تعقيدات سياسية وأمنية تطرح تساؤلات حول مستقبل «القاعدة في المغرب الإسلامي»

بعد التطورات الأخيرة في الحرب على الإرهاب والتطرف

تعقيدات سياسية وأمنية تطرح تساؤلات حول مستقبل «القاعدة في المغرب الإسلامي»
TT

تعقيدات سياسية وأمنية تطرح تساؤلات حول مستقبل «القاعدة في المغرب الإسلامي»

تعقيدات سياسية وأمنية تطرح تساؤلات حول مستقبل «القاعدة في المغرب الإسلامي»

قرار تونس قبل بضعة أيام إعادة فتح قنصليتها في العاصمة السورية دمشق وترحيبها بعودة سفير سوريا إلى العاصمة التونسية، فاجأ المراقبين خارج تونس، ولا سيما في مواقف الرئيس السابق الدكتور المنصف المرزوقي الحازمة ضد سياسة القتل والقمع التي مارسها ويمارسها نظام الرئيس بشار الأسد. غير أن متابعي المشهد السياسي والأمني داخل تونس اعتبروا أن هذه الخطوة لا تنفصل عن قلق القيادة الحالية الشديد في عهد الباجي قايد السبسي من خطر المقاتلين المتطرفين التونسيين الذين يقاتلون في سوريا حاليا عند عودتهم إلى البلاد. وكان الهجوم الإرهابي الدموي على متحف باردو في تونس العاصمة أحدث المؤشرات إلى خطر هذه الجماعات، ناهيك من الصلات المقلقة لعلاقات المتطرفين الإرهابيين التونسيين بالجماعات الإرهابية المتطرفة الناشطة في كل من ليبيا والجزائر «جارتي» تونس، ومناطق أخرى بشمال أفريقيا.

أعلن رئيس الحكومة التونسي الحبيب الصيد ومحمد الناجم الغرسلي وزير الداخلية في حكومته، أخيرا، مقتل القيادي المتطرّف «لقمان أبو صخر» في جنوب غربي تونس رفقة 8 من رفاقه. وللعلم، يوصف «أبو صخر» منذ سنوات في الجزائر وتونس بأنه «أخطر إرهابي جزائري ومغاربي» وبكونه الزعيم «الأسطوري» لما يسمى تنظيم «القاعدة في المغرب الإسلامي» و«كتيبة عقبة بن نافع» وتنظيم «عقبة بن نافع». كذلك كشف الصيد والغرسلي عن تفاصيل تهم التنظيمين المتهمين بالتورّط في جرائم قتل عشرات العسكريين والأمنيين والسياح بمشاركة متهمين تونسيين وليبيين وجزائريين ومغاربة.
ما هي النتائج السياسية والأمنية لمستجدات الأيام القليلة الماضية؟ وهل سيعني القضاء على أبرز قيادات التنظيمين واعتقال نحو عشرين من عناصرها إغلاقا نهائيا للملف وانتصارا عليهما... أم مجرد «ضربة أمنية» ذات نتائج ظرفية؟
الأمر اللافت للانتباه تمسك رئيس الحكومة التونسي ووزير داخليته منذ جريمة قتل عشرين سائحا و3 تونسيين في متحف باردو بأن الهجوم الإرهابي كان من فعل عناصر من جماعات إرهابية مغاربية بينها كتيبة «عقبة بن نافع» وجناح متطرّف جدا في «أنصار الشريعة»، وليس من فعل عناصر تابعة لتنظيم داعش رغم البيان الذي صدر في الموقع الإلكتروني المحسوب عليه.
بل لقد ذهب وزير الداخلية، خلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، بعيدا فأوضح أن «(داعش) لم يشارك مباشرة في هجوم 18 مارس (آذار) الماضي» وبيانه الذي تبنّاه يندرج في سياق «خطته الإعلامية الدعائية». وأوضح الوزير أن «كثيرا من التنظيمات الإرهابية تبحث عن الشهرة وتتبنى عمليات لم تقم بها». ومن ثم، حذّر من مسايرة بلاغات تروّج في المواقع الاجتماعية والإعلامية «لأسباب كثيرة من بينها إخفاء بعض خيوط الجريمة عن المحققين».
ورغم ضغوط بعض «الخبراء» في وسائل الإعلام التونسية والعربية والدولية، التي كانت تدفع في اتجاه «مواقف تبسيطية» تلصق الجريمة بـ«داعش»، التزم رئيس الحكومة ووزير الداخلية التونسيان منذ البداية الحذر، وأعطيا الأولوية لنتائج التحقيقات مع الموقوفين وللقرائن والحجج وليس لـ«المواقف المسبقة» التي روّجتها بعض الجهات الاستخباراتية والإعلامية الإقليمية.
ومن جهة أخرى، كشف الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية التونسية محمد علي العروي أنه بنتيجة هذا التناول تيسّر التعرف على أسماء عشرات من المتهمين الذين هم على علاقة مباشرة وغير مباشرة بجرائم قتل السياح والعسكريين والمدنيين. ولقد تبين أن معظمهم من تونس والجزائر والمغرب وليبيا، وهم ليسوا من أفراد «داعش» بل من «كتيبة عقبة بن نافع» ومن جناح في «تنظيم أنصار الشريعة» المحسوبين على تنظيم «القاعدة في المغرب الإسلامي».
هذا التناول العقلاني في التعامل مع المعطيات الأمنية - بعيدا عن الضغوط الاستخباراتية والأمنية المحلية والدولية - ساعد المحققين التونسيين ونظراءهم الجزائريين على كشف خيوط إضافية في الشبكات الإرهابية وعلى القضاء على «الزعيم الرمز» للمجموعات المتهمة بالاغتيالات السياسية والهجمات الإرهابية المتعاقبة على العسكريين والأمنيين خلال السنوات الماضية وبهجوم باردو الإرهابي.
أضف إلى ما سبق أنه كشفت المشاركة المغاربية والعربية والعالمية الواسعة في المسيرة الدولية المعادية للإرهاب بتونس أن الرأي العام الوطني التونسي والمغاربي وقادة العالم تفاعلوا إيجابا مع الساسة التونسيين الذين تعاملوا بـ«شفافية» مع الأحداث الإرهابية.. بعيدا عن كل أنواع «الرتوش». ويرى متابعون أن مصارحة الحكومة للشعب والعواصم الصديقة بحقيقة المعطيات المتوافرة لديها عامل كان عاملا حاسما في مدّها بمعلومات ساعدت خلال فترة قياسية في الكشف عن مجموعة «لقمان أبو صخر» في الجنوب الغربي وعن علاقاته مع جماعات مسلحة ليبية وجزائرية وتونسية ومغربية، بينها «القاعدة في المغرب الإسلامي» و«أنصار الشريعة».
أما على الصعيد الاقتصادي، وبحكم التداخل بين المعطيات الأمنية وعنصر الاستقرار الذي يشترط المستثمرون توافره فإن النجاحات الأمنية بعد جريمة باردو، كما يرى الباحث الجامعي زهير بن يوسف «ستساهم في إعادة ثقة الشعب ورجال الأعمال والمستثمرين الأجانب في مناخ تونس وفرص الاستثمار الاقتصادي فيها».
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الوزير الغرسلي أورد أثناء ندوته الصحافية يوم الخميس قبل القضاء على «أبو صخر» أن 80 في المائة من المتهمين جرى توقيفهم (نحو 20 متهما وقتل 9 آخرون بعد ذلك بيومين/ ليلة السبت - الأحد) فإن ذلك يعني «تصفية الغالبية الساحقة من أعضاء هذه الجماعة المسلحة» باستثناء «المتهم الخطير جدا» ماهر القايدي الذي وزّعت صوره في كل وسائل الإعلام والمتهم بالمشاركة في جريمة باردو من خارج المتحف.

* مخاطر أمنية جديدة
«الشرق الأوسط» استوضحت في هذا السياق آراء عدد من الشخصيات والمتابعين والخبراء هم: علي زيدان رئيس الحكومة الليبية السابق، وأبو بكر بعيرة الناطق الرسمي باسم برلمان طبرق الليبي، ومحمد المؤدب أمير اللواء المتقاعد في الجيش الوطني، والدكتورة بدرة قعلول الخبيرة التونسية في الشؤون العسكرية والأمنية، والأكاديمي والمؤرخ التونسي اعلية العلاني. ومن ثم خرجت بحصيلة تتصل بالسؤال المطروح الآن، وهو: ألن تواجه تونس مخاطر أمنية جديدة في ظل تدهور الأوضاع السياسية والأمنية في ليبيا، وبروز تنسيق كبير بين الجماعات المسلحة المغاربية التي كانت برزت في ثوب جديد منذ 2006 بعدما تطوّرت «الجماعات السلفية للدعوة والقتال» و«الجماعة الإسلامية المقاتلة في الجزائر» (جي. إي. آ.) إلى «القاعدة في المغرب الإسلامي»؟
الدكتورة قعلول رجّحت أن تنظم عمليات إرهابية جديدة «لأن التنسيق بين بعض الجماعات السلفية المسلحة التونسية والمغاربية يعود إلى أواخر 2006 ومطلع 2007 عند الكشف عن تنظيمات مسلحة في سليمان بتونس بينها تنظيم (أسد بن الفرات) وجماعات تنتسب إلى (القاعدة) وأخرى بايع بعض رموزها في سبتمبر (أيلول) الماضي قيادات (داعش) في الشام والعراق وزعامات متشدّدة مسلّحة في مالي وكذلك في مدينتي درنة وسرت الليبيتين».
وبالعودة إلى كلام وزير الداخلية الغرسلي، فإنه كشف عن أن من الأسلحة المستخدمة في الهجوم على باردو مواد متفجرة خطيرة وذخائر عسكرية كان النظام الليبي السابق - في عهد معمّر القذافي - يستخدمها في الحروب إلى درجة أن المفعول التفجيري لـ«حزام ناسف واحد» قد يمتد 8 آلاف متر مربع في الثانية الواحدة. وبما أن ليبيا تعج بالأسلحة «المتطورة» الموروثة عن عهد القذافي وتلك التي وزّعها الحلف الأطلسي وشركاؤه العرب على «الثوار» عام 2011 فإن المخاطر الأمنية تتضاعف بالنسبة لتونس وكامل دول الاتحاد المغاربي وبقية دول المنطقة.
في ضوء ذلك قدّر أبو بكر بعيرة عدد قطع السلاح المنتشرة حاليا في ليبيا بملايين القطع، بينها الصواريخ الفردية ورشاشات الكلاشنيكوف وقنابل. أما رئيس الحكومة الليبية السابقة علي زيدان فطالب الحلف الأطلسي بالبدء فورا في تجميع هذه الأسلحة «لحماية ليبيا وتونس وكل الدول العربية والأورومتوسطية من اتساع رقعة الإرهاب». في حين حذّر محمد المؤدب من «التداخل بين الإرهاب والتهريب» لجهة توظيف الإرهابيين أموال التهريب في تمويل مجموعاتهم وتسليحها. وحقا يؤكد بعض المختصين في الدراسات الأمنية - منهم الدكتورة قعلول - أن نسبة كبيرة من العمليات الإرهابية في تونس والمنطقة مرتبطة بالفعل بعصابات التهريب وأن «لقمان أبو صخر» كان من أكبر «المهرّبين» في منطقة الحدود التونسية - الجزائرية.
في هذا السياق العام لم يستبعد اعلية العلاني أن يتواصل تأثير تنظيمات مغاربية مسلحة مثل «القاعدة في المغرب الإسلامي» و«عقبة بن نافع» و«أنصار الشريعة»، بحكم تقاطع شبكاتها ومموّليها مع التهريب والاتجار غير القانوني «العابر للحدود» في مواد كثيرة من بينها المخدرات والأسلحة. وبصفة عامة، لا يعتقد خبراء في القضايا الأمنية والتنظيمات المسلحة المتطرفة أن قتل «لقمان أبو صخر» سيؤثر سلبيا على المدى البعيد على الجماعات المتطرفة في تونس والدول المغاربية لأنه سيُعوّض مثلما سبق أن عُوضّ من سبقه، لا سيما أن مثل هذه التنظيمات لا تستسلم بعد سقوط عناصرها وقادتها.
يبقى أن نشير إلى أن تنظيمات «القاعدة في المغرب الإسلامي» و«أنصار الشريعة» و«عقبة بن نافع» والجماعات المتطرفة المماثلة باتت تستهوي أعدادا متزايدة من الشباب بخلاف الأحزاب الإسلامية القانونية والمعتدلة التي تدافع عن مبدأ «التوافق» بين الإسلاميين والعلمانيين. كما تمتلك هذه الجماعات المسلحة أوراقا كثيرة مقارنة بالأحزاب الإسلامية القانونية والمعتدلة، من بينها: التركيز على الشباب وإبراز قياداتها في موقع «المرجعيات الدينية المتواضعة والزاهدة في الدنيا» والقديرة على تقديم «تأصيل شرعي وفقهي يقنع الشباب والمقاتلين الجدد». غير أن الحصيلة المبدئية لنجاحات قوات الأمن التونسية ستكون إضعاف التنظيمات المتطرفة المسلحة وليس القضاء عليها، ما يعني أن «الحرب على الإرهاب» التي تحدّث عنها كثيرا الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي ورئيس الحكومة الجزائرية عبد المالك سلال والرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند ستكون طويلة.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.