30 سنة على ولادة «إم تي في» الشاهدة على القدر اللبناني

نبيلة عواد مقدّمة الحلقة الخاصة
نبيلة عواد مقدّمة الحلقة الخاصة
TT

30 سنة على ولادة «إم تي في» الشاهدة على القدر اللبناني

نبيلة عواد مقدّمة الحلقة الخاصة
نبيلة عواد مقدّمة الحلقة الخاصة

تحتفل محطة «إم تي في» اللبنانية بعيدها الثلاثين، والغليان يحرق المناسبات السعيدة. نلومها، فقد «خدعتنا» بصورة لبنان الجميلة وصدى مجده في الجبال المرتفعة. وجعلتنا نصدّق شعارها «هيدا لبنان»، قاصدة الأرز والبحر والضباب المستلقي على التلة، في كل مرة كانت الشوارع تُقطع والرصاص يُسمع. لم تفرّط في صون النموذج اللبناني، وأبقته أسمى من صغائر الصدمة المستجدة. تبلغ الثلاثين، فتشكل بعمرها نحو ثلث عمر الجمهورية. وكالوطن، ترافقت سنواتها مع الإبهار والألم، وهي إن يؤخَذ عليها أحياناً بعض الحدّة، فلأنّ الرمادية خارج خياراتها، والنبرة العالية صرختها الثابتة.
بدأت الرحلة بمشروع صغير، هو اليوم في صفوف الريادة الأولى. كانت أيام خوف وظلمة، فترافق الخروج من مرحلة الحرب الأهلية مع التحضير لإطلاق محطة تحاكي لبنان ما بعد الدم. افتُتح أول بث تجريبي في 7 نوفمبر (تشرين الثاني) 1991. من دون الاستناد إلى شبكة برامج أساسية. يطل رئيس مجلس إدارة المحطة ميشال المرّ في حلقة خاصة من «صاروا مية»، بعنوان «صاروا 30» احتفالاً بالعقود الثلاثة، ليتحدث عن طموح شاب متحمّس: «انتظرتُ نهاية الحرب لإنشاء محطة تلفزيونية. لم أتنازل عن الحلم».
ثلاثون بصمة في ثلاثين سنة، تشهد على التمسك بالحلم في عزّ لحظات لبنان الحرجة. يُعدّ جان نخول الحلقة والتقديم لنبيلة عواد. كلّف العقد آنذاك نحو مليون فرنك فرنسي، لتتمكن «إم تي في» من بث برامج «تي إف 1» لثلاث ساعات يومياً. مولود جديد، يكبر ولا يخاف من المستقبل. لم تكن الفضائيات متوافرة، فأتت المحطة بمسلسلات أجنبية ضخمة كـ«فرندز» وسواه لتكون للبنانيين مرآة العالم. وراحت تنوّع لاستقطاب الأمزجة، فحصلت على حقوق مباشرة وحصرية للبطولات الرياضية العالمية كالـ«فورمولا 1» ومباريات الـ«إن بي آي».
انطلقت من مقرّها في الأشرفية البيروتية قبل الانتقال إلى النقّاش (قضاء المتن) حيث تبث اليوم. أرادت التوسّع، فطرقت أخشن الأبواب: السياسة اللبنانية، لتدرك أنّ الحرب لم تنتهِ فعلياً، والنار الصامتة تغلي على درجات عالية. درجت آنذاك البرامج السياسية المسجّلة لتكفل قوى الأمر الواقع في تلك المرحلة إخضاعها للرقيب وعدم تضمّنها ما يهدد سكينتها. كسر برنامج «الحكي بيناتنا» مع ماغي فرح، كأول برنامج حواري مباشر، القاعدة. كُتبت للبنان صفحة تاريخية بيضاء عنوانها التعبير عن الواقع من دون أقنعة. وبدأت الأجهزة المسيطرة تخاف على وجودها.
بعد البرنامج المباشر، وُلدت نشرات الأخبار. استعدّت المحطة لخوض امتحان شجاع برغم أثمانه التي بلغت لاحقاً حد الإقفال القسري. هذا الامتحان هو الجرأة. أن تقول ما لا يُقال وتُحرّك ما لا يتحرّك. وأن تخلع الخوف والإحساس بالسيطرة الاستخباراتية، كما تُخلع المعاطف السميكة مع بدايات الدفء. ولا شيء يمنح لبنان ربيعه سوى الحرية، فتُفتّح زهوره وتُطلق عصافيره من أقفاصها.
تحظى السنوات الثلاثون بروائع ترفيهية تعانق الذاكرة، فكان «أوعى تنسى»، أول برنامج ألعاب يعتمد على شاشة الكومبيوتر. ولفرط التعلق به، حوّلته المحطة من العرض لمرة أسبوعياً إلى برنامج يومي شارك فيه مئات اللبنانيين. ومن البصمات، شراؤها أول برنامج «فورما»، واضعة حداً لسرقة الحقوق وخوض النزاعات القضائية. تبع حصول المحطة على رخصة، بعد صدور قانون الإعلام وإقفال المحطات غير الشرعية، ولادة واحد من أشهر البرامج الكوميدية في تاريخ التلفزيون اللبناني: «SL CHI»، بدعاباته الساخرة والتهكم على البؤس. شخصيات لا تُنسى، يحفظها اللبنانيون جيداً: «فاديا الشراقة»، «يوسف قليقل»، ومَن لا يزال يُضحك بذكر اسمه.
استمرّ عرضه لليوم الأخير قبل الإقفال القسري، مع برامج أخرى شكلت أيضاً منعطفاً، كـ«ميني استوديو»، تسالي الأطفال، و«تحقيق» المستمر إلى اليوم. لم يكن ميشال المرّ وحده مَن تلقّى صفعة الإقفال، فقد مسّت بوجود الإعلام اللبناني بأسره، بالتزامن مع الممارسات القمعية للوصاية الأمنية تحت راية القانون، حتى نضوج المتغيّرات للتبشير باستقلال لبنان الثاني. دفعت المحطة ثمن الصوت العالي، وفتّح مسارها السياسي العيون عليها. في الرابع من سبتمبر (أيلول) 2002. أُقفلت بالشمع الأحمر، إلى إن كانت العودة في عام 2009. بـ«الخديعة» نفسها عن عظمة لبنان على الخريطة المتشظّية!
سبع سنوات غيّرت المشهد الإعلامي اللبناني وسط فواجع الأمن والسياسة. ومنذ اليوم الأول لعودتها، اختارت التحديات: 12 ساعة لأطول بث مباشر بين فترة صباحية وبرامج شبابية ونشرات أخبار، ثم شراء حقوق واحد من أضخم برامج الرقص: «Dancing with the stars»، وإنتاج المسلسلات، ومواسم «حديث البلد»، وتنظيم مسابقة ملكة الجمال. يا للأسف، تجمّد الحدث الضخم في عام 2018 بالتزامن مع الانهيار الأكبر في التاريخ الحديث.
تهاجر وجوه زميلة إلى محطات عربية، بعد تراجع المداخيل والإعلانات وتصاعد الأنين. «إم تي في» الشاهدة على الحرية، تسلّم واحدة من شعلاتها المتوهّجة إلى مارسيل غانم وبرنامجه «صار الوقت». برغم بعض الانفعال والفورة والحماسات الزائدة، يشكل البرنامج ظاهرة سياسية. «ما في ناس بتخوّف، في ناس بتخاف»، يختصر ميشال المرّ معادلة الحياة تقريباً.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)