نظرية كل شيء

منظور آخر للنقد الأدبي

جينكيز آيتماتوف
جينكيز آيتماتوف
TT

نظرية كل شيء

جينكيز آيتماتوف
جينكيز آيتماتوف

في عام 1970 عندما ظهرت رواية «السفينة البيضاء» (بيلي باراخود) للكاتب القرقيزي جينكيز آيتماتوف - وهو يكتب بالروسية - أشار عدد من النقاد داخل الاتحاد السوفياتي السابق منطلقين من فهمهم للواقعية الاشتراكية إلى سلبية خاتمة الرواية التي هي عبارة عن موت الطفل الذي هو شخصية الرواية الرئيسية، فذكروا أن تلك النهاية يائسة وتكرر من جديد المفهوم السائد وقتها في النقد الواقعي الاشتراكي الرسمي: الفن يجب أن يدعو للفرح والتفاؤل. لم يسكت آيتماتوف بل رد في مقال شهير جاء بعنوان «تدقيق لا بد منه» ليقول «إن اليأس في الحياة لا يتطابق مع اليأس في الفن». وقدم آيتماتوف أسانيد من الأدب الكلاسيكي لدعم قناعته فكتب: «كيف ينظر الناس لموت جولييت لو أنه تم في الحياة الواقعية؟ إنه يأس وانتحار. ذات ضعيفة تقدم على قتل نفسها. وما هو انتحار جولييت في الفن كما رسمه شكسبير؟ يبدو لنا أنه الشيء نفسه لكن لا. فهذا (اليأس) يتحول بفضل قدرة قلم الكاتب إلى قوة هائلة للفعل المعاكس. إنه الصلابة وعدم الخضوع وعدم المساومة وهو في الوقت نفسه حب وبغض، تحد وإخلاص وهو تأكيد للذات كان ثمنه فادحاً تمثل في فقدان الحياة نفسها».
ويدافع آيتماتوف عن خاتمة «روايته السفينة البيضاء»، فيقول «نعم تم قتل الصبي في نهاية عملي الروائي، لكن التفوق الروحي والأخلاقي يظل إلى جانبه، وانتصار الشر هنا إنما هو انتصار متخيل وعابر». ويختم آيتماتوف مقاله قائلاً: «ليس المهم من هو المنتصر ومن المهزوم في العمل الأدبي، بل المهم أن يكون القارئ قادراً على القتال من أجل تلك الحقيقة التي لم تستطع شخصيات الرواية ولأسباب مختلفة تأكيدها فعلياً».
وجنكيز آيتماتوف صاحب روايات: «المعلم الأول وجميلة ووداعاً غولساري والسفينة البيضاء والكلب المبقع يركض نحو النهر وماناس وغيرها» هو من أكبر الكتاب من غير الروس ممن يكتبون بالروسية الذين شغلوا الساحة الأدبية بأفكارهم وإبداعهم، وقد ساهمت كتاباته وأفكاره في الخروج بالواقعية من تزمتها لآفاق جديدة لامست الواقعية السحرية، ففي أعماله اللاحقة ونذكر منها رواية «يوم بأطول من قرن» تتقدم رؤاه عن الواقع، وتدخل في عمق جديد ما كان يدور بخلد أي ناقد تبسيطي.
نحن إذن إزاء منظور آخر للنقد الأدبي، منظور الواقعية بما في مدارسها من تعدد وهذا المنظور الذي لا ننكر أنه أغنى الممارسة الأدبية بحاجة أيضاً لفحص للبحث عن لقاياه وجواهره وعلله وأوصابه في آن. إذ لا يمكن أن تطوى الصفحة هكذا سريعاً بسبب من الجري وراء الصرعات والعناوين.
وكما هو الواقع في الحياة معقد وشائك، فإن الواقع في الفن لا يقل تعقيداً. خذ مثلاً ما حققته ميكانيكا الكم والفيزياء الكمومية من اكتشافات أثناء رحلتها داخل المادة الدقيقة. فكم هي مذهلة بالنسبة للروائيين والشعراء نتائج هذه البحوث؟ لقد تحول علماء الفيزياء إلى شعراء بلا معامل يتعاملون مع مادة لا تراها عيونهم ومع أجسام دقت فغابت عن عدسات مناظيرهم. وحين يقول فيزيائي معاصر بإمكانية وجود الجسيم هنا وهناك في الزمن نفسه أو بالوجود والعدم في تتابع سرمدي لدى ارتطام الجسيمات فهذا مما يحرك الشعر والرواية نحو أقاليم جديدة في فهم الواقع تتخطى حاجز الواقعية السحرية نفسه. إن فهمنا للواقع الموضوعي والواقع الفني قد حدثت فيه زلزلة هائلة خلال نصف القرن المنصرم.
وكما يسعى علماء الطبيعة لتوحيد الطاقة والخروج بـ«نظرية كل شيء»، أعتقد بأنه لا بد من أن تنتظم النقد الأدبي نظرية كل شيء يدخل فيها النقد الشكلاني والبنيوي والواقعي والنفسي والذهني، وهذه تدخل العنصر الإحيائي الفيزيولوجي على النحو الذي أوضحه نعوم تشومسكي في كتابه «دراسة في اللغة والذهن». تشومسكي تحدث عن الملكة اللغوية وضرورة دراستها بواسطة علم الأحياء دون أن تقتصر تلك الدراسة على هذا العلم، وأعتقد أن ثمة ملكة إبداعية تستوجب دراستها إحيائية أيضاً فثمة عنصر فيزيولوجي في الكتابة الإبداعية على ما في غرابة مثل هذا الطرح من تصورات.
يمكن للنقد الشكلاني والبنيوي أن يدرس الأعمال الإبداعية على غرار دراسة النبات في معمل علم النبات أو دراسة الحيوان في معمل علم الحيوان. وهذا التشريح سيقود لاستنتاجات بالتأكيد، لكن على النقاد الشكلانيين والبنيويين والتفكيكييين أن يدركوا أن المكان الطبيعي لهذا النبات - هذه الشجرة، وهذا الحيوان - هذا الأرنب ليس المعمل وإنما الحياة الطليقة بكل قيودها عندها يتم إطلاق أرنب القصيدة من المعمل البنيوي ذي المباضع القميئة - تلك المباضع التي يرغب حاملوها من جراحين مستعليين أن يأسروا بها النص مرة وإلى الأبد في المعمل، وأن يحرموه من متعة الحياة الطليقة - . وهي مباضع دعية بحق لا تريد أن تكتفي بمشاركتها المتمثلة في التشريح، بل تريد أن تمضي فتقول إنها صاحبة ومالكة التطبيب كله ومالكة الكائن الذي قامت بتشريحه حتى في حياته الطليقة بعد معافاته من مباضعها.
ستقترب مناهج أخرى عديدة من هذا الحيوان الأدبي بعد أن تلتئم جراحاته إنها: نظرية كل شيء
(The theory of everything)
ويجب أن يدنو النقد الأدبي أكثر تجاه شواطئها. إن سلم النقد طويل أيضاً كما كان سلم الشعر صعباً وطويلاً على قول الشاعر الحطيئة.
- كاتب سوداني



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.