنازي، أما بالنسبة ليهود إسبانيا السفاردي، فقد أصدرت الملكة إيزابيلا سنة 1492 (نفس سنة خروج الإسلام من إسبانيا) قانوناً لطرد اليهود من إسبانيا، ومنع اليهود من ارتداء الملابس الفاخرة، والتجول فقط في النهار، والعيش في أحياءً منعزلة، كما لا يحق لهم العمل مع المسيحيين أو العكس أو يكون عندهم خادمة مسيحية مثلاً، ومنعهم من امتلاك عقارات أو منح القروض إلا بشروط معينة...

لكن ما سبب هذا الاضطهاد بحق اليهود؟

حسب الكاتب، هناك سببان: أولاً وشايتهم إلى الملك الروماني وتحريضه لمحاكمة يسوع وهتافهم وقت صلبه «اقتلوه... اقتلوه»، أما السبب الآخر فهو أن الملكة إيزابيلا وضعت أمام اليهود الاختيار بين ثلاثة احتمالات: اعتناق المسيحية أو القتل أو الطرد، في حملةٍ لتطهير البلد من اليهودية. القليل من اليهود اعتنق المسيحية؛ خوفاً، وكان يطلق عليهم اسم «كونفرتو»، أو «المسيحيون الجدد»، لكن في السر استمروا في ممارسة طقوسهم اليهودية، وكان يطلق عليهم اسم «Marranos».

كتاب «قصة اليهود» لم يقتصر فقط على ذلك، فإلى إلى جانب فصول عن الحملات والحروب، هناك فصول عن اليهود في شبه الجزيرة العربية فترة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ويهود الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، ويهود مصر، وكذلك يهود بريطانيا، ويهود إسبانيا. وكذلك يفتح لنا الكتاب نوافذ على الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب ذاك الزمان، ويسرد تفاصيل الهندسة المعمارية بجماليّاتها خصوصاً لدى الإغريق، حيث اشتهرت عمارتهم بالأعمدة والإفريز والرواق والفسيفساء، الشيء الذي أخذه منهم اليهود.

لكنَّ هناك نقاطاً أخفق المؤلف في تسليط الضوء عليها أو طرحها في سياق المرحلة التاريخية التي يتناولها الكتاب، ومنها مرحلة حياة عيسى، عليه السلام، من لحظة ولادته حتى وقت محاكمته وصلبه، رغم أهميتها في مجريات الأحداث بتفاصيلها التي كانت انعطافاً كبيراً في تاريخ اليهود خصوصاً والعالم عموماً. ثانياً، وعلى الرغم من دقة وموضوعية المعلومات ورشاقة السرد، فإن الكاتب لم يذكر لحظات أو مراحل إيجابية عن حياة اليهود بقدر ما ذكر أهوال الحروب والحملات ضدهم وتوابعها عليهم.

وأعتمد المؤلف على المخطوطات parchments، أو رسائل على ورق البردي، وعلى قطع فخارية أثرية اكتُشفت في القرن الماضي ضمن حملات بتمويل حكومي ضخم لبعثات أثرية بريطانية وأميركية وفرنسية تسمى «Fact finding expenditures»، أي «بعثات البحث عن الحقيقة». وكذلك على وثائق تروي قصص ناس عاديين من عقود زواج أو ملفات دعاوى قضائية، بالإضافة إلى مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيو.