تعقيدات سياسية وأمنية تطرح تساؤلات حول مستقبل «القاعدة في المغرب الإسلامي»

بعد التطورات الأخيرة في الحرب على الإرهاب والتطرف

تعقيدات سياسية وأمنية تطرح تساؤلات حول مستقبل «القاعدة في المغرب الإسلامي»
TT

تعقيدات سياسية وأمنية تطرح تساؤلات حول مستقبل «القاعدة في المغرب الإسلامي»

تعقيدات سياسية وأمنية تطرح تساؤلات حول مستقبل «القاعدة في المغرب الإسلامي»

قرار تونس قبل بضعة أيام إعادة فتح قنصليتها في العاصمة السورية دمشق وترحيبها بعودة سفير سوريا إلى العاصمة التونسية، فاجأ المراقبين خارج تونس، ولا سيما في مواقف الرئيس السابق الدكتور المنصف المرزوقي الحازمة ضد سياسة القتل والقمع التي مارسها ويمارسها نظام الرئيس بشار الأسد. غير أن متابعي المشهد السياسي والأمني داخل تونس اعتبروا أن هذه الخطوة لا تنفصل عن قلق القيادة الحالية الشديد في عهد الباجي قايد السبسي من خطر المقاتلين المتطرفين التونسيين الذين يقاتلون في سوريا حاليا عند عودتهم إلى البلاد. وكان الهجوم الإرهابي الدموي على متحف باردو في تونس العاصمة أحدث المؤشرات إلى خطر هذه الجماعات، ناهيك من الصلات المقلقة لعلاقات المتطرفين الإرهابيين التونسيين بالجماعات الإرهابية المتطرفة الناشطة في كل من ليبيا والجزائر «جارتي» تونس، ومناطق أخرى بشمال أفريقيا.

أعلن رئيس الحكومة التونسي الحبيب الصيد ومحمد الناجم الغرسلي وزير الداخلية في حكومته، أخيرا، مقتل القيادي المتطرّف «لقمان أبو صخر» في جنوب غربي تونس رفقة 8 من رفاقه. وللعلم، يوصف «أبو صخر» منذ سنوات في الجزائر وتونس بأنه «أخطر إرهابي جزائري ومغاربي» وبكونه الزعيم «الأسطوري» لما يسمى تنظيم «القاعدة في المغرب الإسلامي» و«كتيبة عقبة بن نافع» وتنظيم «عقبة بن نافع». كذلك كشف الصيد والغرسلي عن تفاصيل تهم التنظيمين المتهمين بالتورّط في جرائم قتل عشرات العسكريين والأمنيين والسياح بمشاركة متهمين تونسيين وليبيين وجزائريين ومغاربة.
ما هي النتائج السياسية والأمنية لمستجدات الأيام القليلة الماضية؟ وهل سيعني القضاء على أبرز قيادات التنظيمين واعتقال نحو عشرين من عناصرها إغلاقا نهائيا للملف وانتصارا عليهما... أم مجرد «ضربة أمنية» ذات نتائج ظرفية؟
الأمر اللافت للانتباه تمسك رئيس الحكومة التونسي ووزير داخليته منذ جريمة قتل عشرين سائحا و3 تونسيين في متحف باردو بأن الهجوم الإرهابي كان من فعل عناصر من جماعات إرهابية مغاربية بينها كتيبة «عقبة بن نافع» وجناح متطرّف جدا في «أنصار الشريعة»، وليس من فعل عناصر تابعة لتنظيم داعش رغم البيان الذي صدر في الموقع الإلكتروني المحسوب عليه.
بل لقد ذهب وزير الداخلية، خلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، بعيدا فأوضح أن «(داعش) لم يشارك مباشرة في هجوم 18 مارس (آذار) الماضي» وبيانه الذي تبنّاه يندرج في سياق «خطته الإعلامية الدعائية». وأوضح الوزير أن «كثيرا من التنظيمات الإرهابية تبحث عن الشهرة وتتبنى عمليات لم تقم بها». ومن ثم، حذّر من مسايرة بلاغات تروّج في المواقع الاجتماعية والإعلامية «لأسباب كثيرة من بينها إخفاء بعض خيوط الجريمة عن المحققين».
ورغم ضغوط بعض «الخبراء» في وسائل الإعلام التونسية والعربية والدولية، التي كانت تدفع في اتجاه «مواقف تبسيطية» تلصق الجريمة بـ«داعش»، التزم رئيس الحكومة ووزير الداخلية التونسيان منذ البداية الحذر، وأعطيا الأولوية لنتائج التحقيقات مع الموقوفين وللقرائن والحجج وليس لـ«المواقف المسبقة» التي روّجتها بعض الجهات الاستخباراتية والإعلامية الإقليمية.
ومن جهة أخرى، كشف الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية التونسية محمد علي العروي أنه بنتيجة هذا التناول تيسّر التعرف على أسماء عشرات من المتهمين الذين هم على علاقة مباشرة وغير مباشرة بجرائم قتل السياح والعسكريين والمدنيين. ولقد تبين أن معظمهم من تونس والجزائر والمغرب وليبيا، وهم ليسوا من أفراد «داعش» بل من «كتيبة عقبة بن نافع» ومن جناح في «تنظيم أنصار الشريعة» المحسوبين على تنظيم «القاعدة في المغرب الإسلامي».
هذا التناول العقلاني في التعامل مع المعطيات الأمنية - بعيدا عن الضغوط الاستخباراتية والأمنية المحلية والدولية - ساعد المحققين التونسيين ونظراءهم الجزائريين على كشف خيوط إضافية في الشبكات الإرهابية وعلى القضاء على «الزعيم الرمز» للمجموعات المتهمة بالاغتيالات السياسية والهجمات الإرهابية المتعاقبة على العسكريين والأمنيين خلال السنوات الماضية وبهجوم باردو الإرهابي.
أضف إلى ما سبق أنه كشفت المشاركة المغاربية والعربية والعالمية الواسعة في المسيرة الدولية المعادية للإرهاب بتونس أن الرأي العام الوطني التونسي والمغاربي وقادة العالم تفاعلوا إيجابا مع الساسة التونسيين الذين تعاملوا بـ«شفافية» مع الأحداث الإرهابية.. بعيدا عن كل أنواع «الرتوش». ويرى متابعون أن مصارحة الحكومة للشعب والعواصم الصديقة بحقيقة المعطيات المتوافرة لديها عامل كان عاملا حاسما في مدّها بمعلومات ساعدت خلال فترة قياسية في الكشف عن مجموعة «لقمان أبو صخر» في الجنوب الغربي وعن علاقاته مع جماعات مسلحة ليبية وجزائرية وتونسية ومغربية، بينها «القاعدة في المغرب الإسلامي» و«أنصار الشريعة».
أما على الصعيد الاقتصادي، وبحكم التداخل بين المعطيات الأمنية وعنصر الاستقرار الذي يشترط المستثمرون توافره فإن النجاحات الأمنية بعد جريمة باردو، كما يرى الباحث الجامعي زهير بن يوسف «ستساهم في إعادة ثقة الشعب ورجال الأعمال والمستثمرين الأجانب في مناخ تونس وفرص الاستثمار الاقتصادي فيها».
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الوزير الغرسلي أورد أثناء ندوته الصحافية يوم الخميس قبل القضاء على «أبو صخر» أن 80 في المائة من المتهمين جرى توقيفهم (نحو 20 متهما وقتل 9 آخرون بعد ذلك بيومين/ ليلة السبت - الأحد) فإن ذلك يعني «تصفية الغالبية الساحقة من أعضاء هذه الجماعة المسلحة» باستثناء «المتهم الخطير جدا» ماهر القايدي الذي وزّعت صوره في كل وسائل الإعلام والمتهم بالمشاركة في جريمة باردو من خارج المتحف.

* مخاطر أمنية جديدة
«الشرق الأوسط» استوضحت في هذا السياق آراء عدد من الشخصيات والمتابعين والخبراء هم: علي زيدان رئيس الحكومة الليبية السابق، وأبو بكر بعيرة الناطق الرسمي باسم برلمان طبرق الليبي، ومحمد المؤدب أمير اللواء المتقاعد في الجيش الوطني، والدكتورة بدرة قعلول الخبيرة التونسية في الشؤون العسكرية والأمنية، والأكاديمي والمؤرخ التونسي اعلية العلاني. ومن ثم خرجت بحصيلة تتصل بالسؤال المطروح الآن، وهو: ألن تواجه تونس مخاطر أمنية جديدة في ظل تدهور الأوضاع السياسية والأمنية في ليبيا، وبروز تنسيق كبير بين الجماعات المسلحة المغاربية التي كانت برزت في ثوب جديد منذ 2006 بعدما تطوّرت «الجماعات السلفية للدعوة والقتال» و«الجماعة الإسلامية المقاتلة في الجزائر» (جي. إي. آ.) إلى «القاعدة في المغرب الإسلامي»؟
الدكتورة قعلول رجّحت أن تنظم عمليات إرهابية جديدة «لأن التنسيق بين بعض الجماعات السلفية المسلحة التونسية والمغاربية يعود إلى أواخر 2006 ومطلع 2007 عند الكشف عن تنظيمات مسلحة في سليمان بتونس بينها تنظيم (أسد بن الفرات) وجماعات تنتسب إلى (القاعدة) وأخرى بايع بعض رموزها في سبتمبر (أيلول) الماضي قيادات (داعش) في الشام والعراق وزعامات متشدّدة مسلّحة في مالي وكذلك في مدينتي درنة وسرت الليبيتين».
وبالعودة إلى كلام وزير الداخلية الغرسلي، فإنه كشف عن أن من الأسلحة المستخدمة في الهجوم على باردو مواد متفجرة خطيرة وذخائر عسكرية كان النظام الليبي السابق - في عهد معمّر القذافي - يستخدمها في الحروب إلى درجة أن المفعول التفجيري لـ«حزام ناسف واحد» قد يمتد 8 آلاف متر مربع في الثانية الواحدة. وبما أن ليبيا تعج بالأسلحة «المتطورة» الموروثة عن عهد القذافي وتلك التي وزّعها الحلف الأطلسي وشركاؤه العرب على «الثوار» عام 2011 فإن المخاطر الأمنية تتضاعف بالنسبة لتونس وكامل دول الاتحاد المغاربي وبقية دول المنطقة.
في ضوء ذلك قدّر أبو بكر بعيرة عدد قطع السلاح المنتشرة حاليا في ليبيا بملايين القطع، بينها الصواريخ الفردية ورشاشات الكلاشنيكوف وقنابل. أما رئيس الحكومة الليبية السابقة علي زيدان فطالب الحلف الأطلسي بالبدء فورا في تجميع هذه الأسلحة «لحماية ليبيا وتونس وكل الدول العربية والأورومتوسطية من اتساع رقعة الإرهاب». في حين حذّر محمد المؤدب من «التداخل بين الإرهاب والتهريب» لجهة توظيف الإرهابيين أموال التهريب في تمويل مجموعاتهم وتسليحها. وحقا يؤكد بعض المختصين في الدراسات الأمنية - منهم الدكتورة قعلول - أن نسبة كبيرة من العمليات الإرهابية في تونس والمنطقة مرتبطة بالفعل بعصابات التهريب وأن «لقمان أبو صخر» كان من أكبر «المهرّبين» في منطقة الحدود التونسية - الجزائرية.
في هذا السياق العام لم يستبعد اعلية العلاني أن يتواصل تأثير تنظيمات مغاربية مسلحة مثل «القاعدة في المغرب الإسلامي» و«عقبة بن نافع» و«أنصار الشريعة»، بحكم تقاطع شبكاتها ومموّليها مع التهريب والاتجار غير القانوني «العابر للحدود» في مواد كثيرة من بينها المخدرات والأسلحة. وبصفة عامة، لا يعتقد خبراء في القضايا الأمنية والتنظيمات المسلحة المتطرفة أن قتل «لقمان أبو صخر» سيؤثر سلبيا على المدى البعيد على الجماعات المتطرفة في تونس والدول المغاربية لأنه سيُعوّض مثلما سبق أن عُوضّ من سبقه، لا سيما أن مثل هذه التنظيمات لا تستسلم بعد سقوط عناصرها وقادتها.
يبقى أن نشير إلى أن تنظيمات «القاعدة في المغرب الإسلامي» و«أنصار الشريعة» و«عقبة بن نافع» والجماعات المتطرفة المماثلة باتت تستهوي أعدادا متزايدة من الشباب بخلاف الأحزاب الإسلامية القانونية والمعتدلة التي تدافع عن مبدأ «التوافق» بين الإسلاميين والعلمانيين. كما تمتلك هذه الجماعات المسلحة أوراقا كثيرة مقارنة بالأحزاب الإسلامية القانونية والمعتدلة، من بينها: التركيز على الشباب وإبراز قياداتها في موقع «المرجعيات الدينية المتواضعة والزاهدة في الدنيا» والقديرة على تقديم «تأصيل شرعي وفقهي يقنع الشباب والمقاتلين الجدد». غير أن الحصيلة المبدئية لنجاحات قوات الأمن التونسية ستكون إضعاف التنظيمات المتطرفة المسلحة وليس القضاء عليها، ما يعني أن «الحرب على الإرهاب» التي تحدّث عنها كثيرا الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي ورئيس الحكومة الجزائرية عبد المالك سلال والرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند ستكون طويلة.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.