قمة «أبيك» تكشف خلافات باردة تحت السطح

بايدن يلتقي الرئيس الصيني افتراضياً لأول مرة الاثنين

TT

قمة «أبيك» تكشف خلافات باردة تحت السطح

تعهد الرئيس الأميركي جو بايدن، بتعزيز العلاقات مع اقتصاديات منظمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي (أبيك) وتشجيع التجارة والاستثمار بشكل عادل ومفتوح وضمان حرية وانفتاح منطقة المحيطين الهندي والهادي. ووافق قادة دول المحيط الهادي على التعاون لتقاسم لقاحات فيروس «كورونا» وتقليل انبعاثات الكربون، لكنهم فشلوا في التوصل إلى اتفاق حول استضافة الولايات المتحدة للمحادثات في عام 2023، ما كشف عن انقسامات عميقة تكمن تحت السطح بين الدول الأعضاء في المنظمة.
وشارك الرئيس الأميركي جو بايدن، والرئيس الصيني شي جينبينغ، في أعمال القمة التي استضافتها رئيسة الوزراء النيوزيلندية جاسيندا أرديرن، أمس (الجمعة)، عبر الإنترنت، إضافةً إلى 21 زعيماً من دول آسيا والمحيط الهادي. ومن المقرر أن يعقد الرئيس الأميركي والزعيم الصيني شي جينبينغ قمة افتراضية، يوم الاثنين، وسط توترات مستمرة بشأن التجارة وحقوق الإنسان وجزيرة تايوان، والأنشطة العسكرية التي تقوم بها الصين في بحر الصين الجنوبي.
ومهّدت قمة «أبيك»، أمس (الجمعة)، لخفض مستويات التوتر بين واشنطن والصين. وكانت واشنطن وبكين تتجادلان حول أصل ومنشأ فيروس «كورونا»، وطموحات الصين النووية وتحركاتها العسكرية، إضافة إلى الخلاف حول تايوان. ويعتقد المسؤولون الأميركيون أن التواصل المباشر بين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم هو أفضل طريق لمنع العلاقة من الانزلاق نحو صراع مباشر. ويمثل أعضاء منظمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي ما يقرب من 3 مليارات شخص ونحو 60% من الناتج المحلي الإجمالي.
وتواجه الكثير من الدول في آسيا تحدي مواجهة النفوذ الصيني والأميركي المتزايد على الجبهتين الاقتصادية والجيوسياسية. وتطالب الصين بأجزاء شاسعة من بحر الصين الجنوبي وتسارع في تعزيز ترسانتها العسكرية وترفض طلب تايوان الانضمام إلى اتفاقية التجارة. وقال المسؤولون إن الاجتماعات التمهيدية لأعضاء منظمة «أبيك» أحرزت تقدماً كبيراً في الموافقة على خفض وإلغاء كثير من التعريفات الجمركية والقيود على اللقاحات والمنتجات الطبية المهمة لمكافحة تفشي الوباء. ورغم تلك الاتفاقات كشف الاجتماع عن عقلية الحرب الباردة في النقاشات، كما كشف عن صراع متزايد وراء الكواليس بين الولايات المتحدة وروسيا من جهة، وصراع آخر بين الولايات المتحدة والصين من جهة أخرى، حيث رفضت روسيا والصين دعم طلب الولايات المتحدة استضافة القمة القادمة وطلبت قيام واشنطن أولاً برفع الدبلوماسيين الروس من القائمة الأميركية للعقوبات. وأشارت مصادر بالبيت الأبيض إلى أن الجانب الأميركي رفض المطلب الروسي من منطلق حماية الأمن القومي الأميركي وأن قضية طرد الدبلوماسيين الروس غير قابلة للتفاوض. وقال البيت الأبيض في بيان إن الرئيس بايدن شدد على التعاون في التقنيات الرقمية من أجل تعزيز الأمن السيبراني والاقتصاد الرقمي واقتصاديات الطاقة المتجددة لمكافحة أزمة المناخ.
وشددت إدارة بايدن على اهتمامها بتجنب المواجهة مع بكين رغم الخلافات، وأشار مسؤولون إلى أن بكين أيضاً حريصة على تجنب المواجهة مع واشنطن، وترغب في التركيز على منافسة إيجابية وتدفع من أجل التعاون في قضايا مثل أزمة التغير المناخي وإنهاء جائحة «كوفيد - 19»، وأكد مسؤول بالبيت الأبيض أن الاتفاق الإطاري لتعزيز التعاون لمواجهة التغير المناخي الذي تم إبرامه بين الولايات المتحدة والصين خلال مؤتمر «كوب 26» باسكوتلندا أرسل إشارة إيجابية للغاية لقمة بايدن وشي يوم الاثنين.
وتحرص إدارة بايدن على الحد من التوترات مع بكين حول تايوان ومواقف بكين من هونغ كونع والأقليات المسلمة في إقليم شينغ يانغ.
ويقول المحللون إن العلاقات الأميركية الصينية تتذبذب بين التعاون والخلاف خصوصاً مع تراكم التوترات في ملفي التجارة وحقوق الإنسان في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب، وينتقد الجمهوريون والديمقراطيون في الكونغرس تحركات الصين وطموحاتها المتزايدة في بحر الصين الجنوبي. وتزايدت التوترات بشكل خاص حول تايوان حيث نفّذت بكين العشرات من المهام الجوية بالقرب من الجزيرة وأعقبت تلك الطلعات الجوية بسلسلة من المناورات البجرية، مما يزيد الضغط على إدارة الرئيس بايدن في تعامله مع الصين.
وتشعر واشنطن بالقلق من استمرار الحشد العسكري الصيني بما في ذلك قيام بكين باختبار سلاح تفوق سرعته سرعة الصوت، وخطط بكين لامتلاك أكثر من ألف رأس نووي بحلول عام 2030، ومؤخراً قامت الصين ببناء نماذج لحاملة طائرات أميركية وسفن حربية أخرى بغرض التدريب العسكري. وأبدت الصين انزعاجها من الاتفاقات الأمنية التي أبرمها بايدن في منطقة المحيطين الهندي والهادي ومنح أستراليا غواصات نووية، وسعيه لتعزيز الروابط الاقتصادية مع الدول الآسيوية وتصريحاته حول إدانة معاملة الصين للأقليات الإيغور المسلمة في منطقة شينغ يانغ شمال غربي الصين. وطلبت بكين من إدارة بايدن إزالة الرسوم الجمركية التي فرضها سلفه ترمب، لكن إدارة بايدن أبقتها سارية وطالبت بكين بالدخول في محادثات تجارية مباشرة.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟