مخيلة بغداد التاريخية كما تقدمها الرواية العراقية

السلطة الحاكمة تسعى دائماً إلى «صناعة» العاصمة كما تريدها وتفكر بها

خريطة بغداد
خريطة بغداد
TT

مخيلة بغداد التاريخية كما تقدمها الرواية العراقية

خريطة بغداد
خريطة بغداد

هل يختلف تخيل المكان في الشعر عنه في الرواية والقصة؟ ربما علينا أن نعيد صياغة السؤال بطريقة أخرى، فنسأل عن أمكنة الشعر فرقاً عن أمكنة السرد، هل الشاعر متحرر إزاء أمكنته فيخترع منها ما يشاء؛ يرفع منها ويحط غيرها، فيما الواضح أن كاتب السرد؛ الرواية والقصة القصيرة، ملزم بمكان ذي بعد تاريخي أو ثقافي أو سياسي؟ أفكر في بدر شاكر السياب وكيف حوَّل «قرية» بائسة ربما لم يسمع بها البصريون أنفسهم قبل ظهور السياب واشتهاره أيقونة علمية في الشعر العربي، والسؤال ذاته يُثار في أي محاولة لتفسير ترسّخ أيقونة النهر «بويب» حتى صار الناس يأتون من كل حدب وصوب ليصوروه أو يقفوا عند النهر الذي مات وشبع موتاً ربما حتى قبل أن يولد السياب نفسه؟ ما الذي حرر مخيلة السياب من «سلطة» المكان الشهير (البصرة مثلاً) ومنحه حرية «تصنيع» المكان المحلي غير المعروف، وتحويله إلى مكان عالمي؟ لا أظن الأمر يختلف في شعر البياتي أو نازك الملائكة أو شعراء مصر مثلاً. هذه الحرية والتداول الحر للأمكنة «التاريخية» أو «المحلية» غير المعروفة، هو النقيض المقابل لأمكنة الرواية؛ في الأقل نحن نتحدث عن الرواية في العراق. ولكن لماذا على المكان السردي أن يختلف عن أمكنة الشعر؟ هل هناك سلطة ما تلزم كاتب الرواية، مثلاً، اختيار مكان معين ليكون فضاءً لروايته؟

رواية المدينة... رواية بغداد
في حالة الرواية العراقية؛ فإن المتابع يلاحظ، ابتداءً، أمرين لم تحد عنهما نصوص الرواية العراقية إلا في حالات نادرة واستثنائية. والأمران اشتركا معاً في تأسيس نموذج مكاني اختصت به «مخيلة» بغداد التي سيجري اختصارها في «شوارع» بعينها وبضعة أمكنة بغدادية شهيرة وهي، من ثمّ، الخريطة الوحيدة المتداولة للمكان «الوطني» المعبر عن بلاد مثل العراق. الأول؛ قرره غائب طعمة فرمان في روايته الثانية «خمسة أصوات»، وهو الكاتب المؤسس. يكتب فرمان، وهو يُلاحق خمسة من مثقفي بغداد في خمسينات القرن الماضي: قال حميد وكأنه يقنع نفسه، سأكون في بلدي؛ فالعراق ليس بغداد وحدها. قال شريف: العراق بغداد فقط. والحديث يأتي تعقيباً على «نقل» حميد من بغداد للعمل في «الديوانية»، إحدى مدن الوسط العراقي. «ومثل هذا وجدناه في النخلة والجيران بكلام الشابة (تماضر) من مدينة العمارة - ميسان الجنوبية؛ إذ السخرية حاضرة من لهجة الجنوب ومن المدينة برمتها!». هكذا سيجري اختصار العراق في بغداد. الأمر الثاني؛ أن بغداد ستُختصر في صورة واحدة تمثلها ثلاثة شوارع وما يتصل بها من أحياء وساحات. وبتراكم النصوص الروائية؛ سنجد أنفسنا إزاء بغداد «تاريخية» يجري تكرار صورتها وتداولها بين الكتاب. سيُقال إن هناك روايات عراقية «مهمة» اتخذت من أجزاء ونواحٍ أخرى من بغداد عالماً لها، كما فعل الكاتبان المؤسسان فرمان والتكرلي في «ظلال على النافذة» و«المسرات والأوجاع». كما أن هناك روايات عراقية كثيرة اتخذت من مدن عراقية أخرى، غير بغداد، مكاناً لها: الناصرية كما في روايات وقصص عبد الرحمن مجيد الربيعي، البصرة في قصص محمد خضير، وفي «الشاهدة والزنجي: الصقر»، وأغلب روايات البصري جنان جاسم حلاوي، وروايات نجم والي لا سيما الأولى منها، وكركوك في رواية فاضل العزاوي. وهناك كثير غير ما ذكرنا ولا شك. غير أن هذه الكثرة، وهذا التنوع والاختلاف المتميز نصاً، لم يغير من صورة «المكان» الوطني العراقي، ولا تقاطع مع مخيلة بغداد «التاريخية». وهذا ليس استنتاجاً نتفرد به، أو ندعيه، إنما هو «قراءة» لأطلس المكان العراقي الذي تهيمن عليه مخيلة بغداد التاريخية كما تقدمها الرواية العراقية؛ إذ لم تستطع تلك الروايات أن تُحدث تغيراً في نمطية المكان البغدادي الأثير.

مخيلة بغداد
ما بين قصة جلال خالد ورواية «النخلة والجيران» ثمة مفارقة وخرائط أهملها «السيد» أو لم ينتبه إليها، فيما كان فرمان أحد مؤسسيها الكبار. تبدأ قصة «السيد» من لحظة السفر في باخرة ستتجه بـ«جلال خالد» إلى الهند - مومباي. لا مكان عراقياً سوى إشارة يتيمة للبصرة وفرضتها أمام المعقل هناك. ثم نمضي مع «خالد» إلى أماكن «هندية» مثل «بومباي» و«كلكته»، وفي طريق العودة نعثر على إشارات للبصرة وشرق بغداد أو جوامعها بلا توصيف مكاني أو حتى ذكر اسم لها. ونجد في القسم الثاني من القصة ذكراً لحديقة «الصالحية» بكرخ بغداد. تأتي المدن وأمكنتها القليلة شاحبة بلا اسم أو صفة. فهي محض «ديكور» متقشف يصلنا عبر عين المسافر المشغول بيأسه بعد فشل «الثورة». ذلك الاقتصاد المكاني يفسره، ولا شك، أن المكان «الوطني» ذاته لم يأخذ شكله وأوصافه بعد. وكان على القصة العراقية أن تنتظر إلى نهاية الأربعينات لنكون إزاء طوبغرافيا عراقية للمكان البغدادي. وربما الأدق أن نكتب أن تلك الحقبة قد شهدت ترسخ المكان البغدادي بصفته المكان «الوطني» المتخيل. نتحدث عن قصص الجيل الخمسيني ممثلاً في الرائدين الكبيرين فؤاد التكرلي وعبد الملك نوري ومجايلهما مهدي عيسى الصقر. وقد يتصل كلامنا بقصص سابقيهم، وأبرزهم نزار سليم (أشياء تافهة - 1950) و(زقاق الفئران – 1972)، ثم استقر ذلك المعجم المكاني في «النخلة والجيران» و«خمسة أصوات» و«المخاض» و«الرجع البعيد»، ثم تحولت بغداد التاريخية إلى مرجع ونستولوجيا في أغلب روايات ما بعد 2003.

خريطة المدينة
وطبوغرافيا السلطة

تشمل مخيلة بغداد ثلاثة شوارع، هي: «الرشيد» و«الجمهورية» و«الكفاح». هذه الشوارع الثلاثة تؤلف ما يشبه المثلث داخل بغداد. «شارع الرشيد»، مثلاً، يمتد أربعة كيلومترات داخل بغداد، ابتداءً من «الباب المعظم» وانتهاءً بالباب الشرقي «الشرجي» - الشورجة، ذهاباً وإياباً. والشارع يمثل ذاكرة سياسية ثقافية لبغداد والعراق برمته؛ إذ يشكل مبنى وزارة الدفاع القديمة (مقر حكومة قاسم بعد 1958) مدخله من «الباب المعظم». تقابله محلة الصابونجية التي تتصل بـ«الرشيد» وشارع «الجمهورية». تنفتح الصورة على ما تبقى من فنادق «الرشيد» ومقاهيه ومحاله على جانبيه، لا سيما اليمين منه، فيما يشغل «جامع الحيدرخانة» الجهة المقابلة لـ«مقهى حسن عجمي»، ثم شارع «المتنبي» المتفرع من «الرشيد» نفسه، وهي التسمية الأحدث لأحد مداخل سوق السراي المفضي للقشلة، حيث السراي الحكومي. يسير الشارع بمحاذاة «دجلة» وينفتح على مناطق بغداد التاريخية، كما يخترق أربعة ميادين ويتصل بأربعة جسور، وتتفرع منه شوارع فرعية اكتسبت شهرة عراقية كشارع «النهر». طول الشارع وتفرعاته ثمّ ما تضمنه من مؤسسات وأسواق ودور سينما ومقاهٍ وشركات كبرى، جعله المحرك السياسي والثقافي لبغداد، لا سيما في عهد الحكم الملكي. فهل هذا مسوِّغ كاف ليكون الشارع سردية بغداد الكبرى في القصة الخمسينية وما يتصل بها من نصوص روائية عراقية رائدة؟
لا يبدو الكتاب المعنيون مهتمين بتقديم إجابات مكتوبة ومقنعة؛ كانت حياتهم وقد عاشوها وكتبوا عنها، وعن البغدادي الذي يخرج من بيته في المربعة أو الحيدرخانة أو باب الشيخ أو راس القرية ويذهب إلى «الرشيد» كأنه النصف المتمم لحياته. هكذا يفتتح فؤاد التكرلي عالم قصته الطويلة «نوفيلا: الوجه الآخر» بتسمية المكان وتوصيفه: «خطر له حين مرَّ أمام مقهى حسن عجمي، أنه سيعود للجلوس (فيها) عصر هذا اليوم»، ثمّ قوله في فقرة ثانية: «كان شارع الرشيد مليئاً بحركة مستمرة والشمس البيضاء تملأه وتملأ نفس محمد جعفر... ص9». تنطوي هذه النصوص على أمرين: تسمية المكان بوصفه، ثم امتلاكه. ثمة «بغدادي» يمتلك حكاية، حكايته غالباً. ولا حكاية خارج أسوار المكان العتيق الضيق، والقذر غالباً. في «النخلة والجيران»، مثلاً، يستعيد (ربما الأصح أن نكتب: يعود!) صورة المكان الزائل الذي جرى محوه في أزمنة سابقة: الصولة وبيت سليمة الخبازة حيث النخلة القميئة والخان وأزقة أخرى في «الصبابيغ الآل - حي الصافن كما يسميها فرمان». في رواية «المخاض» نتحول إلى مشهد آخر للمكان البغدادي: شارع الجمهورية وشارع الكفاح والخلاني، فرقاً عن «خمسة أصوات» التي تبدأ بمتاهة الأزقة التي لا تنتهي بـ«الكفاح».

أزمنة السلطة... صور المدينة
هل اختلفت مخيلة بغداد باختلاف منظومات السلطة الحاكمة في العاصمة؟ هذا سؤال ربما لا معنى له؛ لأن السلطة كانت تسعى دائماً لـ«صناعة» بغداد كما تريد وتفكر فيها. ولا يختلف حال بغداد عن حال أي عاصمة عالمية. أفكر في باريس وتحولاتها، في برلين ولندن وغيرهما من مدن كبرى شهدت تحولات وتحولات جذرية. وفي حالة بغداد؛ فإن النصوص الروائية المؤسِّسة تضعني أمام ثلاث صور لبغداد التاريخية: صورة شارع الرشيد وما يتصل بها من أحياء وشوارع فرعية ومحال وسينمات وساحات، وهي الصورة الأثيرة في روايات الحقبة الملكية. أقصد هنا الروايات التي كتبت عن الحقبة الملكية. أذكر منها روايات فرمان الثلاث: «النخلة والجيران» و«خمسة أصوات» و«القربان» و«نوفيلا» التكرلي الوجه الآخر. وهناك روايات لكتاب عراقيين آخرين تتعرض لتلك المرحلة، لكنها لا تجعل منها عالماً كاملاً، نذكر منها روايتي علي بدر «بابا سارتر» و«صخب ونساء وكاتب مغمور». صورة شارع الجمهورية - الكفاح، وهي تمثل حقبة الجمهورية الأولى. نجد تلك الصورة في روايتين أساسيتين، هما: «المخاض» لفرمان و«الرجع البعيد» للتكرلي. نُشرت الأولى عام 1974، فيما انتهى التكرلي من روايته عام 1977 ونشرها عام 1980. «المخاض» قصة المنفي العائد إلى بلاده بعد «غربة» استغرقت سنوات جرى خلالها إزالة عالمه وذكرياته، فيضطر للسكن في فندق بشارع الرشيد «عالم الصورة الأولى»، ثم في «حمام المالح» بمنطقة الفضل. ولرواية «المخاض» يرجع الفضل في نقل عالم بغداد المتخيل من الرشيد إلى شارعي «الجمهورية» و«الكفاح»، حيث باب الفضل وباب الشيخ والخلاني والكيلاني. وهو الخيار الذي سيعتمده مؤرخ بغداد الآخر، فؤاد التكرلي، في روايته الشهيرة «الرجع البعيد»؛ في تلك الشوارع، كما في غيرها، احتدمت الأحداث واشتبك البغداديون مراراً. وعندما نصل إلى الصورة الثالثة؛ فإننا نستعيد مخيلة بغداد كلها، بصورتيها؛ الملكية والجمهورية. في روايات بغداد «المحتلة» سنكون إزاء سلسلة متصلة من نصوص بغداد بأزقتها المظلمة والضيقة التي ازدادت تلفاً ودماراً، لكنها، أيضاً، التي انفتحت على مواجع بغداد وضياعها؛ فحضرت مشرحة بغداد، وحضرت البتاوين، واستعاد «أبو نؤاس» حضوره وغيرها. وما زالت بغداد تستعيد أزمنتها وأمكنتها، هي نسخة أخرى عن كتابها، بل إن كتابها هم نسخ أخرى عنها. ولا بد من أنهم يتذكرون، مجتمعين أو فراداً، نصيحة «العم نوري»، سائق التاكسي الذي عاد «بكريم داود» من المطار، ثم أسكنه في بيته في «حمام المالح». قال له إجابة لطلبه أن يحدثه عن حياته: «كل ما أريده لك أن تكون مرتاحاً. والارتياح يأتي حين تعرف أي طريق تسلك، وإلا فستكون مثل بغداد اللي ما كانت تعرف وين تضع رجلها. (المخاض)».
أهذا كل بغداد: شارع الرشيد والقشلة والميدان والحيدرخانة والصدرية وباب الشيخ والبتاوين؟ أين الكاظمية والأعظمية والكرادة والدورة والمنصور؟ هل ستطردكم بغداد من جنتها لو كتبتم عن علي الصالح أو الصليخ أو الجادرية؟



العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي
TT

العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي

في يومها العالمي الذي وافق أمس (الثلاثاء)، لا تبدو اللغة العربية في أفضل حالاتها، سواء من حيث الانتشار والتأثير أو الاهتمام داخل المؤسسات التعليمية. يكفي أن يُلقي أحدهم نظرة عابرة على لافتات المحال أو أسماء الأسواق التي تحاصر المواطن العربي أينما ولّى وجهه ليكتشف أن اللغات الأجنبية، لا سيما الإنجليزية، صار لها اليد الطولى. ويزداد المأزق حدةً حين تجد العائلات أصبحت تهتم بتعليم أبنائها اللغات الأجنبية وتهمل لغة الضاد التي تعاني بدورها من تراجع مروِّع في وسائل الإعلام ومنابر الكتابة ووسائط النشر والتعبير المختلفة.

في هذا التحقيق، يتحدث أكاديميون وأدباء حول واقع اللغة العربية في محاولة لتشخيص الأزمة بدقة بحثاً عن خريطة طريق لاستعادة رونقها وسط ما يواجهها من مخاطر.

سمير الفيل

عاميات مائعة

في البداية، يشير الناقد والأكاديمي البحريني د. حسن مدن إلى أنه من الجيد أن يكون للغة العربية يوم نحتفي بها فيه، فهي لغة عظيمة منحت بثرائها ومرونتها وطاقاتها الصوتية العالم شعراً عظيماً، كما منحته فلسفة وطباً ورياضيات وهندسة، واستوعبت في ثناياها أمماً وأقواماً عدة. ورأى مدن أن يوم اللغة العربية ليس مجرد يوم للاحتفاء بها، إنما هو، أيضاً، وربما أساساً، للتنبيه إلى المخاطر الكبيرة التي تواجهها، حيث تتهدد سلامة الكتابة والنطق بها مخاطر لا تُحصى، متسائلاً: ماذا بقي في أجهزة التلفزة الناطقة بالعربية من اللغة العربية السليمة، التي تُنتهَك قواعدها كل ساعة، وتحل محلها عاميات مائعة، حيث يتبارى المذيعات والمذيعون في التلذذ بمطِّ ألسنتهم وهم ينطقونها، فيما يختفي جيل أولئك المذيعين المفوهين ذوي التأسيس اللغوي السليم الذين كانت اللغة العربية تشنّف الأسماع من على ألسنتهم؟

د. حسن مدن

ويستدرك الأكاديمي البحريني موضحاً أنه ليس مطلوباً من الجميع أن يتحولوا إلى علماء أفذاذ على غرار سيبويه، فذلك مُحَال، خصوصاً أن الانشطار الذي أصاب اللغة العربية إلى فصحى ومجموعة لهجات عامية جعل من المستحيل أن تكون لغتنا العربية، بصرفها ونحوها لغة محادثة يومية، ولكن ثمة حدود دنيا من قواعد اللغة وطريقة كتابتها ونطقها يجب احترامها والحفاظ عليها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مخاطر تخريب اللغة.

ويلفت د. مدن إلى أنه فيما يتعلق بواقع اللغة في معاهد التعليم والدرس، نجد أنه من المؤسف أن معيار تفوق التلميذ أو الطالب الجامعي بات في إتقانه اللغة الإنجليزية لا العربية، وبات يفكر كل والدين حريصين على مستقبل أبنائهما في تعليمهم الإنجليزية، ومن النادر أن يتحدث أحدهم عن حاجة أبنائه إلى إتقان العربية. ويحذر د. مدن من مخاوف تواجه مستقبل لغة الضاد وإمكانية تعرضها لخطر يتهدد وجودها، لافتاً إلى أن هناك تقريراً أجنبياً يتحدث عن أن قرننا الحالي سيشهد ضمور وموت مائتي لغة من لغات شعوب العالم تحت سطوة العولمة الثقافية التي تتخذ من اللغة الإنجليزية «المؤمركة» وسيلة إيصال واتصال.

د. عيدي علي جمعة

حلول عملية

ويشير القاصّ والروائيّ المصريّ سمير الفيل إلى عدة حلول عملية للخروج من النفق المظلم الذي باتت تعيشه لغة الضاد، مشيراً إلى ضرورة الاهتمام بمعلمي اللغة العربية وأساتذتها في المدارس والجامعات، من حيث الرواتب وزيادة مساحات التدريب، بالإضافة إلى جعل اللغة العربية أساسية في كل المؤسسات التعليمية مهما كانت طبيعة المدرسة أو الجامعة. وهناك فكرة الحوافز التي كان معمولاً بها في حقبتَي السبعينات والثمانينات، فمن يدخل أقسام اللغة العربية من الحاصلين على 80 في المائة فأكثر، تُخصَّص لهم حوافز شهرية.

ويمضي «الفيل» في تقديم مزيد من المقترحات العملية مثل استحداث مسابقات دائمة في تقديم دراسات وبحوث مصغرة حول أعمال رموز الأدب العربي قديماً وحديثاً، فضلاً عن عدم السماح بوجود لافتات بلغة أجنبية، وتحسين شروط الالتحاق بكليات العربية المتخصصة مثل دار العلوم والكليات الموازية. ويضيف: «يمكنني القول إن اللغة العربية في وضع محرج غير أن الاهتمام بها يتضمن أيضاً تطوير المنهج الدراسي بتقديم كتابات كبار المبدعين والشعراء مثل نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وأبي القاسم الشابي، وغيرهم في المنهج الدراسي بحيث يكون مناسباً للعصر، فلا يلهث للركض في مضمار بعيد عن العصرية، أو الحداثة بمعناها الإيجابي».

تدخل رسمي

ويطالب د. عايدي علي جمعة، أستاذ الأدب والنقد، بسرعة تدخل الحكومات والمؤسسات الرسمية وجهات الاختصاص ذات الصلة لوضع قوانين صارمة تحفظ للغة العربية حضورها مثل محو أي اسم أجنبي يُطلق على أي منشأة أو محل داخل هذه الدولة أو تلك، مع دراسة إمكانية عودة « الكتاتيب» بصورة عصرية لتعليم الطفل العربي مبادئ وأساسيات لغته بشكل تربوي جذاب يناسب العصر.

ويشدد على أن اللغة العربية واحدة من أقدم اللغات الحية، تختزن في داخلها تصورات مليارات البشر وعلومهم وآدابهم ورؤيتهم للعالم، وأهميتها مضاعفة، لكثرة المتحدثين بها في الحاضر، وكثرة المتحدثين بها في الماضي، فضلاً عن كثرة تراثها المكتوب، لكن من المؤسف تنكُّر كثير من أبنائها لها، فنرى الإقبال الشديد على تعلم لغات مختلفة غير العربية، فالأسر حريصة جداً على تعليم الأبناء في مدارس أجنبية، لأنهم يرون أن هذه اللغات هي البوابة التي يدخل منها هؤلاء الأبناء إلى الحضارة المعاصرة.

الأديب السوري الكردي، المقيم في بلجيكا، هوشنك أوسي، إنتاجه الأساسي في الشعر والرواية والقصة القصيرة باللغة العربية، فكيف يرى واقع تلك اللغة في يومها العالمي؟ طرحنا عليه السؤال، فأجاب موضحاً أن الحديث عن تردّي واقع اللغة العربيّة مبالَغ فيه، صحيح أنّ العالم العربي والبلدان العربيّة هي مناطق غير منتجة صناعياً، ولا تقدّم للعالم اختراقات وخدمات علميّة تسهم في الترويج للغة العربيّة والتسويق لها، كحال بلدان اللغات الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة، والصينيّة، إلاّ أن اللغة العربيّة لم تكتفِ بالمحافظة على نفسها وحسب، بل طوّرت نفسها لتنسجم ومقتضيات العصر وإيقاعه المتسارع.

ويلفت أوسي إلى نقطة مهمّة مفادها أن النهوض الاقتصادي في الصين وكوريا الجنوبيّة واليابان، لم يجعل من لغات هذه البلدان رائجة في العالم، ومنافسة للغات الإنجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة. وفي ظنه أن أعداد الأجانب الذين يودّون تعلّم اللغة العربيّة، لا يقلّ عن الذين يودّون تعلّم اللغات الصينيّة واليابانيّة والكوريّة.