دانييل أورتيغا... العائد لقيادة نيكاراغوا بعكس إرثه الثوري

الزعيم الجديد ـ القديم في زمن خفوت البريق

دانييل أورتيغا... العائد لقيادة نيكاراغوا بعكس إرثه الثوري
TT

دانييل أورتيغا... العائد لقيادة نيكاراغوا بعكس إرثه الثوري

دانييل أورتيغا... العائد لقيادة نيكاراغوا بعكس إرثه الثوري

يوم الأحد الفائت ذهبت نيكاراغوا إلى انتخابات رئاسية مفصّلة على مقاس زعيم جبهة التحرير الساندينية والرئيس الحالي دانييل أورتيغا الذي كان يترشّح لولاية رابعة متتالية منذ عام 2007، وللعلم سبق لأورتيغا أن تولّى الرئاسة في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي بعد سقوط الطاغية أناستازيو سوموزا، الذي تفجّرت الثورة الساندينية ضدّه. وكما كان متوقعاً فاز أورتيغا بغالبية ساحقة، أفادت النتائج الرسمية بأنها تجاوزت 75% من الأصوات، في حين بلغت نسبة المشاركة 67% من المواطنين، دائماً وفقاً للمصادر الرسمية.
منذ الإعلان عن موعد الانتخابات وقرار أورتيغا الترشّح، إلى جانب زوجته لمنصب نائب الرئيس الذي تتولّاه حالياً، لم يكن هناك أي شك في أن الفوز سيكون معقوداً لقائد الثورة التي أبهرت العالم كنسخة محسنة للثورة الكوبية، قبل أن يتحوّل قائدها بعد عقدين من تولّيه الحكم إلى نسخة مشوّهة من الطاغية الذي ترك الجامعة ودخل السجن وتحمل الأَسْر من أجل إسقاطه.
نعم، كانت نتيجة الانتخابات الرئاسية في نيكاراغوا محسومة قبل أشهر من إجرائها، خصوصاً أن أورتيغا كان قد تكفّل بإلقاء القبض على جميع منافسيه المحتملين الذين زجّ سبعة منهم في السجن بتهم مدبّرة، في حين اختار الباقون طريق المنفى الذي دفعته إليه ذات يوم ديكتاتورية سوموزا. بيد أن المفاجأة الوحيدة التي لم يكن أورتيغا يتوقعها هو الإجماع الدولي على رفض الانتخابات ونزاهتها، بل وصفها بـ«المهزلة»، والعقوبات التي أعلنتها كل من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي ضد النظام الذي لم يعُد له من حليف سوى كوبا وفنزويلا.
- بطاقة هوية
وُلد دانييل أورتيغا يوم الحادي عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1945 في بلدة تدعى «الحرّية» كانت مشهورة بمعارضة سكّانها الشديدة لنظام سوموزا، الذي غالباً ما كان يقطع عنها قنوات التموين ويلاحق معارضيه من أبنائها. ومنذ دخوله الجامعة في عام 1963 انخرط أورتيغا في صفوف «الحركة الساندينية» التي أسّسها البطل القومي أوغوستو ساندينو الذي قاد حرب التحرير ضد جيش الاحتلال الأميركي لنيكاراغوا في العقد الثالث من القرن الفائت. لكنه ما لبث أن ترك الدراسة ليؤسس مع مجموعة من رفاقه «الجبهة الوطنية للتحرير الوطني» بدعم من الثورة الكوبية.
في أواخر عام 1967 وقع أورتيغا في قبضة الأجهزة الأمنية بعد قيادته عملية نفّذها ثوّار الجبهة لسرقة أحد المصارف في العاصمة ماناغوا. وأمضى سبع سنوات في السجن إلى أن جرى الإفراج عنه مقابل إطلاق سراح عدد من كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين المقرّبين من سوموزا، إلى جانب السفير الأميركي في ماناغوا. وكانت الجبهة قد اختطفت هؤلاء خلال اقتحام منزل حاكم المصرف المركزي حيث كانوا يتناولون طعام العشاء.
وخلال السنوات الأخيرة من الثورة الساندينية لجأ أورتيغا إلى كوستاريكا، حيث تعرّف على زوجته روزاريو موريّو التي كانت أيضاً من ناشطي الجبهة، وتساكنا إلى أن تزوّجها لاحقاً وله منها سبعة أولاد. ويؤكد العارفون أن لروزاريو تأثيراً كبيراً على أورتيغا، الذي عيّنها بعد انتخابه في المرة الماضية نائباً له، ثم ترشّحت إلى جانبه للمنصب نفسه في هذه الانتخابات الأخيرة.
- نجاح الثورة عام 1979
في عام 1979 غادر الديكتاتور السابق سوموزا نيكاراغوا أمام تقدّم قوّات الثوّار التي دخلت العاصمة في 18 يوليو (تموز)، منهياً بذلك حكم العائلة التي تولّت مقاليد السلطة في نيكاراغوا طيلة أربعة عقود. ومع دخول الثوّار إلى ماناغوا عاد أورتيغا من المنفى وتوجّه إلى العاصمة المؤقتة ليون لينضمّ إلى الحكومة المؤقتة للإعمار الوطني. وبعدما قرّرت «الجبهة الساندينية» حلّ الحرس الوطني الذي كان عماد نظام سوموزا، تشكّل «الجيش الشعبي السانديني» الذي تولّى قيادته اومبرتو أورتيغا، شقيق دانييل أورتيغا.
وبعدما احكم أورتيغا سيطرته على «الجبهة الساندينية» وعلى الحكومة الثورية الأولى، دعا إلى إجراء انتخابات عامة في 4 نوفمبر 1984 فاز فيها وشكّل أول حكومة ثوريّة في نيكاراغوا، نفّذت الكثير من أفكار برنامج «الجبهة الساندينية» المستلهَمة من النظام الاشتراكي الماركسي اللينيني وثورة فيدل كاسترو في كوبا. وانتهجت سياسة تقدّمية بتعاون وثيق مع الدول التي كانت تُعرف يومذاك بالكتلة الشيوعية. وطبعاً، هذا الأمر دفع الحكومة الأميركية إلى دعم ومساعدة وتنظيم العناصر المناهضة للثورة من فلول النظام السابق المعروفة يومها باسم «كونترا»... التي أثار تمويلها فضيحة سياسية شهيرة في الولايات المتحدة.
- الحرب ضد «الكونترا»
لقد أدت تلك المواجهة المسلحة إلى حرب أهلية أغرقت البلاد في أزمة سياسية واقتصادية خانقة، اضطر أورتيغا، بسببها، وتحت الضغوط الإقليمية والدولية التي تزامنت مع نهاية الحرب الباردة، إلى الدعوة لإجراء انتخابات عامة في عام 1990. تلك الانتخابات خسرها أمام منافسته فيوليتا تشامورو، التي ما لبثت أن شكّلت حكومة مؤلفة من جميع أطياف المعارضة اليمينية واليسارية المعتدلة.
- آثار الهزيمة السياسية
تلك الهزيمة تركت أثراً عميقاً جداً في نفس دانييل أورتيغا الذي استمرّ في قيادة الجبهة، وراح يُجري تعديلات في استراتيجيته سعياً إلى الدعم الذي يسمح له بالعودة إلى الحكم.
وفي حملة انتخابات عام 1996 التي انهزم فيها مرة ثانية، والتي أُتيح لكاتب هذه السطور مرافقته يوماً كاملاً خلالها، قرر إلغاء نشيد «الجبهة الساندينية» واستعاض عنه بمقطع من السيمفونية التاسعة لبيتهوفن. ثم عاد وغيّره مجدداً في عام 2006 بموسيقى لإحدى أغاني جون لينون.
لقد انصرف أورتيغا طوال السنوات التي أمضاها في المعارضة بعد هزيمتين متتاليتين في الانتخابات إلى إحكام سيطرته على حزب «الجبهة الساندينية»، وتحويل مساره الآيديولوجي، بينما كان يزداد عدد المنشقّين عنه من رفاق المرحلة الأولى ويزداد كثيراً نفوذ زوجته روزاريو، التي كان يرى فيها كثيرون صاحبة القرارات الأساسية في إدارة شؤون الحزب وتوزيع المناصب الحسّاسة فيه.
- 2006: استعادة الرئاسة
في عام 2006 ترشّح دانييل أورتيغا مرة أخرى للانتخابات الرئاسية تحت شعارات مختلفة كلّياً عن البرنامج الأساسي لـ«الجبهة الساندينية»، داعياً إلى السلم والتضامن مع التركيز على الشعارات المسيحية الإنجيلية التي تؤمن بها زوجته. وتعهّد باحترام الملكية الخاصة والحريات المدنية واتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة والتعاون مع إدارة جورج بوش (الأب). وفعلاً، فاز أورتيغا في تلك الانتخابات بنسبة ضئيلة من الأصوات لم تتجاوز 36%، مستفيداً من الانقسام الحاد في صفوف خصومه. وبعدها بدأ يرسّخ سيطرته الشخصية المباشرة على كل مفاصل السلطات، ومن ثمّ يفوز في الانتخابات المتتالية التي خاضها إلى اليوم، بعدما ألغى المواد الدستورية التي كانت تمنعه من تولّي الرئاسة لأكثر من ولايتين متتاليتين.
في انتخابات عام 2016 حقّق أورتيغا أفضل نتائجه، إذ حصل على 72.5% من الأصوات، وباشر بإقصاء جميع منافسيه من مواقع النفوذ، والسلطة وتصفية معارضيه أو زجّهم في السجن أو دفع الكثير منهم إلى المنفى. أثار هذا النهج موجات متتالية من الاحتجاجات الشعبية في جميع أنحاء البلاد، واجهها النظام بقمع وحشي قدّرت منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان أنه أسفر عن مقتل ما لا يقلّ عن 550 شخصاً في عام 2018، فضلاً عن آلاف المفقودين الذين لا يعرف شيئاً عن مصيرهم إلى اليوم. ومع اتّساع دائرة الاحتجاجات والإدانات الإقليمية والدولية لممارسات النظام، اتّسعت دائرة القمع لتشمل وسائل الإعلام المناهضة لأورتيغا واعتقال خصومه السياسيين وتعذيبهم في السجون.
- الرفاق... الضحايا
ومن بين الشخصيات البارزة التي انشقّت عن أورتيغا بسبب ممارساته القمعية، رفيق دربه الثوري الأوّل المفكّر والكاتب المعروف سرخيو راميريز الذي اختار طريق المنفى إلى إسبانيا، حيث كتب يقول: «إن الرجل الذي ناضل سنوات بكل قواه من أجل إسقاط الطاغية الذي كان يجسّد الاستبداد... الذي كان يهيمن على نيكاراغوا منذ عام 1937 أصبح اليوم نسخة مشوّهة عنه. إن دانييل أورتيغا الذي قاد حركة ناصعة ونقيّة لتحرير بلاده من الظلم، يغرق اليوم في وحل التجربة التي تولّدها النظرة إلى العالم من موقع السلطة فحسب، وليس من موقع المعارضة».
- ترمب ونيكاراغوا
في نوفمبر 2018 وقّع الرئيس الأميركي –يومذاك- دونالد ترمب أمراً تنفيذيّاً يعلن نيكاراغوا «تهديداً استثنائياً وغير مألوف للأمن القومي الأميركي». ثمّ أقر قانوناً يقيّد الاستثمارات الأميركية في نيكاراغوا وحصولها على القروض من المؤسسات المالية الدولية. وفي موازاة ذلك أعلنت الولايات المتحدة، إلى جانب عدد من البلدان التي كانت تدعم أحزاب المعارضة في نيكاراغوا، مجموعة من العقوبات الاقتصادية والسياسية ضد سلطتها، وأمهلت حكومة أورتيغا حتى منتصف عام 2019 للتوصل إلى اتفاق مع المعارضة والإفراج عن المعتقلين السياسيين. ولكن بعدما أطلق النظام سراح العشرات من المعارضين المعتقلين، أبقت الولايات المتحدة وكندا العقوبات التي كانت قد فرضتها على نيكاراغوا، بسبب رفض أورتيغا تقديم موعد الانتخابات العامة كما كانت تطالب الأحزاب المعارضة.
على أثر مهزلة هذه الانتخابات الأخيرة التي «تنافس» فيها أورتيغا مع سبعة مرشحين اختارهم بنفسه بعدما زجّ بجميع المرشّحين المعارضين في السجن، وبعد ردود الفعل الشديدة التي صدرت عن الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي، لم يعد أمام أورتيغا سوى الهروب إلى الأمام في وجه الحصار الذي يضيق حول نظامه. وللعلم، بين الواقفين ضده اليوم عدد من مناصريه وحلفائه الذين استمرُّوا إلى جانبه حتى المرحلة الأخيرة. ومن بين هؤلاء شقيقه الأكبر أومبرتو الذي كان أول قائد للجيش بعد انتصار الثورة، والذي دعا من منفاه في كوستاريكا إلى «إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وتصويب مسار الحكم قبل فوات الأوان».
هذا، وتفيد التقارير الدبلوماسية الواردة من نيكاراغوا بأن دانييل أورتيغا «يعيش حالة انفصال شبه تام عن واقع البلاد، ولا يقْدم على أي خطوة إلّا بتوجيه من زوجته روزاريو والدائرة الضيّقة المحيطة بها، والتي تسيطر عليها شخصيات إنجيلية متطرفة تربطها مصالح مالية واقتصادية نَمَت وتشعّبت في السنوات الأخيرة، وباتت تشكّل المركز الفعلي للقرار في نيكاراغوا».
وبالتالي، يتوقع مراقبون أن تشهد نيكاراغوا خلال المرحلة المقبلة موجة من الاضطرابات والاحتجاجات الشعبية الناجمة عن تدهور الوضع المعيشي والاجتماعي وانسداد الأفق في وجه الحلول السياسية. وتخشى أوساط دبلوماسية من حملات اعتقال وقمع جديدة قد تدفع البلاد إلى دوّامة من المواجهات العنيفة، لا سيما أن نظام أورتيغا يُحكم سيطرته شبه الكاملة على الأجهزة الأمنية والجيش و«لجان الدفاع الشعبية» التي شكّلها على غرار لجان الدفاع عن الثورة في كوبا وفنزويلا، والتي سبق أن أطلق يدها لقمع المظاهرات والاحتجاجات الشعبية والطلابية.



الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.