مارتن لوثر واندلاع العاصفة (2)

مارتن لوثر
مارتن لوثر
TT

مارتن لوثر واندلاع العاصفة (2)

مارتن لوثر
مارتن لوثر

تابعنا كيف وقف الراهب الشاب مارتن لوثر أمام فساد الكنيسة من خلال رفضه عمليات بيع الكنيسة صكوك الغفران للعامة ضمانا لعفو المولى عنهم أو عن ذويهم اتقاء لعذاب المطهر أو الآخرة، وقد قام بتعليق رسائله الخمسة والتسعين على كنيسة فيتنبورغ في ألمانيا في عام 1517، ويفند فيها أسباب فساد الكنيسة وإفسادها للرعية من خلال هذه العملية، واصلا إلى قاعدة فكرية مهمة كانت مغيبة عن عمد في الكنيسة، وهي أن الخلاص يبدأ بالتوبة والندم، وأن الله هو واهب الغفران، وأنه لا حاجة لوساطة أحد، وعلى رأسهم البابا وكنيسته.
وعلى الرغم من أن البابا لم يكن مستعدا لقبول مثل هذه المعارضة من قبل من هو في أسفل السلم الكنسي، من وجهة نظره، أو غيره، فإن حركة الاعتراض التي قام بها الراهب الشاب فتحت الباب على مصراعيه أمام الرغبة في التغيير التي كانت طبقة واسعة من الملوك والأمراء الألمان يشتاقون إليها، بينما كان المفكرون يتمنونها، والرعية ترغبها ولكنها تخشى الخوض فيها.
بمجرد أن قام مارتن لوثر بطرح معارضته، تم عرض الأمر على البابا الذي لم يكن يتخوف كثيرا في بداية الأمر ولم يدرك الخطورة، خاصة أن الكنيسة لم يكن غريبا عليها أمثال مارتن لوثر، وكان أهمهم «Huss» الذي تم إحراقه بعد محاكمته بتهمة الهرطقة ومعارضة الكنيسة.. ولكنه لم يكن يدرك أن بعض الأمراء الألمان رأوا في مارتن لوثر أداة للتغيير الاجتماعي والسياسي الذي كانوا ينشدونه، خاصة فريديريك الحكيم، الذي كان ضمن سلسلة من الأمراء الأقوياء ممن يقومون باختيار الإمبراطور، حيث رأى الرجل في هذه الحركة فرصة مواتية للإطاحة بسلطان الكنيسة، ولذلك سعى على الفور لأن تكون محاكمة مارتن لوثر في الأراضي الألمانية وليس في روما حماية له من بطش البابا.
وبالفعل انعقدت المحاكمة في مدينة أوجسبورغ، لكنها لم تسفر عن شيء محدد؛ حيث رفض مارتن لوثر التنازل عن آرائه. وفي عام 1519 جرى حوار آخر بينه وبين ممثلي الكنيسة، انتهى مرة أخرى برفض التراجع عن أفكاره، مؤكدا أن الكتاب المقدس لم يشتمل على أي فقرة تشير إلى سلطة البابا في منح الغفران، ولكنه لم يدرك أن محاكميه استدرجوه لكي يعلن رفضه لحرق «Huss»، فأصبح بذلك مدانا، وتم عزله كنسيا ومنحه 60 يوما للتوبة، ولكن الرجل كان عاقدا العزم على الاستمرار في موقفه، وعندما جاء قرار البابا بذلك، قام بحرقه في ميدان فيتنبورغ أمام الكنيسة نفسها التي علق عليها رسائله، ثم كرس وقته لمهاجمة الكنيسة وسلوكها، ووصفها في كتابه الشهير «الأسر البابلي للكنيسة» بأنها خرجت عن النص المقدس، ورفض كل الطقوس التي أضافتها الكنيسة إلى سلطانها باستثناء التعميد والتناول.
واقع الأمر أن الإمبراطور الألماني تشارلز الخامس كان منهمكا في صراعاته الداخلية، وتأخر كثيرا في التحرك لاحتواء حركة لوثر، وعندما بدأ يستفيق تدريجيا في عام 1521 دعا إلى مجلس في مدينة فورمز، وطلب مثول مارتن لوثر أمامه؛ حيث طلب منه مرة أخرى التراجع عن أفكاره، ولكنه أعاد التأكيد على موقفه مرة أخرى. وعند هذا الحد بدأت مرحلة صراع مفتوح بين الرجلين، وفي طريق عودته من المجلس وحماية له، قام فردريك الحكيم باختطاف مارتن لوثر وتحديد إقامته بعيدا عن أيدي الكنيسة والإمبراطور، حيث تم استبقاؤه في أحد القصور التابعة له لمدة عام؛ حيث عكف على ترجمة العهد الجديد ليستطيع العامة التعرف عليه بلا أي تدخل خارجي؛ حيث كان القداس الإلهي والمواعظ تتم باللغة اللاتينية من قبل الكنيسة للحفاظ على سلطانها بصفتها مسفرا مطلقا للكتاب المقدس. وفي هذا المكان بدأ مارتن لوثر يضع المبادئ الأساسية لمذهبه الجديد، فكان أول ما طالب به هو رفض مفهوم الرهبنة من الأساس، وتأكيدا لذلك تزوج من إحدى الراهبات التي اقتنعت برأيه وهربت من الدير، فكان من ضمن تعاليمه الإضافية أيضا رفض كل أنواع التزين في الكنائس، لأن بيوت الرب يجب ألا تزخر بالثراء الدنيوي من الذهب والفضة، كما تنصل تماما من رفات القديسيين الذي رأى أنه يخالف العقيدة المسيحية، وأكد على العلاقة المباشرة بين الله والعبد دون الحاجة لوجود وساطة الكنيسة التي يقتصر دورها على التعريف بالدين. كما رفض كثيرا من الطقوس التي كان البابا يقوم بها، وأدخل اللغة الألمانية أداة للتخاطب بين الكنيسة اللوثرية والعامة.
وبعد خروجه من العزلة، بدأ الرجل يجهر، وبدأ مريدوه يأتونه من كل اتجاه، وبدأ الأمراء يؤيدونه أيضا للتخلص من نفوذ الكنيسة عليهم وعلى ممتلكاتهم ورعاياهم، خاصة أن الرجل أكد على أهمية إعادة زمام السلطة للملوك والأمراء بعدما طغت عليها السلطة الروحية للكنيسة.
وكما هي الحال في الثورات الفكرية أو الدينية، فإن تبعاتها الاجتماعية والسياسية لا تنتهي باندلاعها، فعلى غرار الملوك والأمراء، رأى المزارعون ضرورة استغلال هذه المتغيرات لنيل حقوقهم؛ حيث كانوا يعانون بشدة من وطأة العيش في النظام الإقطاعي القاسي، وكانت هناك فئة غير قليلة منهم لا تزال تعاني من السخرة، فكانوا يعيشون في شظف وفقر شديدين، واندلعت نار الثورة تنهش في الإقطاعيات الألمانية؛ حيث لجأ المزارعون للثورة المسلحة من أجل الحصول على المطالب بالتحرر أو خفض الضرائب أو التحرر من السخرة، وقد رأوا في مارتن لوثر وتعاليمه ضالتهم، ولكن المصلح الديني لم يؤيد ثورتهم، بل حاول في البداية احتواءها من خلال الوساطة، ولكنه فشل، فانضم إلى النخبة والنبلاء والملوك ضدهم، وأدان ثورتهم، وأقر حق استخدام القوة ضدهم، وبالفعل أخمدت ثورتهم بعد مقتل ما يقرب من مائة ألف مزارع، وهو ما أثر سلبا على هذه الحركة الوليدة، حيث رأى كثير من المزارعين أنها لا تحقق أمانيهم، ولكنه في حقيقة الأمر كان مصلحا دينيا فقط، ولم تدخل تعاليمه في السياسة والنظم الاجتماعية إلا بالقدر القليل وكلما استطاع تفادى الأمر.
وقد اشتعلت الأقاليم الألمانية بحالة من الانقسام الديني بين مؤيد للمذهب اللوثري ومؤيد للكنيسة الكاثوليكية، وبات الصراع وشيكا مرة أخرى حول المستقبل الديني لهذه الأقاليم، وفي عام 1530 قام الإمبراطور بمحاولة أخرى لرأب الصدع بين رجال الكنيستين، وعقد مجلسا في مدينة أوجسبورغ مرة أخرى، حيث صاغ أحد معاوني مارتن لوثر صيغة توافقية يمكن أن تمثل حلا وسطا بين الكنيستين، ولكن البابا في روما رفضها تماما وأصر على القضاء على هذه الحركة الثائرة داخل كنيسته، وكان ينتظر تفرغ الإمبراطور ليضع الجنود تحت إمرته للقضاء على هذه الحركة الرافضة بقوة السلاح، وفي عام 1546 اندلع الصراع المسلح في الأقاليم الألمانية بين قوات الإمبراطور نيابة عن البابا في روما من ناحية، والقوات التي شكلتها المقاطعات المؤيدة لمارتن لوثر، واستمرت هذه الحرب حتى عام 1555 عندما عقد ما هو معروف باسم «صلح أوجسبورغ» بعدما أيقن الإمبراطور أن الصراع العسكري لن يحسم الأمر، وهنا تم إقرار مبدأ مهم للغاية أثر مباشرة في مستقبل أوروبا؛ بل غيره تماما من الناحية السياسية، وهو مبدأ «من يملك، يحدد المذهب» والمعروف باللاتينية باسم «cuius regio eius religio»، فكان هذا بداية لمفهوم «السيادة» في القانون الدولي، وبداية فكرية وعملية لمفهوم «الدولة القومية» المبنية على مؤسسات مدنية، ومنذ ذلك التاريخ صارت أوروبا على دربها السياسي الذي تطور على النحو الذي نعرفه اليوم.
وهكذا نجح مارتن لوثر في تغيير دفة التاريخ الحديث لأوروبا ووضعها على نهج مختلف تماما عما كانت عليه، فلقد كسر وحدة الكنيسة الكاثوليكية وحلمها الكبير المتمثل في «إله واحد.. إمبراطور واحد»، وهنا يمكن القول إن مارتن لوثر هو الذي أخرج أوروبا من مفهوم الأممية ومهد لمفهوم الدولة السيادية، وقد كان من نتائج حركة هذا الرجل أنه فتح الباب على مصراعيه أمام التعدد المذهبي في أوروبا، الذي كان له أكبر الأثر في ظهور فكر مختلف في بعض دولها.. كما سنرى.



تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

تشون دو - هوان (رويترز)
تشون دو - هوان (رويترز)
TT

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

تشون دو - هوان (رويترز)
تشون دو - هوان (رويترز)

سينغمان ري (الصورة الرئاسية الرسمية)

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

وفي سلسلة من التاريخ المظلم لقادة البلاد، عزل البرلمان الرئيسة بارك غيون - هاي، التي كانت أول امرأة تتولى منصب الرئاسة الكورية الجنوبية، ثم سُجنت في وقت لاحق من عام 2016. ولقد واجهت بارك، التي هي ابنة الديكتاتور السابق بارك تشونغ - هي، اتهامات بقبول أو طلب عشرات الملايين من الدولارات من مجموعات اقتصادية وصناعية كبرى.

وفي الحالات الأخرى، انتحر روه مو - هيون، الذي تولى الرئاسة في الفترة من 2003 إلى 2008، بصورة مأساوية في مايو (أيار) 2009 عندما قفز من منحدر صخري بينما كان قيد التحقيق بتهمة تلقي رشوة، بلغت في مجموعها 6 ملايين دولار، ذهبت إلى زوجته وأقاربه.

وعلى نحو مماثل، حُكم على الرئيس السابق لي ميونغ - باك بالسجن 15 سنة في أكتوبر (تشرين الأول) 2018 بتهمة الفساد. ومع ذلك، اختُصرت فترة سجنه عندما تلقى عفواً من الرئيس الحالي يون سوك - يول في ديسمبر (كانون الأول) عام 2022.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ أدين تشون دو - هوان، الرجل العسكري القوي والسيئ السمعة، الملقّب بـ«جزار غوانغجو»، وتلميذه الرئيس نوه تاي - وو، بتهمة الخيانة لدوريهما في انقلاب عام 1979، وحُكم عليهما بالسجن لأكثر من 20 سنة، ومع ذلك، صدر عفو عنهما في وقت لاحق.

بارك غيون- هاي (رويترز)

الأحكام العرفية

باعتبار اقتصاد كوريا الجنوبية، رابع أكبر اقتصاد في آسيا، وكون البلاد «البلد الجار» المتاخم لكوريا الشمالية المسلحة نووياً، تأثرت كوريا الجنوبية بفترات تاريخية من الحكم العسكري والاضطرابات السياسية، مع انتقال الدولة إلى نظام ديمقراطي حقيقي عام 1987.

والواقع، رغم وجود المؤسسات الديمقراطية، استمرت التوترات السياسية في البلاد، بدءاً من تأسيسها بعد نيل الاستقلال عن الاستعمار الياباني عام 1948. كذلك منذ تأسيسها، شهدت كوريا الجنوبية العديد من الصدامات السياسية - الأمنية التي أُعلن خلالها فرض الأحكام العرفية، بما في ذلك حلقة محورية عام 1980 خلّفت عشرات القتلى.

وهنا يشرح الصحافي الهندي شيخار غوبتا، رئيس تحرير صحيفة «ذا برنت»، مواجهات البلاد مع الانقلابات العسكرية وملاحقات الرؤساء، بالقول: «إجمالاً، أعلنت الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية 16 مرة على الأقل. وكان أول مرسوم بالأحكام العرفية قد أصدره عام 1948 الرئيس (آنذاك) سينغمان ري، إثر مواجهة القوات الحكومية تمرداً عسكرياً بقيادة الشيوعيين. ثم فرض ري، الذي تولى الرئاسة لمدة 12 سنة، الأحكام العرفية مرة أخرى في عام 1952».

مع ذلك، كان تشون دو - هوان آخر «ديكتاتور» حكم كوريا الجنوبية. وتشون عسكري برتبة جنرال قفز إلى السلطة في انقلاب إثر اغتيال الرئيس بارك تشونغ - هي عام 1979، وكان بارك جنرالاً سابقاً أعلن أيضاً الأحكام العرفية أثناء وجوده في السلطة لقمع المعارضة حتى لا تنتقل البلاد رسمياً إلى الديمقراطية. نيودلهي: «الشرق الأوسط»