يُلاحَظُ في أوساطنا الثقافية العربية، والإعلامية منها بخاصة، خفوتٌ واضح في تناول الموضوعات العلمية لصالح الإفراط في نمط محدّد من الكتابات الأدبية العامّة البعيدة عن نبض العصر والموضوعات الإشكالية السائدة فيه، وتتفاقم هذه الصورة الثقافية «الكئيبة» إذا ما أجرينا مسحاً سريعاً للموضوعات المترجمة الشائعة في بيئتنا العربية. يمكن للقارئ المدقق أن يرى خفوتاً واضحاً في موضوعات على شاكلة (السياسات العلمية والتقنية، سوسيولوجيا العلم وتأريخه، الأخلاقيات العلمية... إلخ)؛ وإذا مضينا نحو مفهومات أكثر تخصصية وتأثيراً في تشكيل مستقبل الكائن البشري يبدو لي أن مفهوم (الإنسانية العابرة للكائن البشري الكلاسيكي Transhumanism) هو الأكثر تداولاً في الأدبيات العلمية ومبحث المستقبليات لكونه مفهوماً علمياً استراتيجياً؛ وتقنياً مركّباً له مفاعيله المؤثرة في تحديد شكل الوجود البشري المستقبلي بعد عقود ليست بعيدة من يومنا هذا.
يرى علماء وبحاثة مستقبليون كثرٌ أن عصر الإنسان – السايبورغ - Human-Cyborg قادم لا محالة. يمثل السايبورغ كائناً بشرياً تمّ ربط العديد من المستزرعات Implants المحوسبة بشكل مباشر في دماغه، وكذلك العديد من الإضافات الميكانيكية إلى أطرافه وأجهزته الحسية، وبهذا الإجراء سينال الإدراك العقلاني البشري (وكذلك المزاج الشخصي) حصتيهما من التعزيز الموجّه باستخدام عقاقير مصممة لهذا الغرض. من الواضح أن كائناً بشرياً معدّلاً مثل هذا يستلزم سياسة بيولوجية تختلف جوهرياً عن السياسة البيولوجية الحالية.
جادل جيمس هيوز James Hughes (عالم أميركي في حقل علم الاجتماع والأخلاقيات البيولوجية، ولد عام 1961) بأنّ السياسات البيولوجية Biopolitics باتت تنبثق باعتبارها بُعداً أساسياً جديداً في خضم الآراء السياسية السائدة حول موضوعة الإنسانية العابرة للكائن البشري الكلاسيكي، وبحسب نموذج هيوز فإن السياسات البيولوجية ترتبط مع البعدين السياسيين الأكثر مألوفية: السياسات الثقافية والسياسات الاقتصادية وعلى نحوٍ تُشكّل فيه السياسات الثلاث (البيولوجية والثقافية والاقتصادية) فضاءً سياسياً للرأي ثلاثي الأبعاد.
شهد العالم في بدايات تسعينيات القرن الماضي الكيفية التي ناصر فيها كثيرون السياسات الثقافية الليبرالية والسياسات الاقتصادية الداعمة للأسواق الحرّة في حقبة تغوّل النيوليبرالية، وتعاضدت تلك السياسات مع السياسات البيولوجية المؤيدة للإنسانية العابرة للكائن الكلاسيكي، وفي كتابه الذي نُشِر عام 2004 بعنوان (المواطن السايبورغي Citizen-Cyborg) يطلِق هيوز مفهوم (الإنسانية الديمقراطية العابرة للكائن الكلاسيكي) التي أراد منها جعل السياسات البيولوجية العابرة للكائن الكلاسيكي متمايزة عن السياسة البيولوجية المحافظة والليبرالية، وفي الوقت نفسه تكون وثيقة الصلة مع السياسات الاقتصادية - الاجتماعية الديمقراطية والسياسات الثقافية الليبرالية. يجادل هيوز في كتابه هذا بأننا سنحقّق أفضل مستقبل ممكن للإنسان العابر للكائن الكلاسيكي عندما نتوثّق من أن التقنيات التي نستخدمها أمينة، وفي مستطاع الجميع بلوغها والاستفادة الفضلى منها، وأن نحترم حق الأفراد في التحكّم بأجسادهم. تتمثلُ الخصيصة الجوهرية للإنسانية الديمقراطية العابرة للكائن الكلاسيكي في أنّها تُفرِد دوراً أعظم بكثير للحكومات في ضبط التقنيات المستحدثة من أجل ضمان السلامة والأمان، فضلاً عن التأكّد بأن الفوائد المتوقعة من تلك التقنيات الجديدة ستكون متاحة للجميع وليس لمجرد أقلية نخبوية من الأثرياء أو الدُّهاة التقنيين.
يمكن للإنسانية العابرة للكائن الكلاسيكي، من حيث المبدأ، أن تُدمَجَ مع طائفة واسعة من الرؤى السياسية والثقافية، وثمّة العديد من التمثّلات الممكنة لمثل هذه الرؤى المُدمجة، وإحداها - التي لا يمكن تحسّس مفاعيلها غالباً - هي مزاوجة الإنسانية العابرة للكائن الكلاسيكي مع رؤية ثقافية ذات منحى يتّسم بالمُحافظة بعض الشيء؛ ولكن برغم هذه الجرعة المحسوبة من النزعة المحافظة حتى لدى أكثر الليبراليين البيولوجيين ميلاً إلى تجريب طرائق ثورية فلا ينبغي أن يذهب الظنّ بالمرء، على كل حال، إلى اعتبار هذا المسار هو الذي اختاره المحافظون الثقافيون بكل طواعية وأريحية فكرية؛ بل العكس هو ما حصل: تنادى هؤلاء المحافظون الثقافيون للتكتّل في جبهة مضادة للإنسانية العابرة للكائن الكلاسيكي، وكانت ثمرة تكتّلهم نشوء «نزعة بيولوجية محافظة» لا تفتأ أن تُبدي إمارات معارضة عالية الصوت لاستخدام التقنية في تعظيم القدرات البشرية أو في تعديل جوانب محدّدة في طبيعتنا البيولوجية. يُلاحظُ في هذا الشأن أنّ الشخوص المتكاتفين تحت لواء النزعة البيولوجية المحافظة إنما جاءوها من جماعات ذات مشارب متباينة قلما تلتقي في مُتبنّياتها التقليدية: المحافظون الدينيون المنتمون للتيارات اليمينية تكاتفوا مع الدعاة البيئيين المنضوين تحت لواء الأجنحة السياسية اليسارية، وهؤلاء جميعاً تعاضدوا مع المناهضين للعولمة، ووجد هؤلاء أسبابهم المشتركة للوقوف بوجه الإنسانية العابرة للكائن الكلاسيكي؛ إذ - على سبيل المثال - تشارك هؤلاء جميعهم مناهضة التعديل الوراثي للكائنات البشرية.
انضمّت الكاتبات النسويات إلى جانبَي هذه المجادلة المحتدمة؛ فثمة نسويات بيئيات نظرن بعين الشك والريبة تجاه التقنية الحيوية، وبخاصة تجاه استخدامها في إعادة تشكيل الأجساد (النسوية) أو ضبط التكاثر البشري، ورأينَ في هذه التقنيات تمديداً لنطاق الاستغلال الباترياركي (الأبوي) التقليدي تجاه النساء؛ في حين رأت أخريات من النسويات أن هذه التقنيات الحيوية ما هي إلّا عرَضٌ من أعراض الهوس بالسيطرة على الجسد، وعدم الثقة بالنفس، والعقلية التي اعتادت التقزّز من موضوعات الجسد. قدّمت بعض النسويات، من جانب آخر، تحليلاً سيكولوجياً للإنسانية العابرة للكائن الكلاسيكي، وخلُصن إلى أنّها تمثّل عقلنة خجولة لعدم النضوج المترسّخ في الذات، فضلاً عن الفشل الاجتماعي؛ لكن ثمّة عدد غير قليل من النسويات اللواتي أبدين أمارات الترحيب الحارة بالقدرة التحريرية التي تستطيع التقنية الحيوية الموعودة التكفّل بأعبائها.
فرانسيس فوكوياما، مُنظّر نهاية التأريخ والانتصار الحاسم لليبرالية الغربية، نراه يعاضد توجهاً محافظاً فيما يخصّ السياسات البيولوجية، ويتمثل هذا التوجّه في مناصرته القوية لسياسات الحزب الجمهوري في ميدان الأخلاقيات البيولوجية (لنتذكّرْ أنه انتخب عضواً في مجلس الرئيس جورج بوش للأخلاقيات البيولوجية)، وقد وصف الإنسانية العابرة للكائن الكلاسيكي بأنها «الفكرة الأكثر خطراً في العالم».
ثمة الكثير من المشتركات التي تجمع مُناصري نزعة المُحافظة البيولوجية مع نظرائهم مناصري النزعة الليبرالية في الإنسانية العابرة للكائن الكلاسيكي: يتفق الطرفان على أننا نواجه أفقاً مستقبلياً حقيقياً ستلعب فيه التقنية دوراً محورياً في إحداث انتقالة جوهرية في الوضع البشري، ويتفق الطرفان كذلك على أن هذه الرؤية المشتركة بينهما بشأن مركزية الدور الاستثنائي للتقنية في صناعة المستقبل البشري تفرض التزاماً مشدّداً على الجيل الحالي للتفكّر عميقاً بشأن المترتّبات العملية والأخلاقية على هذه الرؤية. يتفق الطرفان كذلك بشأن ضروب القلق الواضحة حول المخاطر الطبية والتأثيرات الجانبية التي قد تظهر من الممارسات غير المسبوقة (ولو أنّ مُناصري نزعة المحافظة البيولوجية يخشون من نجاح هذه الممارسات التقنية أكثر من خشيتهم لفشلها المحتمل)، كما يتفق الفريقان بأنّ التقنية بعامّة (والطب على وجه التخصيص) لها دور ذو مشروعية قانونية وأخلاقية كاملة يتوجب النهوض به، رغم أنّ فريق المحافظين يميل للوقوف بالضد من العديد من الاستخدامات الطبية التي تذهب لمجاوزة حدود العلاج والدخول في حقل التعزيز التقني البيولوجي. يتفق الطرفان كذلك على شجب برامج تحسين النسل العنصرية والمموّلة من الحكومة كتلك التي سادت في بعض المفاصل الزمنية من القرن العشرين (سياسات تحسين النسل Eugenics خلال فترة الحكم النازي في ألمانيا)، ويشير المحافظون البيولوجيون إلى إمكانية أن يطال التآكل بعض القيم الإنسانية الرفيعة بسبب التطويرات التقنية المستديمة، وهم يرون ضرورة أن يكون مناصرو الإنسانية العابرة للكائن الكلاسيكي أكثر حساسية لهذه التوجّسات القيمية.
من جانب آخر، يؤكّد مناصرو الإنسانية العابرة للكائن الكلاسيكي على الأهمية الاستراتيجية القصوى للتطويرات الأصيلة التي يمكن أن تطال الرفاهية البشرية والتطوّر الإنساني - تلك التطوّرات التي لا يمكن تحقيقها إلا عن طريق الوسائل التقنية القادرة على تحقيق التحوّل التقني للكائن البشري، وهم يرون أنّ في استطاعة مُناصري نزعة المحافظة البيولوجية أن يطوّروا ذائقة أكثر تقبّلاً لإمكانية بلوغ قيم عظيمة - ربّما لم نختبرها من قبلُ - وذلك عن طريق الذهاب، وبشجاعة فائقة، إلى أبعد مما تفرضه علينا محدودياتنا البيولوجية الحالية.
المواطن «السايبورغي»
السياسات البيولوجية الراهنة وتصوّر إنسان المستقبل
المواطن «السايبورغي»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة