لعنة الجوائز... هل تصيب الفائز بـ«غونكور» محمد مبوغار سار؟

حذّر منها بقدر ما سعى للحصول عليها

محمد مبوغار سار لحظة تلقيه خبر الفوز بغونكور
محمد مبوغار سار لحظة تلقيه خبر الفوز بغونكور
TT

لعنة الجوائز... هل تصيب الفائز بـ«غونكور» محمد مبوغار سار؟

محمد مبوغار سار لحظة تلقيه خبر الفوز بغونكور
محمد مبوغار سار لحظة تلقيه خبر الفوز بغونكور

مذهل ومحير الروائي الشاب محمد مبوغار سار، السنغالي الذي حائز على جائزة «غونكور» هذه السنة. صحيح أن لجنة الجائزة نادراً ما تكون خياراتها نصف موفقة، إلا أنها هذه المرة، قدمت لغير المتابعين الحثيثين للأدب الفرانكفوني، اكتشافاً أدبياً متعة للقراءة.
تركيبة الرواية الفائزة «الذاكرة الأكثر سرية للبشر» أشبه بلعبة الدمى الروسية التي كلما وصلت إلى واحدة منها، وفتحتها وجدت بداخلها أخرى أصغر. هكذا حتى الصفحة الأخيرة. ليس مبالغة القول، إن هذه الرواية التي توجت من الدورة الأولى، وكانت على لائحة العديد من الجوائز، هي من الصنف القليل الذي يدفعك إلى البحث عن أسماء وأحداث واردة فيها، كي تتمكن من فهم مرامي الرواية نفسها. مع التذكير بأن الكاتب هو نفسه باحث وأكاديمي، وروايته هذه، ما كانت لتنال الإعجاب الكبير لولا مهارته الأدبية، ولكن أيضاً هناك عشقه للتقصي، ومتابعة الخيوط التاريخية، واستعادة أحداث يفترض أنه طواها الزمن، ليعيدها حية، نابضة في روايته الراهنة، بل الراهنة جداً.
الأحداث متداخلة، الأسماء كثيرة، القصص متشعبة، والحيز الجغرافي الذي تدور فيه الحكاية شاسع. هي بشكل أساسي قصة كاتب سنغالي شاب يدعى ديجان، يقتفي في فرنسا أثر كاتب سنغالي آخر اسمه تي. سي. إليمان، حصد شهرة واسعة في نهاية الثلاثينات حين نال عام 1938 جائزة أدبية فرنسية شهيرة، عن روايته الأولى «متاهة اللاإنسانية». لكن سرعان ما طاردت الفائز المقالات والانتقادات، وطالته الفضائح الأدبية متهمة إياه بالتزوير والسرقة. هذا الروائي الذي لقب بـ«رامبو الأفريقي»، وتوج كتابه في عز الفترة الكولونيالية الفرنسية، وما رافقها من ظلم وانتهاكات في حق المستعمرات في القارة السوداء، ستنقلب النعمة في حياته إلى نقمة، بعد الحملة التي تعرض لها، وسينسحب من الحياة الأدبية إلى الأبد، دون أن يصدر أي كتاب آخر، لا بل سيطويه الزمن، وينساه العالم.
الرواية هي رحلة بحث عن هذا الأديب الذي أسكت دون أن يتمكن من الدفاع عن نفسه، وتقمع موهبته الأدبية، وهو لا يزال في سن صغيرة. تقودنا حملة البحث التي يقوم بها ديجان من باريس إلى أمستردام، ودكار، وبيونس آيرس في الأرجنتين. بحث ومطاردة لأي أثر، نجتاز معها مراحل تاريخية مفصلية، عرفتها أوروبا والقارة الأفريقية في تلك الفترة، الحرب العالمية الثانية، النازية، العنف، الظلم، وقسوة الأحكام. في غمار البحث نعبر حياة كتاب أفارقة كثر، منهم من نعرفهم، وغيرهم من بنات أفكار الكاتب. نعرج على أجواء الأدباء الأفارقة الشباب الباحثين، عن تحقيق مكانة أدبية في أجواء لا تتناسب بالضرورة مع ما يجول في خواطرهم. لا محاكمة للتاريخ ولا إدانات فجة في الرواية، هي أحداث يسردها محمد مبوغار سار، كما يراها ويستشعرها بمهارة، لا تخلو من بلاغة قد تصعب قراءة النص. فأديبنا كما بطله، عاشق للشعر، ويضع بين أيدينا رواية، قد لا تكون في متناول القارئ المعتاد على الروايات ذات العبارات البسيطة والقصة التي تنساب بسهولة. مبوغار سار له لغة خاصة، وصور واستعارات، وطرافة وظرف، يفسحان حتى في موضوعه العميق والجاد، مكاناً للتندر، وفي مواضع غير متوقعة.
في الصفحة 35 يعثر ديجان على كتاب تي. سي. إليمان «متاهة اللاإنسانية» عبر كاتبة أفريقية يلتقيها في باريس، ويبدأ كالمخبر التواصل مع كل من يمكن أن يضيف معلومة جديدة. ومن أفضل من النساء اللواتي مررن في حياة هذا الكاتب المفقود الأثر، وأفراد عائلته الأقربين، يملكون معلومة عنه.
أكثر ما يميز مبوغار سار هو إطلاق العنان لفانتازيا أفكاره، والتحليق بفرنسية صاغها وفقاً لذائقته، يجمع الشهادات، يلجأ إلى الأدباء، يعود إلى الكتب، ينهل من أحداث مضت، يستوحي شخصيات نسيت، يشبّك الخيوط. صاحب «غونكور» هذه السنة، يكتب، وقد ركب أمواج المغامرة، كأنما ليحرر نفسه، وكل الأدباء الفرنكوفونيين السود الذين سبقوه إلى الأدب، ولم ينالوا ما يستحقونه، ويشرع الأبواب أمام من سيأتون بعده. يقول في الرواية عن الظلم الذي لحق ببطله: «ما يحزنه هو أنك لم تنظر إليه ككاتب، بل كظاهرة إعلامية، كزنجي استثنائي، وكساحة لمعركة آيديولوجية».
يترك مبوغار سار، لنفسه العنان، من خلال موضوعه ليذهب حيث يشاء يسافر من قارة إلى أخرى، يتنقل بين الماضي والزمن الحاضر، يرصد الظواهر، يوغل في الحديث عن العلاقة بالنساء، يسخر من أي شيء، حتى من الأدب والأدباء أنفسهم. فهو مؤمن بأن عليك «أن لا تنتظر من الكتاب الكبير شيئاً، لأنه يحكي عن كل شيء ولا يحكي عن أي شيء. لكنك تجد فيه كل الأشياء». ذاك هو الأدب بمعناه الرفيع.
رواية «الذاكرة الأكثر سرية للبشر» مهداة إلى يومبو أولوغويم الأديب الحقيقي الذي استوحى من مأساته هذه الرواية. هو كاتب موهوب من أصل مالي، كان أول أفريقي يحصل على جائزة «رونودو» عام 1968 عن روايته الأولى «واجب العنف»، لكن تماماً، كما حصل مع بطل مبوغار سار، تعرض بعد الفوز لحملة تتهمه بالسرقة الأدبية وقلة الأمانة، دفعت به في النهاية إلى الانطواء، حيث انتهت حياة هذا الكاتب بصمت، وطواه النسيان. وإن كان الفرنسيون يعيدون اكتشاف حكاية هذا الأديب الأفريقي الذي توجوه، ثم خلعوا عنه كل مصداقية قبل ما يقارب نصف قرن، فإن بلاده لم تنسه أبداً. ففي كل سنة يحتفل الماليون، مع الدخول الأدبي بكاتبهم الذي ظلمته باريس، ويمنحون أديباً يكتب بالفرنسية جائزة تحمل اسم يومبو أولوغويم، إنصافاً لذكراه.
لكن قبل يومبو أولوغويم، كان أفريقي آخر قد نال جائزة أدبية فرنسية مرموقة، فاحت من بعدها روائح عنصرية. إنه رينيه ماران الذي نال «غونكور» عام 1921، أي قبل 100 سنة بالتمام من محمد مبوغار سار، وبينهما لم تعط هذه الجائزة لأي أفريقي ساحلي أبداً. في مطلع عشرينات القرن الماضي، جاء فوز رينيه ماران بمثابة قنبلة مدوية، في الوسط الأدبي الفرنسي، ولا تزال الصحافة الفرنسية تتذكر ما تعتبره «مقالات عنصرية معيبة رافقت هذا الفوز» في زمن استعماري متعجرف بين الحربين العالميتين.
وبقليل من التمعن، في مسار بطل رواية «الذاكرة الأكثر سرية للبشر» يمكننا رؤية ملامح من مسار رينيه ماران تختلط بحكاية يومبو أولوغويم، لتبلور شخصية إليمان. فمن غير الممكن لباحث دقيق، وقارئ نهم كما مبوغار سار ومهتم بالجوائز، أن لا يكون قد راجع سجل «غونكور»، وتاريخها في إقصاء الأفارقة الفرنكوفونيين، وما رافق فوز الأفريقي الوحيد قبله من ظلم وحملات واتهامات.
على أي حال، أكثر من مفاجأة لجائزة «غونكور» هذه السنة. إضافة إلى أنها توجت أفريقياً ساحلياً لأول مرة منذ مائة عام، فإن الفائز شاب لا يتعدى عمره 31 سنة، استطاع خلال فترة قصيرة، أن يصدر أربعة كتب لقيت صدى طيباً. وبذلك يكون مبوغار سار، هو ثاني أصغر الحاصلين على «غونكور»، بعد الفرنسي بارتيك غرينفيل الذي نالها عام 1976 وهو في التاسعة والعشرين. مفاجأة أخرى أنها أعطيت لسنغالي مسلم اسمه محمد، في اللحظة التي تدور فيها منازلات حادة حول العودة إلى فرنسة الأسماء، والالتزام بلائحة محددة تحددها الدولة، فإذا بمن ينال أكبر جائزة أدبية، يحمل أكثر الأسماء المسلمة رمزية. وإذا أضفنا فوز دار نشر صغيرة مثل «فيليب راي» في مواجهة نتاجات عمالقة دور النشر الباريسية، يكون الخيار، هذه المرة مختلفاً على أكثر من صعيد.
وطريف أن تتمكن رواية موضوعها الأساس هو لعنة الجوائز الفرنسية على الأفارقة، أن تفوز بما تخشى منه، وما ينبه من الوقوع فيه صاحبها. إذ نقرأ في رواية مبوغار سار «احذروا أيها الشباب من الجوائز». هكذا يمارس كاتبنا، لعبة الرواية داخل الرواية، ثم جاءت لجنة جائزة «غونكور» لتذهب معه في لعبته الأدبية إلى منتهاها. وها هو يفوز كما حدث لبطله في روايته، ويستضاف على الشاشات، ويسأل إن كان يخشى أن يكون كتابه الأخير كما إليمان، فلا يستغرب ولا يمانع، ولا يوافق، لكنه يترك الباب مفتوحاً. فهو عاشق للكتابة والأدب، لكنه يعتقد أيضاً «أن الأديب حتى ولو تعددت مؤلفاته، له كتاب واحد، هو الأهم، الذي يمكن أن يستغنى به عما تبقى من مؤلفاته».



علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.