مذكرات أولغا بيرغولتس تحفر في أيام الستالينية

مذكرات أولغا بيرغولتس  تحفر في أيام الستالينية
TT
20

مذكرات أولغا بيرغولتس تحفر في أيام الستالينية

مذكرات أولغا بيرغولتس  تحفر في أيام الستالينية

أكثر من ثمانمائة يوم خلال الحرب العالمية الثانية، عانت مدينة لينينغراد من حصار ساحق على يد القوات الألمانية. مات ما يقرب من مليون مدني، معظمهم من الجوع. ووسط الدمار كانت أولغا بيرغولتس تقرأ قصائدها على محطة إذاعية واحدة متبقية، حاثّة المستمعين على ألا يفقدوا الأمل. عندما بدأ الحصار كانت البلاد قد عانت بالفعل من عقود من الثورة والحرب الأهلية والانهيار الاقتصادي وعمليات التطهير التي قام بها ستالين. بيرغولتس نفسها تعرضت للاعتقال، والإجهاض بعد تعرضها للضرب في أثناء الاستجواب، ووفاة زوجها وأطفالها، خلال عمليات التطهير في أواخر الثلاثينات.
كتبت بيرغولتس مذكراتها «نجوم النهار» الصادرة ترجمتها لأول مرة إلى العربية عن دار «المدى» بترجمة عدنان مدانات، بعد وفاة ستالين، فاحتفلت بمُثُل الثورة وبطولة الشعب السوفياتي، وفي الوقت نفسه انتقدت الرقابة على الكتاب وسجلت شكوكها ويأسها. فكان الكتاب بمثابة سيرة ذاتية لمؤلفة مهمة من الحقبة السوفياتية.
وأولغا بيرغولتس شاعرة سوفياتية بارزة، عُرفت بجرأتها. تم القبض عليها وتعذيبها خلال عمليات التطهير في أواخر الثلاثينات. ولكنها في أثناء حصار لينينغراد في الحرب العالمية الثانية، أصبحت الصوت المحبوب لراديو لينينغراد، وكان لخطاباتها صدى لدى مواطنيها وقد أسهمت في شهرتها الأدبية.
بدأت بيرغولتس مذكراتها «نجوم النهار» فور وفاة ستالين، في نثر غنائي مليء بالشك بل حتى اليأس.
لم تكن تتحدث كفرد، ولكن كممثلة لجيلها -الجيل الذي وُلد في أوائل القرن العشرين والذي نشأ في عز الثورة. ويشكل العنوان «نجوم النهار» استعارة مجازية لجهودها في قول حقيقة جيلها، وسرد انتصاراته وأحزانه. تكتب عن طفولتها: «تعلمت عن نجوم النهار. فبسبب شروق الشمس يمكن رؤيتها منعكسة في المياه الراكدة للآبار العميقة».
ويكمن أيضاً اعتبار «نجوم النهار» نصّاً روائياً على شكل سيرة مفعمة بالحسّ الشعري والإنساني العميق، تستعيد فيه الكاتبة حياتها بأكملها بصدق منذ اللحظات الأولى لوعيها وهي طفلة. وهي تعد هذا الكتاب كتابها الأهم، كما تقول في أحد أهم فصول كتابها، المعنون «الكتاب الرئيس»: «إنه حلم كلّ كاتب يظل يسعى طوال حياته لإنجازه».
في طفولتها، كانت أسرة أولغا بيرغولتس تعيش في منزل قديم في ضواحي نيفسك. وتسببت الثورة الروسية والحرب الأهلية في إبعاد والدها الطبيب الجراح عن حياته المدنية، إذ اضطر للالتحاق بالجبهة. واضطرت بقية الأسرة بسبب الجوع وغياب الأب إلى الرحيل إلى أوغليتش حيث استقروا في غرفة باردة كانت ذات يوم صومعة في دير قديم. عانت أولغا مع أسرتها كلّ هموم زمن الحرب بما فيها نقص الغذاء والفقر. بعد عودته من الحرب، أعاد الأب أسرته إلى بتروغراد.
وتتحدث بيرغولتس عن انضمامها في الخامسة عشر من عمرها إلى نادي العمال، حيث كان الشبان والمراهقون الذين يتدربون على كتابة الشعر، ويلتقون مع كبار الأدباء، ومنهم الشاعر فلاديمير ماياكوفسكي، الذي كان يلقّب بـ«أستاذ الكلام الشعري». كانوا يتقاسمون معه خبرته، ويستمع هو إلى قصائدهم، ويقدم لهم النصيحة. ثم بدأت بيرغولتس بكتابة المقالات والتحقيقات والقصص. لكن هذه المرحلة من حياة الأديبة ابتُليت بسلسلة من الحوادث المأساوية. ففي عام 1937 شنّت الصحف السوفياتية حملة ضد مجموعة من الأدباء بتهمة «أعداء الشعب» ومن ضمنهم زوجها السابق بوريس كورنيلوف. تبع ذلك فصل أولغا بيرغولتس من اتحاد الكتاب، وبعد ثلاثة أشهر جرى فصلها من العمل واعتقالها لينتزعوا منها تحت التعذيب اعترافات تُدينها، وهذا ما كان يعرّضها لعقوبة الإعدام بالرصاص. ثم جاءتها المساعدة من حيث لا تتوقع من الكاتب ألكسندر فادييف صاحب رواية «الحرس الفتي»، والذي انتحر بعد سنوات بسبب إحساسه بالذنب تجاه الأدباء الذين اضطهدوا أيام ستالين.


مقالات ذات صلة

«الدّماغ المؤدلج»: حين يكون التطرّف السياسي نتاج البيولوجيا

كتب ليور زميغرود

«الدّماغ المؤدلج»: حين يكون التطرّف السياسي نتاج البيولوجيا

طرحٌ جريء في علم الأعصاب الاجتماعي تقدّمه الباحثة الملحقة بجامعة كامبردج (بريطانيا) ليور زميغرود في كتابها الجديد «الدماغ المؤدلج»

ندى حطيط
كتب فدوى طوقان

صمود فلسطيني على الجبهة الثقافية

صدر كتاب باللغة الإنجليزية يحمل عنواناً عربياً: «صمود: مختارات من كتابات فلسطينية جديدة» (Sumud: A New Palestinian Reader)، أشرف على التحرير جوردان الجرابلي…

د. ماهر شفيق فريد
يوميات الشرق حسين فهمي أكد حبه للقراءة وارتباطه بها (مهرجان القاهرة السينمائي الدولي)

حسين فهمي لـ«الشرق الأوسط»: الكتاب رفيق دربي

أبدى الفنان المصري حسين فهمي، رئيس مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، فخره وسعادته بالمشاركة بصفته متحدثاً رئيسياً في معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2025.

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
ثقافة وفنون يحفل معرض مسقط الدولي للكتاب بنحو 211 فعالية ثقافية وفنية وترفيهية (العمانية)

الفعاليات الثقافية تفتح مساحة للحوار في «معرض مسقط للكتاب»

استقطبت 211 فعالية في «معرض مسقط الدولي للكتاب 2025» حضوراً لافتاً من الجمهور المهتم الذي يتوافد إليه، توزعت بين ندوات حوارية وأمسيات ثقافية وعروض مسرحية.

«الشرق الأوسط» (مسقط)
ثقافة وفنون محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

كل قراءة أو «إعادة» قراءة لشاعر هي قراءة جديدة. ما مِن إعادة بمعنى التكرار إزاء النصوص المخترقة لزمنها، المتقدمة عليه.

باسم المرعبي

صمود فلسطيني على الجبهة الثقافية

فدوى طوقان
فدوى طوقان
TT
20

صمود فلسطيني على الجبهة الثقافية

فدوى طوقان
فدوى طوقان

صدر كتاب باللغة الإنجليزية يحمل عنواناً عربياً: «صمود: مختارات من كتابات فلسطينية جديدة» (Sumud: A New Palestinian Reader)، أشرف على التحرير جوردان الجرابلي Jordan Elgrably ومالو هلسا Malu Halsa مع مقدمة بقلم سليم حداد Saleem Haddad. الأول كاتب ومترجم فرانكو- أميركي ومغربي ورئيس تحرير «مجلة المركز» وهي مجلة إلكترونية نشرت نصوصاً من الثقافة الفلسطينية مترجمة إلى اللغة الإنجليزية ظهرت في 2020. والثانية كاتبة وروائية أردنية فلبينية أمريكية. والثالث روائي وكاتب أقصوصة يعيش حالياً في لشبونة.

الكتاب صادر عن «مطبعة القصص السبع» في لندن عام 2024 في 365 صفحة. ويشتمل، إلى جانب النصوص، على صور فوتوغرافية، ولوحات فنية، وملصقات إعلانية. والنصوص تجمع بين مقالات ومذكرات وقصص وقصائد وأعمال من الفن التشكيلي سبق نشرها في «مجلة المركز».

يقول سليم حداد في كلمته التمهيدية (مؤرخة في مايو/أيار 2024) إن هذه النصوص الفلسطينية ليست مجرد شهادة على ما يجري عقب 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وإنما هي أيضاً فضاء يعرض إبداع فلسطينيين صامدين وتضامناً من يقفون معهم من أحرار العالم.

ويؤكد الجرابلي وهلسا في مقدمتهما (سبتمبر/أيلول 2024) العلاقة الوثيقة بين الثقافة والمقاومة، منوهين على وجه الخصوص بالدور المهم الذي لعبه الشعر الفلسطيني حتى أن موشى ديان، وزير الدفاع الإسرائيلي في عقود سابقة، صرح بأن قراءة قصيدة لفدوى طوقان تشبه «مواجهة عشرين فدائياً من الأعداء».

ومن بين محتويات الكتاب نتوقف عند مقالة عنوانها «إدوارد سعيد: الكتابة في خدمة الحياة» بقلم ليلى العمار، وهي روائية وأكاديمية كويتية تحمل دكتوراه في أدب المرأة العربية. لقد كان سعيد (1935- 2003) أبرز صوت فلسطيني على الساحة الدولية ثقافياً. وفي هذه المقالة المؤرخة في 9 أكتوبر 2023، تقول العمار إن سعيد خلف عشرات الكتب والمقالات والمحاضرات عن مسؤوليات الناقد، ونزع الصبغة الاستعمارية، والموسيقى الكلاسيكية، والعلاقة بين الثقافة والإمبريالية، وعذابات المنفى، والقضية الفلسطينية. وكان كتاب «الاستشراق» (1978) فاتحة حقبة جديدة في دراسات ما بعد الكولونيالية، أعاد فيه صياغة فهمنا للشبكة التي تصل بين السلطة والمعرفة والسرديات والإدراك. إنه نموذج المثقف «العمومي» المشغول بقضايا إنسانية ووطنية عامة من خلال مقالاته الصحافية ومقابلاته التلفزيونية. لقد فند دعاوى صمويل هنتنغتون عن صدام الحضارات، وكشف عن مغالطات برنارد لويس وغيره من المستشرقين. وكان عضواً نشطاً في المجلس الوطني الفلسطيني لمدة خمسة عشر عاماً قبل أن يتركه في 1993 احتجاجاً على اتفاقيات أوسلو التي رأى فيها تخلياً عن حقوق الشعب الفلسطيني.

إدوارد سعد
إدوارد سعد

وتركز الكاتبة على ما كان سعيد يعنيه لها مفكراً وأكاديمياً وعربياً؛ وذلك منذ قرأت كتابه «الاستشراق» وهى في سن التاسعة عشرة، وتزامن ذلك مع محاولاتها الروائية الأولى. تعلمت منه أن تمثيل الواقع يرتبط بأمور كثيرة: باللغة والثقافة والتاريخ والميول السياسية والدينية والكاتب ذاته بكل خلفياته ومعتقداته وتحيزاته. ومن كتاب «الاستشراق» انتقلت إلى قراءة أعماله الأخرى: «الثقافة والإمبريالية» و«فرويد وغير الأوروبي» و«بدايات» و«تأملات في المنفى». ومنه تعلمت أهمية أن «يعيد» المرء قراءة ما قرأه من قبل، حيث إنه قد تكون هناك أشياء مهمة فاتته في القراءة الأولى. كما أننا حين نقرأ أشياء في سن الأربعين لا نكون الشخص نفسه الذي قرأ الشيء في سن العشرين: فنحن قد تغيرنا والشيء المقروء يتغير معنا.

ولا تخلو المقالة من تحفظات على إنجاز سعيد؛ فقراءته للأدب العربي الحديث تكاد تكون مقصورة على نجيب محفوظ، وغسان كنفاني والطيب صالح. ولا يكاد يأتي على ذكر كاتبة عربية واحدة. بل إنه في محاضراته عام 1993، وقد نشرت تحت عنوان «تمثيلات المثقف»، لا يذكر من الكاتبات الغربيات سوى كاتبة واحدة هى فرجينيا وولف.

إميل حبيبي
إميل حبيبي

وتذكر الكاتبة مرثية محمود درويش لسعيد تحت عنوان «طباق» إشارة إلى الطابع الديالكتيكي أو الكونترابنطي لفكره، حيث تتواجه الأضداد وتتفاعل منتجة مركبات جديدة.

وتقول العمار إن الثقافة العربية في الأجيال السابقة لم تعدم رجالاً ونساءً أطلقوا عنان طاقات سياسية واجتماعية ونفسية، واقتنصوا صرخات الوعي في شبكة اللغة والصورة والشكل: رفاعة الطهطاوي، عباس العقاد، جورج طرابيشي، محمد عابد الجابري، غادة السمان، نوال السعداوي، إلياس خوري، غسان كنفاني. لقد سجلوا إخفاقات الحداثة العربية كما صوروا كيف تكون مقاومة الإمبريالية، والأنظمة الشمولية، والأبوية الجديدة، والطائفية وكل ما يعوق تقدم الحياة العربية. ولكن من يستحق لقب المثقف العمومي اليوم؟ قلائل، تذكر الكاتبة منهم علاء عبد الفتاح ومحمد الكرد وسمر يزبك. فالمثقف كما قال غرامشي يسير على حبل رفيع بين «تشاؤم الذهن» و«تفاؤل الإرادة». الأول يهدد بأن يرمينا في هاوية القنوط، والآخر يدعونا إلى أن نصمد ونعيد المحاولة من جديد.

ومن النصوص الإبداعية في الكتاب نص عنوانه «بيروت» لأحمد الملاح، وهو شاعر فلسطيني له أكثر من ديوان، وفنان يدرس الكتابة الإبداعية بجامعة بنسلفانيا الأميركية. يبدأ النص بقول الشاعر: «كنت في بيروت»، ثم يواصل قائلاً: «فلسطين التي تتراءى في الأفق دون عودة. كنت على مرأى من المكان الأول دون أن أراه. ولم يبق من الزيارة سوى أسبوع وبضعة أيام. قلت لنفسى سأكتب بالعربية هنا... في تلك المساحة الضيقة من الوقت. سأكتب ما سأكتبه من اللغة الأم. قريباً من البعيد. أنا هنا واللغة الأم. تلك العربية هنا أيضاً. ليست بين الكتب أو في المكان. في هذا البلد لبنان. بضعة أيام لأسترجع فيها اللغة الأم. بضعة أيام في مكان لا أطلال لي فيه. بضعة أيام... والزمان يضيق مطبقاً على الاحتمال».

وثمة مقالة عنوانها «أن تكون هناك، أن تكون هنا: كتابات فلسطينية في العالم» بقلم موريس أبيليني، المحاضر في قسم اللغة الإنجليزية وآدابها بجامعة حيفا. المقالة مؤرخة في 30 مارس (آذار) 2022، وهي عن كتَّاب فلسطينيين يكتبون بلغات غير اللغة العربية: العبرية، والإنجليزية، والإسبانية، والإيطالية والدانمركية وغيرها. وكثير من هؤلاء الكتاب منفيون أو مهاجرون في الشتات يعيشون في بلدان غربية ويقدمون الرواية الفلسطينية بأساليب سياسية واجتماعية وجمالية متنوعة. وهناك كتاب فلسطينيون يعيشون في أميركا اللاتينية وينحدرون من أصلاب مهاجرين. وبعضهم تجار مسيحيون فرّوا من الحكم العثماني.

وقبل نكبة 1948 كان الأدب الفلسطيني معتمداً على الإلهام القادم من القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد، ولكنه لم يكن رغم ذلك مفتقراً إلى صوته الخاص. لقد أنتج شعراء مثل إبراهيم طوقان، وأبو سلمى وعبد الرحيم محمود الذين شاركوا في النضال القومي وفي إبداع ما سماه غسان كنفاني «ثقافة شعبية» في مواجهة تحالف الاستعمار البريطاني مع الاستيطان الصهيوني. وفيما بعد برزت إلى المقدمة أسماء فدوى طوقان، ومحمود درويش وسميح القاسم لتربط بين الشعب والأرض. ونثراً جسَّد غسان كنفاني في «رجال في الشمس» (1963) وإميل حبيبي في «الوقائع الغربية في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» (1974) حس العقم الوجودي والاغتراب والاقتلاع من المكان في وعي الفلسطيني ووجدانه.

ويختم أبيليني مقالته بقوله إن الأدب –والشعر بخاصة- هو الوسيط الذي من خلاله يخاطب شعباً منزوع الأرض ضمير العالم.

لقد أنجبت أرض البرتقال الحزين عبر السنين عدداً من كبار الأدباء والمثقفين: عادل زعيتر في مجال الترجمة، إدوارد سعيد في النقد الأدبي، محمود درويش في الشعر، جبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني وإميل حبيبي في الرواية والأقصوصة. وكتاب «صمود» تذكرة بهذا التراث، وتوكيد للهوية الفلسطينية، ومواجهة لمطاردة إسرائيل كل ما هو فلسطيني ومحاولة إزالة وجوده. ومن أمثلة ذلك في السنوات الأخيرة مهاجمة الشرطة الإسرائيلية في 2022 موكب جنازة الإعلامية الفلسطينية – الأمريكية شيرين أبو عاقلة (1971- 2022) حتى كاد نعشها يقع على الأرض، وذلك على مرأى ومسمع من عالم غربي يؤثر، إلا في القليل النادر، أن يغمض عينيه عما يجرى على أرض الواقع.