تايلور سويفت... التوق إلى ترميم القلب

تعيد طرح ألبوم «Red» مع فيلم قصير وتتصدّر الـ«ترند»

تايلور سويفت... التوق إلى ترميم القلب
TT

تايلور سويفت... التوق إلى ترميم القلب

تايلور سويفت... التوق إلى ترميم القلب

منذ شعورها الأول بالتنمّر، وفي أعماق تايلور سويفت حمم بركان تتقاذف. كانت في سن المراهقة عندما لفحها الوخز وهزّ مشاعرها. كبُرت على داخل مُعرّض للاقتحام في أي لحظة. شبابيكه مخلّعة. تخفي خلف الوجه الرقيق عواء العواطف والأسئلة. تهدأ أعاصيرها ثم تنفجر فجأة. مصدر الانفجارات هذه المرة هي الذاكرة. فتايلور لم تعقد «صُلحة» مع النسيان الذي يرفض التفضّل بنعمه عليها، خصوصاً النسيان العاطفي. تعيد طرح ألبوم «Red» بصيغة مختلفة عن إصداره الأصلي في عام 2012. وتقديم أغنية «All too well» بفيلم قصير يحاكي دواخلها المتلاطمة.
تسير تايلور أليسون سويفت بين أشواك لا تغادر زهورها. إنه شوك الشوق. نجمة في بداية الثلاثينات، روحها معلّقة بحب لم يتحقق. تكتب لتكتمل مشاعرها الناقصة. وتجعل من أغنياتها سيرة ذاتية تترجم وجودها العاطفي المفكك. كلما اهتزّت، أنقذتها الكلمات من السقوط. تدوّن مشاعرها في أغنياتها، فتكتب حالات من يشبهونها في التردّد والانفصال. تصبح النجمة القريبة من أرواحهم الباكية.
يتضمّن ألبوم «Red» 30 أغنية، بتسع أغنيات أضيفت إلى النسخة الأولى، لم تُطرح من قبل. تخوض تايلور سويفت مشروع إعادة إنتاج أعمال غنائية سابقة طرحتها في بداية رحلتها الفنية. يُضاف جديدٌ إلى القديم، بلمسات أسماء تطمئن مغنية البوب الريفي للتعاون معها: إد شيران، وفيبي بريدجرز، وغاري لايت بودي وآخرون.
وتصوّر في فيديو موسيقي من إخراج صديقتها النجمة بليك ليفلي أغنية «I Bet you think about me». يطغى الأحمر على المزاج الغنائي، وتايلور تطارد عريساً في ليل عرسه. زواج الحبيب من أخرى بمثابة اختزال أليم لعلاقاتها غير المضمونة وخسائرها العاطفية المتراكمة. هو الفيديو الموسيقي الأول إخراجياً لليفلي «اللامعة والشجاعة والمضحكة»، وفق وصف صديقتها. تفقأ جرحها وتنظّفه. جرح إفلات الحبيب منها وتعميقه الفراغات الداخلية. هي في الدوامة، حبيب يرحل وحبيب يأتي، ثم يستعدّ للرحيل. كالحبيب في الأغنية الذي يؤدي دوره مايلز تيلر، وهو لسواها. لامرأة أخرى. يفرّ ولا ينفع اللحاق به.
تصنّفها «فاريتي» في مقدّمة تصدُّر الأرقام العالمية: «نجحت في كسر رقمين قياسيين بنسختها الجديدة (Red)، في يوم واحد عبر سبوتيفاي». يتربّع الألبوم على عرش المركز الأول في منصات الموسيقى العالمية، ويغزو اسم النجمة مواقع التواصل. «ترند» في الشرق والغرب.
تُعرّف على نفسها في «إنستغرام»: «سعيدة، حرّة، مشوّشة، ووحيدة في الوقت عينه». تدلي بهذا الاعتراف أمام 185 مليون متابع. لطالما كان الغناء من أجل إسكات حشرجات الوحدة، وهي خارج كونها نجمة من الأشهر على الأرض، وكون حفلاتها بحجم مهرجانات ضخمة ترتدي فيها أفخم الأزياء وتقدّم أروع الأداء. الوحدة متصلة بشبكات الداخل الملتفّة حول عنقها ككتلة صوف معقّدة. خيط البداية في اليد، لكن ماذا عن خيط النهاية؟ أي ثمن ستُسدّد من أجل بلوغه؟ أي عذاب وأي معارك؟ الوحدة التي تتحدث عنها تايلور، والتشوّش والحرية والسعادة، تمرجحها كطفلة في هواء غير خاضع لحيّز ولا لدرجة حرارة ولا لحالة مناخية ثابتة. هواء طلق يحتمل التحليق والارتطام والهبوط والارتفاع. وتناقضات المرأة الصعبة.
النجمة الأميركية التي رُشّحت لأكثر من 500 جائزة ونالت منها العدد الكبير، مصابة بالحاجة إلى التعبير. وهو سُمّ لذيذ. وبرغم أنها تحوّله فنّاً خلاقاً، ككتابة الأغنيات وصناعة الأفلام، فإنه يوقع ضحاياه في حفرة الكآبة المظلمة. فهي تستريح حين تُخرج أرقها ثم تُصاب باتسّاع المساحات الفارغة التي سرعان ما تتسلّق روحها.
تصاحب فشلها العاطفي وتجرجر ذيوله بخيبة. في «All too well: The short film» تضعه على الطاولة وتعيد التفرّج عليه، كأنها في مراجعة. تتناوب فصول الخذلان أمامها، ويمرّ شريط العلاقات كرحلة شاقّة. البطولة لسادي سينك التي أدّت شخصيتها، وديلان أوبراين بدور حبيبها السابق جيك جيلنهال الذي هُمس أنّ الفيلم والأغنية يدوران حوله.
تجيد تايلور مواجهة الذكريات، فالهشاشة تنمو غالباً في تربة الشجاعة. شيء منها يعلق في صور لا تُمحى. كالشال الأحمر الذي مرّ في الفيلم، مشعلاً في داخلها لحظة نسيانه في منزل شقيقة جيلنهال. تلتقي المَشاهد بالوقائع، مع تعمّد الإبقاء على الشبه واضحاً بين البطلين في الفيلم والحقيقة.
رحلة علاقات تايلور المضطربة في دقائق تختلط فيها المشاعر: البسمة والدمعة، البدايات والنهايات. هناك الأنثى المتبدّلة قبل الحب وبعده، الخاضعة لسلطانه. لم تدم طويلاً علاقتها بجيك جيلنهال، وكانت حينذاك في الـ21 من عمرها. اليوم هي في الـ31. عشر سنوات وعشرات محاولات الانقلاب الداخلية. ووقتٌ يمر على طيش تلك العشرينية، واستحالة ثباتها على برّ.
النساء نوعان: صنف يختم بسهولة جرح العلاقات القديمة، وصنف يعلق فيه مدى الحياة. الرمادية مع الرجال نادرة. تايلور من اللواتي يعلقن في فم زجاجة، فلا الخروج هيّن ولا النزول إلى الكعب سهل. تجديد «Red» هو التوق إلى ترميم القلب. الحب المنشود عزاؤها، فتشطب من «بيوغرافي» الـ«إنستغرام» التشوّش والوحدة، وتُبقي على السعادة والحرية. إن حصل.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)